الفصل47: الكيان المتعالي

اختفى كل شيء

تلاشى الفراغ المظلم، وفتح جيمس عينيه ببطء ليحدق في سقف القاعة الصخرية البارد.

لم تكن تلك العيون التي انغلقت قبل ست سنوات.

كانت عيونا ورثت ظلمة الفراغ السرمدي؛ بؤبؤ متسع ابتلع البياض، وسواد حالك يشع بطاقة مظلمة ثقيلة كأنها دخان كثيف، تحيط بها رموش سوداء حادة كالإبر.

نهض جيمس بجسده الضخم وجلس فوق الحجر اليشمي البارد.

انسدل شعره الطويل جدا، الذي اكتسى نصفه بياض الثلج ونصفه الآخر حمرة الدم، ليغطي كتفيه وظهره ويزحف على الأرض حوله.

فتح يديه الكبيرتين ونظر إليهما، يقلبهما ببطء وكأنه يتعرف على أداة جديدة.

"أنا..؟"

همس بصوت أجش، ثم وضع رأسه بين كفيه. لم يبكِ، ولم يصرخ.

بدلا من ذلك، ارتسمت على شفتيه ابتسامة مرعبة، غامضة، وباردة، ابتسامة من رأى الجحيم وقرر أن يحكمه.

[لقد استيقظ..]

"اصمت"

قاطع جيمس صوت النظام ببرودة جليدية، نبرة آمرة لا تقبل النقاش. وبالفعل، صمت النظام فورا واختفى الصوت من رأسه.

بدأ جيمس يتحسس جسده ببطء، يتلمس العضلات والجلد الشاحب، ثم رفع رأسه لينظر إلى سقف القاعة وكأنه ينظر للسماء.

"وأخيرا.. وأخيرا انتهيت." قال وهو يضحك ضحكة خافتة، بطيئة، ومكسورة.

"أيها النظام.. أريد شيئا ينقل أختي إلى هنا.. لا تقل لا أبدا."

جاء صوته هذه المرة مختلفا، متقطعا ومشوشا، وكأنه اتصال لاسلكي يخترقه الضجيج، صوت "جيمس" القديم يحاول اختراق قشرة "جيمس" الصلبة.

تموج الهواء أمامه، وظهر كيان غريب. شخص على هيئة بشر، ولكنه مشكل بالكامل من طاقة زرقاء وذهبية متموجة.

كان تجسيد النظام.

نظر الكيان الطاقي إلى جيمس طويلا. حدق في تلك العينين السوداوين، ولأول مرة منذ وجوده، شعر النظام، ذلك الكيان المتعالي، بالرعب.

"ما الذي رأيته يا جيمس في ذلك البعد المظلم؟" سأل النظام في نفسه.

"ست سنوات.. يبدو لي أنك تغيرت إلى شخص آخر تماما. وليس تغيرا للأفضل.. يبدو أنه للأسوأ بكثير."

تفرس النظام في ملامح مضيفه بمزيج من الحزن، الشفقة، والصدمة. لقد انكسر شيء في داخل هذا الشاب لا يمكن إصلاحه.

"جيمس.." قال النظام بجدية.

"سأجلب لك أختك، ولكن إذا كانت ميتة فلن أستطيع إحياءها. أقدر على جلبها لهنا فقط كجسد وروح حية، ولكن.."

"هيا تكلم أيها النظام.. قل ما هي المشكلة." قال جيمس ببرود وهو ينظر إلى هذا الكيان الشبحي دون أي انبهار.

"المشكلة هي أن هناك نسبة عالية جدا أن تتدمر روحها، وقد لا يستوعب جسدها الفاني هذا الانتقال عبر الأبعاد. وأيضا، سيحتاج هذا الأمر مدة زمنية طويلة لتجهيز المسار. زائد يا جيمس.."

توقف النظام لحظة، ونظر بعمق إلى جيمس:

"..بنسبة كبيرة جدا، عالمك الأصلي يمكن أنه لم يعد موجودا، أو اختفى من هذا الكون بالكامل. الروابط الزمنية تآكلت."

لم يرف جفن لجيمس. كانت عيناه تحملان ذلك السواد المرعب، لكن في عمق العمق، كانت هناك ذرة، مجرد شظية صغيرة، تريد الهرب والعودة للمنزل.

"حاول أيها النظام.. المهم حاول. أنت لا تعرف، يمكن أن تنجح." قال جيمس وهو يبتسم تلك الابتسامة المريرة التي تقشعر لها الأبدان.

وفجأة.. اختفت الابتسامة.

شعر بطاقة هائلة، طاقة أحد عشر شخصا أقوياء للغاية تتصادم خارج بوابته.

في الخارج، كان الوضع على شفا الانفجار.

"سأقولها لآخر مرة.. تراجعوا من هنا أو سيتم دفنكم في هذا المكان!"

صرخ نليير بصوت قوي هز القاعة الخارجية، وهو ينظر إلى القديسة يونان ومن معها، مطلقا هالة قوية للغاية خرجت من جسده كتيار كهربائي أزرق متطاير.

"لماذا تلقين لهم بالا أيتها القديسة؟ اتركي الاتحاد يمحيهم من الوجود! ألم تري كيف يتعاملون معنا؟ هذا يغضبني جدا."

تحدث شخص ذو وجه جميل يحمل في يده نايا فضيا، كان القديس "يون"، قديس القمة الرابعة في أرض فليليا المقدسة، وهو في المستوى الثاني من مرحلة القديس.

ما إن لاحظ القديسون الأربعة الواقفون بجانب نليير أن يون أطلق هالته القتالية، حتى أطلقوا هالاتهم بالكامل وتجهزوا للالتحام.

ولكن فجأة.. جثمت على صدورهم طاقة مرعبة.

كانت القديسة يونان قد نفد صبرها. أطلقت العنان لقوتها الحقيقية. هالة ساحقة من المستوى الخامس من مرحلة القديس.

لم تكن مجرد قديسة، كانت حاكمة القمة الأولى في أرض فليليا المقدسة، وواحدة من أقوى الكيانات في العالم.

بدأ تيار قوي من الطاقة الخضراء يخرج من أطراف عنقها، ويرفع شعرها للأعلى في مشهد مهيب، وعيناها تشتعلان بغضب شديد.

ليس غضبا منهم كأشخاص، بل من جهلهم الذي لا يدرك قوة "الاتحاد القاري" الذي سيسحقهم.

نظر نليير والبقية إليها بصمت وثقل. كانوا جميعا في المستوى الثاني تقريبا، باستثناء نليير الذي كان في المستوى الثالث.

الفرق في المستويات في مرحلة القديس يعني الفرق بين السماء والأرض.

رغم الضغط الساحق، صر نليير على أسنانه، وبدأ يشق الهالة الخضراء بصعوبة وهو يتقدم نحوها ببطء، رافضا الخضوع:

"تبا.. لن أسمح لك أن تفعلي ما تشائين في ممتلكات عائلتي!"

كانوا على بعد ثانية واحدة من اشتباك مميت.

"ما كل هذه الضجة؟"

جاء صوت بارد، هادئ، وحزين بشكل مفجع، ليقطع حبال الطاقة المتوترة في القاعة.

التفت الجميع بذهول نحو المصدر.

كانت البوابة الضخمة للقاعة الداخلية قد فتحت.

وواقفا هناك، كان جيمس.

بقامته الفارعة، وملابسه السوداء، وشعره الطويل بلونيه الأحمر والأبيض الذي ينسدل خلفه ليسمح الأرض، وعينيه السوداوين اللتين امتصتا كل ضوء في المكان.

"جلالته..."

خرج الصوت من حنجرة نليير مهزوزا، وهو يحدق في تلك العينين اللتين ابتلعتا الضوء.

شعر وكأن روحه تسحب قسرا من جسده لتغرق في بحر من الظلام الأبدي. لم يستطع المقاومة، لم يستطع الوقوف أمام هذا الكيان.

تك.

ارتطمت ركبتا نليير، القديس ذو المستوى الثالث، بالأرض الصلبة بقوة خضوع مطلق.

انحنى برأسه حتى كاد يلامس البلاط البارد، مرتعدا ليس من البرد، بل من الهالة التي لا توصف.

ما إن ركع القائد، حتى تبعه البقية كأنهم قطع دومينو سقطت بفعل ريح عاتية.

"انجيلو يحيي جلالته." قال القديس ذو البنية الضخمة وهو يركع بسرعة، مثبتا نظره على حذاء جيمس، خائفا من رفع عينيه.

"لويس يحيي جلالته." تمتم القديس الثالث بصوت خافت، جاثيا على ركبتيه.

"كريس يحيي جلالته."

"لوان يحيي جلالته."

في لحظات، كان القديسين الخمسة يركعون بخضوع تام، مشكلين نصف دائرة حول سيدهم العائد من الموت.

وقفت القديسة يونان متسمرة في مكانها، وعيناها متسعتان بذهول.

هالتها القوية من المستوى الخامس، التي كانت تضغط على القاعة وتخنق الأنفاس قبل ثوان، تلاشت فجأة وكأنها لم تكن.

لم يقم جيمس بصدها، ولم يطلق هالة مضادة. ببساطة، وجوده ابتلع هالتها. كان كالثقب الأسود الذي يمتص كل طاقة تقترب منه.

"مستحيل.." همست في سرها.

حاولت، بدافع الغريزة والفضول القاتل، أن تفهم. رفعت نظرها وركزت بصرها الحاد، المدعم بتقنيات روحية عالية المستوى، مباشرة في عينيه. أرادت أن تسبر غور هذا الشخص، أن تعرف مستواه، أن ترى روحه.

كان ذلك أكبر خطأ ارتكبته في حياتها.

ما إن التقت عيناها بتلك العينين السوداوين، حتى شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها وتوقف نبضه.

لم تر مستوى طاقة، ولم تر روحا بشرية.

رأت جحيما. رأت محيطا من الألم السائل، رأت ملايين الصرخات الصامتة، رأت فراغا سرمديا لا نهاية له.

"اااااااه!"

صرخت يونان صرخة مكتومة في أعماق عقلها، ووضعت يدها بسرعة على عينيها، مترنحة للوراء وكأنها تلقت ضربة مطرقة على رأسها.

شعرت بحرارة حارقة في مقلتيها، وكأنها نظرت إلى الشمس مباشرة، لكنها كانت شمسا سوداء باردة.

أدركت في رعب أن ثانية واحدة إضافية من التركيز كانت ستفقدها بصرها وعقلها للأبد.

هذا ليس بشرا عاديا. هذا وعاء للكوارث.

وسط هذا المشهد من الركوع والرعب، بقي جيمس واقفا، وشعره الطويل ينسدل حوله، غير مبال بتأثيره عليهم.

"انهضوا.. ماذا يحدث هنا؟"

قالها بصوت هادئ، بارد، وخال من أي فضول حقيقي، وكأنه يسأل عن حالة الطقس، مشيرا بيده الشاحبة لهم بالنهوض.

نهض نليير بصعوبة، ووجهه يتصبب عرقا باردا، وتقدم خطوة صغيرة وهو لا يزال يحني رأسه احتراما وخوفا:

"جلالتك.. القديسة يونان من أرض فليليا المقدسة جاءت تحمل إنذارا. الاتحاد القاري علم بأمر.. بأمر المجزرة القديمة. لقد قرروا إبادة عائلة روهان ومحو القارة الجنوبية بأكملها. الجيوش تحتشد الآن على الحدود، والأباطرة والقديسون من كل القارات قادمون لقتلك."

صمت نليير، منتظرا غضب جيمس، أو أوامره بالتجهيز للحرب، أو حتى خوفه.

لكن جيمس لم يرمش.

نظر إلى نليير، ثم حول نظره ببطء شديد نحو القديسة يونان التي كانت لا تزال تحاول تنظيم أنفاسها.

"الاتحاد القاري.. إبادة.. جيوش.."

تمتم جيمس بالكلمات وكأنه يتذوق طعمها، ثم ارتسمت على وجهه تلك الابتسامة المكسورة والمرعبة مرة أخرى.

مقارنة بما رآه في ذلك الفراغ، مقارنة بصوت أمه وهي تلعنه، وبمنظر أخته وهي تنتهك، وبانفجار عقله وقلبه آلاف المرات.. بدا تهديد "الموت" و"الحرب" نكتة سخيفة.

ماذا سيفعلون به؟ يقتلونه؟ لقد مات بالفعل ألف مرة. يعذبونه؟ أي عذاب يضاهي ما يحمله في رأسه؟

"هل هذا كل شيء؟"

سأل جيمس ببرود جعل القديسة يونان تشعر بقشعريرة تسري في عمودها الفقري.

"اعتقدت أن شيئا مهما قد حدث لتزعجوا صمتي."

مشى جيمس ببطء، متجاوزا نليير، ومتجاوزا القديسة يونان وكأنها غير موجودة، وجر ثوبه الأسود وشعره الطويل خلفه، متجها نحو مخرج القاعة.

"فليأتوا.." قال بصوت منخفض سمعه الجميع بوضوح في الصمت المطبق: "فليأتوا جميعا.. أنا جائع لمزيد من السواد."

****

ابتداء من اليوم، سيتم نشر فصلين يوميا بشكل ثابت إن شاء الله.

فصول اليوم انتهت.

وهناك فصول إضافية وستكون حسب عدد التعليقات على الفصل.

فكلما تجاوز عدد التعليقات عشرة سيتم نشر فصل إضافي.

على سبيل المثال: إذا حصل هذا الفصل على عشرة تعليقات ينشر فصل آخر وإذا وصل إلى عشرين تعليقا ينشر فصلان وإذا بلغ ثلاثين تعليقا تنشر ثلاثة فصول وهكذا.

الحد الأقصى للفصول الإضافية هو خمسة فصول.

2025/12/19 · 65 مشاهدة · 1415 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025