10 تعليقات في الفصل 47، وهذا فصل إضافي له.
***
الفصل 49: جيمس روهان وفلسفته الوجودية.
"آه.."
شهقت مي لينغ وهي تبتعد ببطء عن شفتي جيمس، لكنها لم تبتعد بجسدها. بقيت قريبة، ورفعت عينيها لتغوص في بحر الظلمات الذي يسكن عينيه.
"عيناك يا جيمس.." همست بصوت مرتجف، وهي تتفحص السواد الذي ابتلع بياض عينيه.
تجمد جيمس للحظة، منتظرا ردة فعلها المعتادة من البشر؛ الخوف، التراجع، أو ربما الصراخ بأن وحشا قد احتل جسد زوجها. لكن مي لينغ، بقلب العاشقة الذي يرى ما وراء القشور، فاجأته.
قبلت جفنيه الأسودين قبلات طويلة ودافئة، وكأنها تبارك هذا السواد، ثم انتقلت لتقبل رأسه، وبدأت أصابعها تتخلل شعره الكثيف المتغير، تلمسه بحنان لتتأكد من وجوده.
"أانتهيت من اللمس؟" سأل جيمس وهو ينظر إليها، وعادت تلك الابتسامة المعتادة، الابتسامة التي تخفي خلفها خرابا، للظهور على وجهه.
"أجل.." أجابت وهي تشد على يده، رافضة إفلاته.
في الجهة الأخرى من الحديقة، كان المشهد مختلفا تماما.
كانت "رينا" الصغيرة تقف متسمرة، تنظر إلى الأرض وتمسك بحافة فستانها الأبيض بيديها الصغيرتين، تعصره بشدة حتى ابيضت مفاصلها. عقلها الصغير كان يحاول جاهد تجميع القطع المتناثرة؛ هذا العملاق ذو الهالة المخيفة والعينين السوداوين هو "أبوها".
لم تره في حياتها الواعية، ظنت أنه تركها، تخلى عنها وعن أمها وأخيها.
والآن، يظهر فجأة كشبح من القصص القديمة. لم تعرف هل تركض إليه أم تركض هاربة منه.
على النقيض تماما، كان "ريان" كتلة من الغضب المشتعل. تقدم خطوة للأمام، وصرخ بصوت طفولي يحاول أن يبدو قويا:
"هي أنت! اترك أمي وإلا قتلتك!"
نظر إليه جيمس، واتسعت ابتسامته الباردة قليلا.
"هل هكذا تعامل أباك يا ريان؟"
في رمشة عين، اختفى جيمس من أمام مي لينغ وظهر جاثيا أمام ريان مباشرة. شهق الطفل وفتح عينيه على آخرهما، ناظرا للأعلى نحو هذا الجبل البشري.
"أب؟.. هل أنت أبي؟"
تلاشى الغضب وحلت محله الحيرة. كان يسأل أمه دائما، وكانت تقول إنه "غائب"، لكن رؤية أمه تتقبل هذا الرجل وتلثم جراحه جعلت الحقيقة تسطع في قلبه الصغير. هذا هو الأب.
حول جيمس نظره ببطء نحو رينا التي كانت ترتعد في مكانها كالورقة في مهب الريح.
تحرك نحوها بخطوات هادئة وثقيلة.
"يا ابنتي.. ما بك؟" قال بصوت بارد، رغم محاولته لجعله حنونا.
ساد صمت خانق ومؤلم. كانت رينا تغرق في طوفان من المشاعر المختلطة؛ حزن، غضب، خوف، وفرحة مكبوتة. لقد افتقدت الشخص الأهم في حياة كل طفلة، وها هو يقف أمامها يخاطبها ببرود وكأن الست سنوات كانت يومين.
كان الأمر بالنسبة لطفلة شيئا عميقا، جرحا متجذرا في قلبها وكيانها، وقد فهم جيمس ذلك جيدا. بصيرته الجديدة جعلته يرى الندوب التي تركها غيابه على روحها الصغيرة.
كان يعلم أن هذين الطفلين لم يشعرا بدفء الأب، وهو الملوم الوحيد.
نزل جيمس على ركبتيه أمامها، ونظر إلى دموعها الصامتة التي بدأت تسقط على التراب، وإلى يديها اللتين تمزقان الفستان من التوتر.
"لقد تغيرت كثيرا يا بنيتي.. ولكن ماذا سأفعل؟ لو تعلمين ما مر به هذا العجوز يا بنيتي لعذرتيه.. هل رأيت في حياتك أبا يترك ابنته الصغيرة ويجرحها هكذا؟"
توقف فجأة، وتشوهت ابتسامته بتشنج عصبي خفي. صرخ صوت في عقله، صوت شيطاني ساخر:
"ماذا تقول؟ ما هذا النفاق؟ أبوك أنت.. ألم يؤذك؟ ألم يضربك؟ ألم يتركك؟ أجل كنت طفلا وعانيت.. وها أنت تفعل المثل.. اصمت فقط أيها المنافق."
قمع جيمس الصوت في رأسه، وحاول استعادة ملامح الأب.
"أنا أعتذر منك يا عزيزتي.. سامحيني."
مد يده الشاحبة ورفع رأس رينا برفق، ووضع كفه الكبير على خدها الصغير المبلل. انهمرت دموعها بغزارة لتبلل يده، وتمسكت به وهي تنتحب بشهقات تقطع نياط القلب:
"هل حقا أنت أبي؟.. لماذا يا أبي تركت أمي وتركت أخي؟ لقد كنا ننتظرك كل يوم.. أرجوك لا تكن وحشا وتتركنا مرة أخرى.. أرجوك."
اخترقت كلماتها البسيطة كل دروع جيمس السوداء، ووصلت إلى النقطة الوحيدة التي لا تزال تنبض في صدره الميت. شعر وكأن يدا خفية تنتزع قلبه من مكانه.
لم يستطع الكلام. جذب ابنته إليه بقوة، وضمها في عناق شديد ودافئ، كادت تختفي فيه داخل صدره العريض. لم تقاوم، بل وضعت رأسها على قلبه وانفجرت في البكاء بصوت عال.
رفع جيمس يده الأخرى، وأشار بإصبعين إلى ابنه ريان الواقف بذهول.
"تعال."
لم ينتظر الطفل، سحبته طاقة خفية وحنونة، ليجد نفسه هو الآخر ملتصقا بيمين والده. أحاطه جيمس بذراعه، واجتمع الطفلان في حضن والدهما الغائب، يغسلان ذنوبه بدموعهما البريئة.
كانت مي لينغ تراقبهما، وتمسح الدموع التي أغرقت وجهها، تشعر بقلبها يلتئم أخيرا لرؤية عائلتها مجتمعة.
وفي الخلف، وقف ليفان يراقب بصمت، وقد أدرك حقيقة واحدة: حتى لو تغير سيده وأصبح شيطانا في نظر العالم، فإنه سيبقى سيده، والأهم من ذلك.. لقد عاد إلى عائلته، وهذا كل ما يهم الآن.
....
في قلب الغابة الموحشة، كانت الرياح تعوي كأرواح معذبة، تضرب أغصان الأشجار ببعضها البعض لتصدر أنينا خشبيا يكسر صمت الليل.
لم يكن هناك ضوء سوى شعاع القمر الشاحب الذي يتسلل بخجل بين الأوراق الكثيفة، كعين وحيدة تراقب الجنون الصامت في الأسفل.
كان جيمس يجلس على غصن ضخم لشجرة بلوط عتيقة، وساقه تتدلى في الفراغ.
في يده، كانت تستقر جرة خمر فخارية، لكنه لم يكن يشرب للثمل، بل ليحرق حلقومه ويشعر بشيء مادي يذكره بأنه لا يزال يملك جسدا.
كانت عيناه السوداوان تحدقان في الظلام الكثيف أمامه، وكأنهما جزء منه.
"كم نقطة عندي أيها النظام؟"
سأل جيمس بصوت بارد، خالٍ من الفضول، وكأنه يسأل عن موعد إعدامه.
تموج الهواء بجانبه، وتجسد ذلك الكيان الطاقي، وجلس بخفة على الغصن الأيمن.
"لديك يا جيمس مائة مليون نقطة.. لقد انتشرت هيبتك ورعبك في العالم بالكامل في وقت قياسي. إنهم يظنونك سيدا سماويا خالدا، بينما أنت في الحقيقة مجرد حطام إنسان، شخص كان على بعد خطوة واحدة من الموت والفناء بسبب حزنه وضعفه."
قال النظام بنبرة هادئة، لكنها كانت تحمل في طياتها سخرية لاذعة واستفزازا مقصودا لجرح كبرياء مضيفه.
"هاهاها.."
ضحك جيمس ضحكة جافة، مكسورة، وهو يرفع جرة الخمر نحو القمر وكأنه يشرب نخب بؤسه.
"انظر إلى الجانب الآخر يا نظام.. الشهرة هي الشهرة، حتى لو كانت مبنية على كذبة."
توقف فجأة عن الضحك، والتفت ببطء نحو الكيان المشع بجانبه، وسأله سؤالا لم يخطر بباله من قبل:
"بالمناسبة.. ما اسمك؟"
صمت النظام للحظة، وكأن السؤال غير متوقع، ثم أجاب بكلمة واحدة:
"روهان."
انفلتت أصابع جيمس.
سقطت جرة الخمر من يده، وهوت لترتطم بجذع الشجرة في الأسفل وتتحطم، محدثة صوتا مدويا في سكون الغابة.
التفت جيمس بجسده بالكامل نحو النظام، وعيناه متسعتان بصدمة نادرة.
"روهان؟"
كان الاسم يتردد في عقله كصدى لجرس قديم.
"جيمس روهان".. كان هذا اسمه الكامل ، الاسم الذي حمله في حياته السابقة، وحتى في هذا العالم، والآن هذا الكيان الذي يسكنه ويتحكم بمصيره يحمل شكرا من اسمه؟
هل هي صدفة كونية ساخرة؟
أم أن هذا الكيان هو انعكاس آخر لجنونه؟
"أيها النظام.. أريد شيئا واحدا.. أرجو منك أن تجيبني عليه بصدق."
قال جيمس وهو يحاول استجماع شتات عقله، ويعيد نظره إلى الغابة المظلمة، ثم يرفعه ببطء نحو القمر البعيد، وكأنه يبحث عن إجابة بين النجوم.
"تفضل يا جيمس." رد روهان، وهو يراقب اضطرابه ببرود.
بدأ جيمس يتكلم، وصوته يخرج مثقلا بالشكوك الوجودية:
"هل حقا أنا انتقلت إلى عالم آخر؟.. هل هذا الذي أعيشه حقيقي؟"
"عندما نحرت عنقي بيدي.. عندما مزقت شريان الحياة لأهرب من ضجيج الألم.. أليس المنطق الكوني يقتضي أن يسود العدم؟ كيف لوعيي أن يستمر في الثرثرة بعد أن أفرغ الجسد دماءه؟ كيف للعقل أن يفكر بعد أن مات الدماغ؟"
نظر جيمس إلى يديه وكأنه يرى الدماء الوهمية تغطيهما مجددا، واهتز صوته بنبرة رعب وجودي حقيقي:
"أنا لم أكن أتخيل يا روهان.. لقد رأيت الدفء يغادر جسدي.. رأيت النافورة الحمراء تتدفق من حنجرتي لتصبغ الأرض.. شعرت ببرودة الموت تزحف من أطرافي لتخنق قلبي.. شعرت بالخيط الرفيع الذي يربطني بالوجود ينقطع.. لقد تلاشت الرؤية وغرقت في السواد.. أقسم لك بخراب روحي أنني مت في تلك اللحظة.. أنا مت.. فمن هذا الذي يجلس هنا ويحادثك؟ هل أنا شبح يطارد نفسه؟"
زفر جيمس زفرة طويلة وتابع فلسفته السوداوية:
"زائد.. كيف اسمك روهان؟ ألا يبدو هذا غريبا ومسرحيا بعض الشيء؟ كل هذه الأمور التي تحدث.. أشم فيها رائحة الزيف. يبدو أنني مت فعلا في عالمي الأصلي، وأن هذا العالم مجرد وهم.. مطهر.. أو جحيم صنعته ذنوبي لأعاقب فيه بالخلود مع ألمي. لكن.. طريقة الخروج من هذا الوهم صعبة جدا، لقد حاولت الموت ولم أمت."
التفت مرة أخرى إلى النظام، وعيناه السوداوان تلمعان ببريق يائس:
"طريقة.. أجل.. هل هناك طريقة لأرجع إلى عالمي الأصلي؟ هل هناك طريقة لأستيقظ من هذا الكابوس وأعود لأكون مجرد جيمس روهان؟!"