الفصل 54: جيلان ونينغ اير... لينغ إشرح ماذا يحدث.
رفع جيمس حاجبيه قليلا بذهول خفي وهو يرى فيليب يتقدم نحوه تلك الخطوات الثقيلة. كان المشهد سرياليا؛ فيليب، يمشي مطأطأ الرأس، وعيناه مثبتتان على الأرض، بينما يده ترتجف ارتعاشا لا يمكن السيطرة عليه، وكأنه يسير نحو منصة إعدامه.
"من.."
حاول نليير الاعتراض وحماية سيده، لكن صوتا باردا وقاطعا أوقفه فورا.
"اتركه.. إنه حليف."
قالها جيمس وعيناه السوداوان تمسحان القادمين الجدد بسرعة. نظر إلى لوسين وجوان وليون، وقرأ في وجوههم نفس تعابير الفجيعة. ثم انزلق نظره لثانية نحو ذلك الشخص المجهول الذي يقف خلفهم، والذي كان يشع بقوة وهيبة طاغية، وعيناه تكادان تنفجران غضبا، بينما يشد قبضتيه بقوة كادت تسحق العظام، وكأنه يمسك نفسه بصعوبة عن تدمير العالم.
تنحى نليير جانبا بأمر سيده، وفسح الطريق.
وصل فيليب أخيرا ووقف أمام جيمس مباشرة. رفع رأسه ببطء شديد، لتلتقي عيناه الغارقتان في الدموع بعيني جيمس الميتتين.
"هل أنت جيمس؟"
سأل فيليب بصوت مسموع ولكنه مهزوز، صوت شخص لا يصدق أن سيده لا يزال حيا، أو ربما يتمنى لو كان هو الميت بدلا منه.
"جيمس.. يا له من اسم جميل جدا." تمتمت القديسة يونان في الخلفية وهي تراقب المشهد بفضول، مسحورة بهذا الاسم الغريب.
"أجل.. أنا هو يا فيليب." أجاب جيمس ببرود، لكنه برود يحمل في طياته اعترافا بالرفقة القديمة.
نظر فيليب عميقا في سواد عيني جيمس، وكأنه يودع روحه فيهما. وفجأة، وبحركة يائسة ومفاجئة، اندفع نحو جيمس.
حبس الجميع أنفاسهم متوقعين هجوما، لكنهم صدموا.
لقد عانقه.
لف فيليب ذراعيه حول جيمس واعتصره بقوة، ودفن وجهه في كتفه، وانفجر في نوبة بكاء صامتة هزت جسده.
"سيدي.. أنا آسف جدا.. أنا آسف لدرجة الموت.. سأقتل نفسي بعد هذا العناق، أقسم لك بذلك."
همس فيليب بكلمات تقطر ذنبا وألما لا يطاق.
لم يدفعه جيمس. بل رفع يديه ولفهما حول صديقه القديم، وربت على ظهره بحنان غريب يتناقض مع هالته المظلمة.
"ما هذا الكلام؟.. أنت صديقي يا فيليب، والاصدقاء لا يعتذرون عن الحياة."
تراجع فيليب خطوة للوراء، وترك جيمس. كانت ملامحه قد تغيرت من الحزن إلى التصميم القاتل.
"سيدي.. أنا لا أستحق الحياة.. أنا أستحق الموت واللعنة."
رفع فيليب يده اليمنى بسرعة، وشحنها بطاقة حادة وقاتلة حولتها إلى نصل مشع، ووجهها مباشرة وبقوة وحشية نحو عنقه ليفصل رأسه عن جسده تكفيرا عن ذنبه.
شهق الجميع بصدمة.
ولكن قبل أن يلمس النصل جلده، انطبقت يد حديدية على معصمه وأوقفته في جزء من الثانية.
كانت يد جيمس.
"ماذا تفعل؟.. تكلم! ماذا يحدث لك بحق الجحيم؟"
صرخ جيمس بصوت غاضب، وهو ينزل يد فيليب بقوة وعنف، ويضغط على معصمه حتى كاد يكسره.
لم يقاوم فيليب. انهارت قواه، وسقطت ركبتاه لترتطما بالهواء وكأنه سجد أمام جيمس، مطأطأ الرأس، والدموع تنهمر على وجهه كالمطر.
"سيدي... نينغ إير..."
خرج الاسم من فمه مخنوقا، وكأنه شفرة تمزق حلقه.
عقد جيمس حاجبيه، وشعر بنغزة قلق باردة.
"ماذا فعلت نينغ إير؟.. ألم أتركها أمانة عندك لكي تعلمها وتدربها حتى تصل لمستوى الحاكم؟.. أين هي؟"
رفع فيليب وجهه المبلل، ونظر إلى جيمس بنظرة رجل انتهت حياته بالفعل، وقال بصوت حطم الصمت في القاعة والسماء:
"لقد... لقد ماتت يا سيدي.. لم أستطع حمايتها.. نينغ إير ماتت."
تجمد جسد جيمس للحظة، وكأن الزمن توقف.
حاول أن يحافظ على قناعه الجليدي، أن يبدو متماسكا أمام هذا الخبر الصاعق، لكن نبرة صوته خانته قليلا وهي تخرج باردة بشكل مصطنع:
"حسنا.. لماذا وكيف ماتت؟"
لم يكد ينهي جملته حتى انفجر البركان.
ذلك الشخص الواقف خلف لوسين وليون، الذي كان يرتجف غضبا، لم يعد يحتمل كلمة واحدة أخرى.
انطلق كالسهم، مشحونا بطاقة الحقد والألم، قاطعا المسافة نحو جيمس في لمح البصر.
"بسببك أيها الداعر!"
صرخ لينغ، وهو يرسل قبضة مشحونة بكل قواه نحو وجه أخيه الأكبر.
كانت لكمة قادرة على تفتيت الجبال، لكمة تحمل ثقل سنوات من القهر.
تفاداها جيمس في اللحظة الأخيرة، لكن تيار الهواء الناتج عنها لفح وجهه كالسوط.
"بسببي؟"
همس جيمس بذهول، وعقله عاجز عن معالجة الموقف.
لينغ يهاجمه؟ لينغ، سنده وعضده؟
لم يمنحه لينغ فرصة للتفكير.
استدار وهاجم مرة أخرى، أسرع وأعنف، ودموعه تتطاير من عينيه مع كل حركة، تختلط بالعرق والغضب.
"أجل بسببك!.. أنت سبب كل هذا الخراب!"
توالت الضربات كالمطر. كان جيمس يراوغ ويتراجع، لا يريد قتال أخيه، بل يحاول فهم الكارثة.
اختلس نظرة سريعة نحو لوسين، وجوان، وليون، فوجدهم مطأطئي الرؤوس، ينظرون إلى الأرض بخزي وانكسار، وكأنهم يحملون ذنب العالم فوق أكتافهم.
في تلك اللحظة، انقبض قلب جيمس بقوة آلمته أكثر من أي ضربة جسدية.
أدرك أن الأمر يتجاوز موت تلميذته نينغ إير.
هناك مصيبة أعظم، كارثة مست العصب الحي للعائلة، شيء جعل فيليب يتمنى الموت على قوله ولينغ أفقده هذا عقله.
"ماذا يحدث هذه المرة؟.. ماذا فعلت دون أن أدري؟"
صرخ جيمس في أعماق نفسه وهو يصد ضربة وجهت لقلبه.
توقف لينغ فجأة عن الضرب، وكأن طاقته نفدت، وصرخ بصوت ممزق يبكي الحجر:
"أنت سبب كل هذا يا جيمس!.. لماذا؟ لماذا قلت تلك الأشياء لجيلان؟ لماذا لم تصمت؟ لماذا لم تخبرها أنها ماتت وانتهى الأمر؟.. ألم تعد أجسادهم سليمة يا جيمس؟ ألم تعدنا بالحماية؟ لماذا تفعل كل هذا بعائلتنا؟ من أنت يا جيمس؟.. هل أنت أخي أم لعنتنا؟"
انهارت قوى لينغ.
سقط على ركبتيه أمام جيمس، وغطى وجهه بكفيه الخشنيين، وبدأ يبكي، لا بل ينتحب بهستيريا مرعبة، صوت بكائه كان يشبه عواء ذئب جريح فقد قطيعه.
نظر جيمس إليه بصدمة شلت أطرافه.
هذا الرجل المنهار أمامه لم يكن مجرد أخ.
لينغ روهان.. كان الصخرة التي تحطمت عليها أمواج جنون جيمس في الماضي.
كان هو من سحب جيمس من حافة الهاوية عندما ماتت يو نينغ وياو يانغ.
كان هو الصوت العاقل الذي يهمس في أذن جيمس ليمنعه من إبادة الأبرياء.
كان هو الحارس الأمين، الظل الذي يحمي أطفال جيمس وزوجاته كما يحمي أطفاله، الرجل الذي وهب حياته ليكون الدرع الحصين لعائلة روهان.
والآن؟
ذلك الدرع تهشم. ذلك الجبل انهار.
رؤية لينغ، رمز القوة والثبات، وهو جاثٍ على ركبتيه، يبكي كالطفل ويلومه على دمار العائلة، كانت قاسية جدا. كانت طعنة نجلاء في القلب، تخبره بوضوح أن مأساة جديدة، وربما تكون الأخيرة، قد ضربت عائلته في مقتل.