الفصل فيه اشياء يمكن ما تكون مريحة لبعض الأشخاص..
الفصل 45: ظل يحدق طويلا، حتى تلاشى بصره
لم يكن الألم في جسده، بل كان أعمق وأقسى. كان ألما ينهش في تلافيف مخه، وكأن ملايين الإبر تغرز في ذاكرته في آن واحد.
الحقائق التي حاول الهروب منها لسنوات، عادت الآن لتلتهم وعيه.
كل كذبة قالها، كل قطرة دم سفكها، كل لحظة هروب، تجسدت أمامه كخناجر تمزق روحه.
وفجأة، انشق الضباب الأسود أمامه.
ظهرت "هيلين". أمه.
لكنها لم تكن الأم التي يعرفها.
لم تكن تلك المرأة الحنونة التي احتضنته قبل أيام.
كان وجها خارجا من أسوأ كوابيس الجحيم.
الدماء القانية تغطي ملامحها بالكامل، تتدفق من عينيها وفمها وأذنيها.
رأسها.. يا لهول المنظر.. كان مهشما، مكسورا كإناء فخاري، وشظايا جمجمتها تطفو حولها في الهواء في مشهد سريالي مرعب.
جلد وجهها مشوه، ممزق، يتدلى منه اللحم، وعيناها.. تلك العينان اللتان كانتا ينبوعا للحنان، تحولتا إلى جمرتين تشتعلان حقدا وكراهية واحتقارا.
تقدمت نحوه بخطوات متثاقلة، وصوت تكسر عظامها يسمع مع كل خطوة.
وقفت أمامه، ونظرت إليه بقرف، ثم جمعت دما أسود من فمها المشوه، وبصقت بقوة في وجهه.
شعر جيمس بالبصقة كأنها حمض حارق يذيب جلد وجهه، لكنه لم يستطع الحراك. كان مشلولا برعبه وبذنبه.
فتحت فمها الممزق، وخرج صوتها مشوها، متعددا، وكأن ألف شيطان يتحدثون بصوتها:
"هل أنت الذي حملته في أحشائي تسعة أشهر؟ هل أنت قطعة اللحم التي تغذت من دمي؟ أنا التي حميتك بجسدي من غضب أبيك.. كنت درعا لك لكي لا يصيبك خدش، ربيتك بدموعي وسهري لتصبح رجلا.. والآن؟ انظر إليك!"
اقترب وجهها المرعب من وجهه أكثر، ورائحة الموت تفوح منها وتخنق أنفاسه:
"هربت.. هربت وتركتني للموت كالكلب. تركت أختك الصغيرة بلا سند في عالم موحش. أي نوع من الرجال أنت؟ جبان.. خائف.. رعديد. لم تستطع حتى منحي دفنا لائقا، تركتني أتعفن في الانتظار بينما أنت تبني عروشا من ورق."
صرخت بوجهه، وتطايرت قطرات الدم عليه:
"أبوك.. ذلك الرجل الذي كنت تظنه قاسيا.. هو أشرف منك! هو أرجل منك! كان سيسترني، كان سيكرم شيبتي، كان سيفعل أشياء أجمل منك ألف مرة. أما أنت؟ أنت لست ابني.. أنت مسخ."
بدأ العالم يدور بجيمس بسرعة جنونية، الغثيان يعتصر معدته، وكلماتها تخترق قلبه كالرصاص:
"إياك.. إياك أن تناديني بأمي بعد اليوم. أنا أتبرأ منك في الدنيا والآخرة. إذا جمعنا القدر في الجحيم.. أو في الجنة وأشك أن قدمك النجسة ستطأها لا تجرؤ على النظر في وجهي. اذهب أيها الجبان! اذهب إلى جحيمك الذي صنعته بيدك! تبا للساعة التي ولدت فيها.. تبا لرحمي الذي ضيعت نفسي وصحتي لأخرج منه هذا العار!"
تلاشى صوتها في صرخة طويلة ومرعبة، وبدأ وجهها المشوه يتفسخ ويذوب أمامه، والدماء تغرق المكان، وجيمس يصرخ بصمت، يغرق في محيط من السواد والقيح، وعقله يتمزق إلى أشلاء صغيرة غير قادر على تحمل ثقل الحقيقة، ميتا ألف مرة في اللحظة الواحدة من شدة الألم النفسي الذي لا دواء له.
لم ينته العذاب عند صراخ أمه وتشوه وجهها بل انشق قاع الجحيم عن مشهد أشد فتكا وقسوة مشهد حطم آخر ذرة عقل متبقية لديه وجعله يتمنى العدم ألف مرة.
انقشع الضباب الأسود لتظهر "ليزا" أخته الصغيرة فجأة من العدم لكنها لم تكن تلك الطفلة البريئة التي كان يطعمها بيده كانت تقف أمامه عارية تماما مجردة من ملابسها ومن براءتها ومن سترها جسدها يرتجف من البرد والذل وخلفها يقف ظل رجل ضخم قذر لا ملامح له سوى الجشع والشهوة.
نظرت ليزا إلى جيمس بعيون ميتة ذابلة وابتسامة مكسورة ومخيفة تثير القشعريرة وقالت بصوت يقطر ألما وسخرية مريرة.
"أخي أخي العزيز كنت أحبك حقا كنت بطلي ولكنني لا أستطيع أن أفعل شيئا الآن لقد تركتني للجوع والذئاب والآن هل ترى هذا الرجل لقد أعطاني عشرة دولارات فقط تخيل عشرة دولارات سأشتري بها الخبز الذي لم تجلبه لي لأنك كنت مشغولا ببناء مجدك الزائف"
أشارت بيدها المرتعشة إلى الرجل خلفها ودموع القهر تنحت خديها.
"ولكنه سيأخذ المقابل سيأخذ فرجي وشرفي وعرضك معه سيلمس جسدي الذي لم تحافظ عليه هل تنظر يا جيمس ها هو يضع يده القذرة على ثديي ها هو يبدأ في نهشي وافتراسي هاهاها انظر يا أخي انظر جيدا إلى أختك وهي تباع برخص التراب انظر كيف يتم نكاحي وانتهاكي أمام عينيك"
تعالت ضحكاتها الهستيرية والمجنونة بينما بدأ الظل خلفها يتحرك بوحشية ليمارس فاحشته على جسدها المستسلم.
كان المشهد يزداد وضوحا وبشاعة أمام عيني جيمس المشلولتين كان يرى تفاصيل الكابوس ببطء شديد يرى دموع أخته ويرى استسلامها للمصير القذر ويرى يد الغريب تعبث بعرضه.
شعر جيمس بأن روحه تتمزق وتتفتت سقط في هوة سحيقة من الظلام الدامس لكنه لم يكن ظلاما فارغا بل كان ظلاما حيا يجلده بهذه الصور يغرقه في مستنقع من القيح والذنب عاجزا عن إغلاق عينيه عاجزا عن الصراخ عاجزا عن إنقاذها محكوما عليه بمشاهدة سقوط عائلته وانتهاك شرفه مرارا وتكرارا إلى الأبد في حلقة زمنية مفرغة من العذاب النفسي الخالص.
....
في قلب مدينة تشين، حيث تختلط ضحكات البراءة بظلال الماضي الثقيلة، كان هناك طفلان، فتى وفتاة، يركضان في الحديقة الملكية.
ريان ورينا، توأمان لم يتجاوزا السادسة من العمر، يلعبان بمرح لا يعرف الهم، غير مدركين للعيون الحزينة التي تراقبهما من الخلف.
وقف ليفان هناك، شامخا في زيه الأسود الذي لم يغيره منذ سنوات، ويداه معقودتان خلف ظهره. كانت ملامحه تحمل ثقل جبل من الندم والهلع، وعيناه تعكسان ذاكرة تأبى النسيان.
"سيدي.. ست سنوات مرت.." همس ليفان لنفسه بصوت مبحوح، والريح تلاعب أطراف ردائه: "ست سنوات وجسدك لم يتحلل، لم يتغير، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة التي سقطت فيها على التلة الباردة. لكن وجهك.. وجهك هو الذي تغير، ليس نحو الراحة، بل نحو المزيد من الألم."
عادت ذاكرته إلى ذلك اليوم المشؤوم.
يوم سقوط جيمس. تذكر كيف حملوه وهم يظنون أنه فارق الحياة، وكيف صرخت مي لينغ، زوجته، بقلب يحترق ولكن بيقين غريب، مانعة إياهم من دفنه.
"ضعوه على الحجر اليشمي!" كانت تصرخ ودموعها تنهمر: "إنه لم يمت.. روحه ... فقط.. سيستيقظ عاجلا أم آجلا."
تذكر ليفان كيف نظر إلى وجه سيده في تلك اللحظة.
لم يكن وجه ميت بسلام، بل كان وجها يعتصر ألما، وكأنه يخوض معركة أبدية في جحيم لا يراه أحد غيره.
وعلى مدار السنوات الست، لم يهدأ ذلك التعبير، بل زاد حدة.
تجاعيد الألم حفرت مساراتها، وعضلات وجهه كانت تتقلص برعب صامت، كأنه يرى في غيبوبته مشاهد لا يقوى بشر على تحملها.
"ريان.. رينا.. لا تبتعدا كثيرا عني." نادى ليفان بصوت حنون، مخرجا نفسه من دوامة أفكاره السوداء.
"عمي ليفان لا تخف، سنلعب بقربك فقط." أجاب ريان بصوته الطفولي العذب، وهو يمسك بيد أخته ويجرها خلفه ضاحكا.
تسمرت عينا ليفان على الطفل الصغير. كان ريان نسخة مصغرة ومشرقة من جيمس.
نفس العيون الحادة، نفس الملامح، والأغرب من ذلك، نفس الشعر الأبيض الناصع الذي لم يملكه أحد في العائلة سواه.
كان ريان هو الصورة السعيدة التي فقدها جيمس، الصورة التي لم تتلوث بالدماء والحروب.
على الجانب الآخر من القصر، كانت الأجواء مشحونة بتوتر سياسي مكتوم.
"القديسة يونان.. لقد أخبرتك مرارا وتكرارا.. جلالته في عزلة روحية عميقة ولا يستطيع الخروج أو مقابلة أحد."
جاء صوت نليير حازما وقاطعا، وهو يقف كالسد المنيع أمام بوابة القاعة الداخلية. كان نليير، أحد القديسين الخمسة الذين استدعاهم جيمس قبل سقوطه، يحمل عبء حماية السر الأخطر في القارة.
"أريد مقابلته بسرعة يا سيد نليير.. أرجو منك أن تخبره أن هذا أمر ضروري جدا يتعلق بمستقبل المنطقة." ردت القديسة يونان بنظرات ثاقبة وجدية، تحاول اختراق دفاعات نليير.
كانت يونان تشك. بل كانت شبه متأكدة.
غياب جيمس لست سنوات بحجة "العزلة" لم يعد مقنعا.
لكن نليير كان يعلم الحقيقة المرعبة، كان يعلم أن سيده ليس في عزلة، بل هو جسد بلا روح، أو ربما روح معذبة في مكان آخر، وهو ينتظر معجزة، أملا واحدا ضئيلا لينهض ذلك الجسد المسجى.
خلف تلك البوابة الثقيلة، وفي قلب القاعة الكبرى التي يلفها صمت القبور، كان المشهد مهيبا ومحزنا.
القاعة كانت فارغة تماما من الأثاث، باردة ومظلمة إلا من ضوء خافت ينبعث من الوسط.
هناك، ترربع حجر يشمي عملاق، بلون فريد يمزج بين الأخضر الزمردي والأزرق الفيروزي، كقطعة من محيط متجمد.
وفوق هذا الحجر، رقد الجسد.
جسد جيمس الذي ازداد طولا وضخامة، ليصل إلى متر وسبعة وتسعين سنتيمترا، ممددا كتمثال لملك قديم. كان يرتدي ملابس سوداء ملكية، تبرز شحوب بشرته التي لم تلمسها الشمس لسنوات.
لكن الشيء الأكثر لفتا للنظر والرعب، كان شعره.
شعره الذي طال بشكل جنوني خلال سنوات الغيبوبة، لينساب من الحجر اليشمي ويفترش الأرض حوله كشلال. ولم يعد لونه موحدا.
كان نصف الشعر أبيض كالثلج، رمزا للزمن والهموم، والنصف الآخر تحول إلى لون أحمر قاني، كأنه صبغ بدماء كل الذين قتلهم، أو كأنه يعكس النيران التي تحرق عقله في تلك اللحظة.
كان وجهه لوحة من العذاب الصامت، عيناه مغلقتان بقوة، وفمه مشدود، وجسده الساكن فوق الحجر البارد كان يخفي داخله روحا تصرخ في وادي الظلال، تعيش الجحيم في كل ثانية تمر في العالم الحقيقي.