48 - يونان... رغم كل هذا أنت جميلة جدا.

الفصل 48: يونان... رغم كل هذا أنت جميلة جدا.

"فليأتوا.." قال بصوت منخفض سمعه الجميع بوضوح في الصمت المطبق: "فليأتوا جميعا.. أنا جائع لمزيد من السواد."

كان القديس يون يقف متجمدا في مكانه، يضغط بأصابعه المرتجفة على نايه الفضي، وعيناه مسمرتان على ظهر جيمس الذي كان يهم بالمغادرة.

قبل لحظات، رأى يون تلك العينين. لم تكن عيون بشر، ولا حتى عيون شيطان مألوف.

صحيح أن عالمهم يزخر بتقنيات بصرية تغير لون القزحية لأغراض القتال أو السحر، لكن ما رآه يون كان مختلفا جذريا.

كانت عينين مصقولتين.

نعم، مصقولتين لسنوات طويلة في جحيم من الألم الخالص، والخوف، والهلع، والبكاء الصامت، حتى احترقت ألوان الحياة فيهما ولم يبق سوى الرماد والسواد.

ارتعش جسد يون من أعماق روحه. تلك النظرة كانت تنضح بكآبة شرسة وعنيفة، كآبة ثقيلة لدرجة أنها قد تقتل بشريا عاديا بمجرد النظر إليها.

كانت عيون شخص انتهت حياته ألف مرة، ولكنه رفض النهاية. شخص استسلم لشيء مظلم داخله، استسلم لشيطان اليأس، والآن، تحرر ذلك الشيطان من سلاسله ليطل على العالم.

لم يكن يون الوحيد؛ ساد هذا الشعور المرعب جميع من في القاعة.

"بالمناسبة.."

نطق جيمس بهذه الكلمة بصوت خافت، فتجمد الجميع وركزوا حواسهم عليه.

"القديسة يونان.. أنت جميلة.. جميلة للغاية."

في اللحظة التي أنهى فيها جملته، حدث المستحيل. لم ير أحد حركة، لم يشعر أحد بتموج في الطاقة، ولم يسمع أحد صوت خطوات.

اختفى جيمس من مكانه عند البوابة، وتجسد فجأة أمام القديسة يونان مباشرة، وكأنه كان واقفا هناك منذ الأزل.

مد يده الشاحبة ، وأمسك ذقنها برفق مرعب، رافعا وجهها إليه.

بدأت أصابعه الباردة والناعمة كالحرير تتحسس وجنتيها ببطء، وعيناه السوداوان تغوصان في عينيها المتسعتين بالرعب.

"ماذا.."

شهقت يونان شهقة طويلة ومكتومة، شلّتها الصدمة والخوف. كانت رائحته، لمسته الرطبة الباردة، وعيناه الميتتان، تتناقض تماما مع كلمات الغزل التي ينطقها.

"أنت كريستال يا يونان.. يا له من قوام رشيق.. يا له من خصر جميل ومتناسق.. آية في الجمال.. أنت ملاك يا يونان."

قالها وهو يمرر ظهر يده على خدها الناعم، بينما شعره الطويل يلامس الأرض حولهما كعباءة من الدم والثلج.

أحست يونان برعب يجمد عروقها، ممزوجا بإثارة غريبة ومحرمة نابعة من الخطر المطلق الذي يحيط بها.

علمت يقينا أن هذا الغزل ليس حبا، بل هو تقييم لشيء جميل قد يتم تحطيمه في أي لحظة.

فجأة، تغيرت نبرة صوته من الإعجاب الهادئ إلى تحذير جليدي، دون أن يرفع يده عن وجهها:

"ولكن.. كان كل هذا الجمال سيكون في مهب الريح لو أنك دخلت تلك القاعة بالقوة.. لو أنك هاجمت أحدا من عائلتي أو خدشت جدارا في قصري."

قرب وجهه من وجهها ببطء شديد، حتى اختلطت أنفاسه الباردة بأنفاسها المرتعشة:

"أتتعرفين ماذا كنت سأفعل؟.. كنت سأقطع هذه القارة إلى أشلاء صغيرة. كنت سأدمر الأرض المقدسة، وأمحي أي شخص يعرفك، وأي شيء كان أو سيكون. كانت قارة شينيا ستصبح مقبرة جماعية لا يسكنها إلا عائلة روهان.. ولكن، مع كل هذا، أنت جميلة."

ابتسم جيمس في نهاية كلامه، ابتسامة لا تصل إلى عينيه. كانت يونان ترتعد، ركبتاها تصطكان ببعضهما، وروحها تهتز. أدركت أنه لا يطلق تهديدات فارغة.

هذا الكيان أمامها ليس مريضا نفسيا عاديا، ولا مجنونا. إنه شيء خارج عن تصنيف البشر، شيء لا يملك في قاموسه معنى للرحمة إلا تجاه "ملكيته" الخاصة.

خلفهم، كان قديسو الأرض المقدسة ينظرون بذهول تام، وقد سقطت فكوكهم من الصدمة.

"كيف تلاشى من مكانه؟.. إنه لم يستعمل أي طاقة روحية.. كيف وصل إليها؟" همس "اشيون"، قديس القمة الثانية، والعرق يتصبب من جبينه: "هذا ليس بشريا.. حتى لو تحركت القديسة يونان بكامل سرعتها لرأيت طيفا على الأقل.. لكن هو؟ هو كأنه حذف المسافة من الوجود.. يا إلهي."

كان يون والبقية يتبادلون نظرات الرعب. لم يفهموا طبيعة قوته، لكنهم أدركوا حقيقة واحدة ناصعة: لو أنهم هاجموا القصر قبل لحظات، لتمت تصفيتهم جميعا كالدجاج قبل أن يدركوا أنهم ماتوا.

تراجعت يونان خطوة واحدة للوراء بصعوبة، وأبعدت يد جيمس عن وجهها بحركة مرتجفة.

نظرت في تلك العينين اللتين ابتلعتا الكون، وسأل لسانها سؤالا أملاه عقلها المصدوم:

"من أنت؟... هذه ليست عيناك، أليس كذلك؟"

مال جيمس برأسه قليلا، وابتسم تلك الابتسامة الغامضة والمكسورة:

"إنها جميلة.. أليس كذلك؟"

.....

"لم أقل لكي أن تنتبهي لنفسك وأنت تلعبين؟"

كانت نبرة مي لينغ تحمل مزيجا من الحزم والخوف وهي تنفض الغبار عن ركبتي ابنتها الصغيرة رينا، وتمسح يديها المتسختين بالتراب.

"أنا آسفة يا أمي.. ولكن كنت أركض خلف ريان بسرعة وسقطت.. أنا آسفة." قالت رينا بصوت خافت وهي تطأطأ رأسها وتنظر إلى الأرض بخجل.

"أجل يا أمي، لا تعاقبيها هي، عاقبيني أنا.. أنا من كنت أركض." تقدم ريان بشجاعة ووقف أمام أخته كدرع بشري صغير، ناظرا إلى أمه بعينين تحملان نفس نظرة أبيه الحادة.

تنهدت مي لينغ، وتلاشت قسوتها المصطنعة فورا.

"أيها الحمقى.. لم أقل إنني سأعاقبكم." جثت على ركبتيها وسحبت الاثنين إلى حضنها بقوة: "قلت فقط أن تحترسوا.. فأنتم ذكراه.. أنتم كل ما تبقى لي منه."

كانت تعانقهما وكأنها تخشى أن يختفيا كما اختفى هو. كانا يشبهان جيمس لدرجة مؤلمة، وهذا الشبه كان عزاءها الوحيد وعذابها الأكبر في آن واحد. كانت تزور القاعة المظلمة يوميا، تجلس عند قدمي جسده المسجى، وتبكي حتى تجف دموعها، وكان ليفان يضطر أحيانا لإخراجها بالقوة قبل أن تنهار روحها تماما.

"ذكراه... هل تقصدين أبي يا أمي؟" سألت رينا بفضول وهي ترفع رأسها الصغير من حضن أمها.

"أجل يا ابنتي.. أبوك جيمس." قالت وهي تمسح على شعر ريان الأبيض الناعم، وشعر رينا الأسود.

كان ليفان يقف على مسافة قريبة، يراقب المشهد بابتسامة حزينة. هؤلاء الثلاثة هم الرابط الوحيد الذي يربط كل شيء، هم الأشخاص الأكثر قربا لقلب سيده الغائب.

"أوه.. إنها مي لينغ.. وليفان.. وصغاري."

جاء الصوت باردا، هادئا، ومألوفا لدرجة الرعب من على بعد أمتار قليلة.

تجمد ليفان في مكانه. تجمدت مي لينغ.

التفتا نحو الصوت بسرعة وعنف كادت أعناقهم تكسر من شدتها. اتسعت عيونهم إلى أقصى حد، غير مصدقين ما تراه.

كان جيمس يقف هناك.

لكن مظهره قد تغير. شعره الطويل الذي كان يمسح الأرض قبل قليل قد اختفى، لقد قصه بالكامل، ليصبح قصيرا ولكنه كثيف وحريري، يختلط فيه اللون الأحمر القاني بالأبيض الناصع في تموجات غريبة.

كان طويل القامة، مهيبا، يرتدي ملابسه السوداء.

ولكن الشيء الذي لم يتغير، الشيء الذي جمد الدم في عروق ليفان، كان تلك العينين.

عينان سوداوان بالكامل، بلا بياض، بلا ضوء، كثقبين يؤديان إلى العدم.

"جيمس..."

همست مي لينغ، ويدها ترتفع لتغطي فمها بقوة لتكتم صرخة الفرح والألم، وبدأت الدموع تنهمر كشلالات حارقة من عينيها، تحجب رؤيتها ولكنها لا تحجب إحساسها بوجوده.

لم تنتظر ثانية أخرى.

نسيت الأطفال، نسيت ليفان، نسيت العالم.

ركضت نحوه بكل قوتها، ورمت نفسها عليه. اصطدم جسدها بصدره الصلب، ودفنت رأسها فيه، ولفّت ذراعيها حول ظهره تعصره بقوة يائسة.

كان بكاؤها وارتعاش جسدها يهز المكان، وكأنها تفرغ حزن ست سنوات في لحظة واحدة.

نظر إليها جيمس ببرود، وعيناه السوداوان لا تعكسان أي تأثر ظاهري، لكن يديه تحركتا ببطء لتستقرا على خصرها، وجذبها إليه بقوة ليثبتها ويهدئ من روعها.

"ماذا فعلت بي... لماذا تركتني يا جيمس؟.. لقد كنت أموت وأنت في تلك القاعة.. لماذا يا جيمس؟.. أرجوك لا تذهب مرة أخرى.. لا أقدر على العيش بدونك.. أرجوك."

كانت تنتحب بكلمات متقطعة، وتغرس أصابعها في ملابسه من الخلف كأنها مرساة تخشى أن يفلت منها القارب ويضيع في البحر مرة أخرى. لو أزالت يدها، كانت موقنة أنه سيختفي.

نظر جيمس إليها نظرة مطولة من الأعلى، وارتسمت على شفتيه ابتسامة حزينة، صغيرة جدا ومكسورة، لكنه لم ينطق بكلمة مواساة. اكتفى بوجوده الصامت والبارد.

في الجهة المقابلة، كان ليفان ينظر إلى سيده برعب حقيقي. قلبه يضرب في صدره كطبول الحرب، وعيناه مفتوحتان بذهول.

"هذا.. من هذا؟.. هذا ليس جلالته.. هذا ليس السيد جيمس الذي أعرفه.. هذا.. هذا شيطان."

أمسك ليفان بقلبه بشدة، يشعر بهالة من الظلام الخالص تحيط بجيمس، هالة لا تنتمي للبشر، هالة جعلت غريزته تصرخ بالهروب.

"اهدأي يا امرأة.." قال جيمس بصوت أجش وهو يحاول إبعاد مي لينغ قليلا عن صدره ليتنفس.

لكنها رفضت. قاومت يديه.

"كيف؟.. كيف أتركك وأنت غبت عني لسنوات؟ كيف أترك قلبي يؤخذ مني مرة أخرى؟"

تراجعت خطوة واحدة فقط، ليس لتبتعد، بل لتنظر إليه. رفعت وجهها المبلل بالدموع ونظرت مباشرة في عينيه السوداوين المرعبتين.

لم تشعر بالخوف الذي شعر به ليفان، ولا بالرعب الذي شعرت به القديسة يونان. رأت فقط الحزن اللانهائي. رأت زوجها الذي عاد من الموت.

وبحركة مفاجئة ومليئة بالشوق الجارف، رفعت نفسها على رؤوس أصابع قدميها لتصل إليه.

رفعت يديها الناعمتين ولفت ذراعيها حول عنقه، وشابكت أصابعها في شعره الكثيف من الخلف لتجذب رأسه نحوها بقوة.

ألصقت شفتيها بشفتيه في قبلة لم تكن مجرد قبلة، بل كانت التحاما لروحين افترقتا لدهر. كانت تقبله بنهم، بجوع، وبقوة وعنف، تلتهم شفتيه وكأنها تريد أن تتنفس أنفاسه، تريد أن تذوق طعم الحياة من خلاله.

ظل جيمس فاتحا عينيه السوداوين للحظة، مستغربا من حرارتها التي تذيب جليده، قبل أن يستسلم لدفئها، ويشد على خصرها أكثر، تاركا إياها تحاول ترميم روحه المحطمة بتلك القبلة الطويلة واليائسة وسط الحديقة، تحت أنظار الأطفال المذهولين وليفان المرتعب.

***

فصل انهيت تدقيقه وقلت ارفعوا لكم استمتعوا بالفصل وضع تعليق وتبا لك ولجيمس.

2025/12/19 · 76 مشاهدة · 1398 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025