الفصل 46: جيمس روهان..

"لا تجبرني على استخدام القوة يا سيد نليير."

خطت القديسة يونان خطوة حازمة للأمام، وقد تبدلت ملامح وجهها الهادئة لتكشف عن غضب مكتوم، وهالة مقدسة بدأت تضغط على الهواء المحيط.

"تجبرينني أنا؟!"

رد نليير بصوت هادئ ولكنه يحمل نبرة تهديد مرعبة، وعيناه تلمعان ببريق قاتل:

"أرجو أن تزيلي الغرور من كلماتك يا سيدتي، وإلا سيتم تهشيم رأسك وفصله عن جسدك قبل أن يرتد إليك طرفك."

توقفت القديسة مكانها، ونظرت إليه بذهول ممزوج بالشفقة على جهله بالمصير المحتوم.

"أنت حقا لا تدرك ما يحدث خارج هذه الجدران، أليس كذلك؟" قالت بنبرة حادة:

"الاتحاد القاري قد علم بكل شيء. سر مجزرة عائلتكم انكشف، وقرار محو عائلة روهان من الوجود قد صدر بالفعل. أنا هنا في محاولة أخيرة لاستشارة سيدك، لعلنا نجد مخرجا قبل الطوفان. هل تعي معنى الاتحاد القاري يا نليير؟"

تقدمت خطوة أخرى، وبدأت تسرد الحقائق كمن يقرأ حكما بالإعدام:

"إنه اتحاد العالم بأسره. جميع القارات، الإمبراطوريات العظمى، الأراضي المقدسة، والممالك القديمة. الجميع حشدوا قواتهم لهدف واحد: إبادة عدو البشرية. لولا شكوك الاتحاد بأن سيدك قد يكون سيدا سماويا، لما انتظروا ست سنوات مترددين. لكن الصبر نفد. هل تعلم كم من الجيوش والكيانات العظمى تتربص الآن خارج حدود قارة شينيا؟ إنهم كالجراد المنتشر."

اقتربت منه وصرخت في وجهه، محاولة اختراق جدار بروده:

"أنت لا تستوعب الرقم.. مليارات البشر! قتل مليارات الأرواح ليس مجرد حرب، ولا حتى مجزرة. إنه فناء. إنه شيء لم يجرؤ حتى الشياطين الغزاة أو أسياد العوالم المظلمة على فعله في تاريخنا. العالم يغلي يا نليير، وهم يطلبون الدم."

صمت نليير ظاهريا، لكن عقله كان يعمل بسرعة البرق. كان يدرك أن الوضع كارثي.

نعم، لديهم خمسة قديسين وأكثر من خمسة وعشرين إمبراطورا تحت إمرتهم، قوة لا يستهان بها. لكن مقارنة بالعالم؟ أرض فليليا المقدسة وحدها تمتلك سبعة قديسين وثلاثين إمبراطورا، وهذا غيض من فيض.

إذا طوقهم الاتحاد القاري، فسيكون مصيرهم السحق في لحظات.

رأت يونان التردد يمر في عينيه، فظنت أنها انتصرت في النقاش. تحركت بثقة نحو البوابة الداخلية للدخول.

ولكن فجأة..

تمزق الفضاء أمامها.

سووش.

ظهر أربعة أشخاص دفعة واحدة، وقفوا كالجبال الراسية بجانب نليير.

كانت أجسادهم تشع بقدسية مهيبة وقوة ضغطت على القاعة حتى كادت جدرانها تتصدع. اكتمل عقد القديسين الخمسة التابعين لجيمس.

"ماذا تظنون أنكم فاعلون؟ ألا تدركون الموقف الذي وضعتم أنفسكم فيه؟" صرخت يونان وهي تتراجع خطوة للوراء أمام هذا الضغط الهائل.

تقدم أحد القديسين الأربعة، ووضع يده على مقبض سيفه وقال ببرود جليدي:

"تراجعي إلى الوراء حالا، وإلا سيتم..."

لم يكد ينهي جملته، حتى اهتز الفضاء مرة أخرى، ولكن هذه المرة من جهة القديسة.

بوم بوم بوم بوم.

ظهرت خمس هالات مرعبة، وتجسد خمسة قديسين من الأرض المقدسة، وقف كل واحد منهم أمام أحد حراس جيمس، معادلا له في القوة والهيبة، مشكلين جدار حماية حول القديسة يونان.

نظر أحدهم، وهو شيخ ذو لحية بيضاء وعينين تقدحان شررا، إلى حارس جيمس وقال بصوت جهوري:

"أحسن ألفاظك مع القديسة يا هذا.. وإلا اقتلعنا لسانك قبل أن نحرق قصركم."

...

في قلب القاعة الداخلية، حيث يتوقف الزمن وتموت القوانين، كان جسد جيمس يطفو في فراغ أسود سرمدي.

جسديا، كان يبدو ساكنا، لكن عينيه.. تلك العينين لم تعودا ملكا لبشر، ولا حتى لسيد سماوي. لقد ابتلع السواد بياضهما بالكامل، وتمدد البؤبؤ ليلتهم القزحية، حتى أصبحت عيناه ثقبين أسودين يمتصان الضوء والروح، محاطتين برموش سوداء كإبر الظلام، تشعان بطاقة قاتمة تتجاوز مفاهيم الشر المعروفة.

كان ينظر إلى الفراغ، ولكن في ذلك العدم، كان يرى كل شيء.

لم يكن ينظر إلى الخارج، بل كان يحدق في انعكاس خرابه الداخلي.

كان ينظر إلى عينيه من الداخل، يرى عقله وهو يتآكل، وجسمه وهو يذوي تحت وطأة الخطايا.

كانت نظرته تخترق الحجب لتفصل بين الحقيقة والكذب، بين الوهم والواقع، لكنه لم يجد فرقا.

ففي هذا الجحيم، أصبح الوهم حقيقة تؤلمه، والحقيقة وهما يهرب منه.

كان يرى الألم والحزن ككيانات حية تنهش لحمه، ويرى الخوف والهلع كأنهار باردة تغرقه.

حاول جيمس.. حاول بكل ما أوتي من قوة روحية أن يتقبل الحقيقة، أن يجد مكانا في عقله يستوعب هذا القدر من العذاب، لكن عقله كان ككأس زجاجي يحاول احتواء محيط هائج؛ لم يتحمل الضغط، فانفجر.

تناثرت شظايا إدراكه، ولم يعد يستوعب، بل أصبح "يشعر" فقط.

يشعر باحتراق الخلايا العصبية وهي تعلن استسلامها.

طوال تلك السنوات، حاول أن يغلق أذنيه. بنى جدرانا سميكة من الصمت لكي لا يسمع صوت أمه، لكي يحجب صدى لعناتها وهي تتبرأ منه، وهي تبصق على وجوده.

لكن الصوت كان ينبع من داخله، يتردد في جمجمته بوضوح أشد من الرعد، يمزقه في كل ثانية.

حاول أن يغلق عينيه، أن يخيط جفونه بالإبر لكي لا يرى.

أراد الهروب بروحه، بجسده، بأي ذرة من كيانه لكي لا يشاهد أخته.

ذلك المشهد الذي يتكرر بلا توقف.. مشهد انتهاك براءتها، واغتصاب شرفه أمام عينيه المشلولتين.

كان يراها تصرخ، ويراه يلمسها، وكان عاجزا..

عجزا حول دمه إلى سم.

حاول طرد جيوش القتلى من ذاكرته، وجوه الآلاف الذين أبادهم، ملامح زوجاته اللواتي خذلهن. حاول أن يمحو الذاكرة، أن يصاب بالخرف، أن ينسى من هو.

ولكنه كان محكوما عليه بالبقاء "واعيا".

كأنه أرغم بقوة كونية سادية على أن يكون الشاهد الوحيد في مسرح جريمة لا تنتهي.

أرغم على المشاهدة والسماع بصمت مطبق لسنوات. أرغم على التفكير فيهم حين أراد التفكير في العدم.

لسنوات، تجرع الألم النفسي كأنه ماء، وتنفس الألم العقلي كأنه هواء.

ولهذا تحولت عيناه إلى السواد الكامل. لم يعد هناك مكان للنور ليدخل، ولم يعد هناك مكان للدمع ليخرج.

السواد في عينيه لم يكن لونا، بل كان إعلانا عن موت القدرة على التفسير.

عقله لم يعد يحاول فهم الألم أو التعامل معه، بل أصبح هو والألم شيئا واحدا.

لقد أصبح جيمس تجسيدا لليأس الذي لا قاع له.

فجأة وبدون سابق إنذار، لم تعد عينا جيمس قادرتين على حبس الجحيم المستعر داخلهما.

وصل الضغط إلى ذروته، فانفجرتا. لم يكن انفجارا مجازيا، بل كان تهتكا عضويا مرعبا ومقززا.

تمزقت الأنسجة، واندفع من محجريه سيل جارف من الدم الأسود الحالك، كثيف ولزج كأنه قطران مغلي ينسكب من كأس مكسور، ليغطي وجهه الشاحب بقناع من الظلام السائل.

رفع جيمس يديه المرتعشتين ببطء شديد، وغمس أصابعه في تجويف عينيه. لم يجد سوى الفراغ والرطوبة والدم الدافئ الذي لوث يديه بالكامل.

انحنى جسده في الفراغ، وتقلصت معدته بشنج عنيف، وبدأ يتقيأ. لم يتقيأ طعاما، بل تقيأ سوادا خالصا، تقيأ خلاصة روحه المتعفنة وذكرياته المسمومة، شلالات من القيح الأسود تخرج من جوفه لتلوث العدم من حوله.

وفي ذروة هذا العذاب، استسلم الجسد لقهر الروح.

قلبه، تلك المضخة التي تحملت أوزان الجبال من الألم والقهر لسنوات، لم تعد تحتمل نبضة واحدة إضافية.

تمددت العضلة حتى تمزقت، وانفجر القلب داخل قفصه الصدري بصوت مكتوم ومرعب. تحول صدره من الداخل إلى مستنقع من الدماء المغلية والأنسجة المفتتة، وتوقفت الحياة فجأة.

تلاه العقل. تلك الكتلة الرمادية التي أرغمت على مشاهدة اغتصاب العرض ولعنات الأم، تحولت في لحظة واحدة إلى عجينة دموية.

انفجرت الخلايا العصبية، وتهتكت الروابط الدماغية، وتحول الدماغ إلى فتات سابح في الجمجمة، معلنا عجزه التام عن التمييز بين الوهم والحقيقة، فالألم كان الحقيقة الوحيدة المتبقية.

سقط جسد جيمس متهالكا يطفو وسط الفراغ السرمدي، لوحة فنية للبشاعة المطلقة.

الدم الأسود يتدفق من محجري عينيه الفارغين كأنه دموع الشيطان، والدم الأحمر يغلي داخل رأسه وجسده المتهتكين.

ولكن.. وسط هذه الملحمة من الدمار الجسدي، تحركت شفتاه.

ارتسمت على وجهه الملطخ بالدماء ابتسامة. لم تكن ابتسامة بشرية، ولم تكن تحمل ذرة من السلام.

كانت تكشيرة وحشية، واسعة ومخيفة، ابتسامة شيطان تحرر أخيرا من سلاسل الضمير والأخلاق.

كانت ابتسامة تعلن للعالم أن السجين قد مات، وأن الجلاد قد ولد. ابتسامة تعد بالدمار الشامل وسفك الدماء بلا رحمة.

ظن أن النهاية قد حانت، وأن العدم سيبتلعه، لكن الفراغ الأسود لم يتلاش. بل تموج وتكاثف، ومن قلب ذلك الظلام الدامس، ومن بين أشلاء عقله المتناثرة، ظهر شخص.

شخص آخر، بملامح مألوفة ولكن بهالة غريبة، وقف ينظر إلى الجثة المبتسمة ببرود.

"جيمس روهان..همم"

2025/12/19 · 71 مشاهدة · 1223 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025