بعد أن جمع أريس كل قطع الذكريات حول تقنية الخلق، بدأ يتأمل بعمق، ينساب بسرعة في اندماجه مع محيطه، وكأن وجوده قد اختُزل في صدره الذي يرتفع وينخفض بانتظام. الهواء من حوله صار أثقل قليلًا، والمانا تتجمع نحوه ببطء، متراقصة كألسنة لهب شفافة حول جسده.

لو كانت عينا أريس مفتوحتين لرأى عالمًا جديدًا لأول مرة؛ كل شيء يلمع بضياء خافت، والمانا تدور وترقص في دوامات مبهرة حوله، كأنها نجوم صغيرة تطوف في فلكه.

بدأ أريس يمتص المانا من جميع مسارات جسده. وما إن تدفقت داخله حتى تحولت إلى نقاط من طاقة الفوضى، متوهجة بلون رمادي باهت، تتبع مسارها بصرامة نحو مركز كيانه.

وفجأة وجد أريس نفسه في فراغ شاسع، كل شيء فيه مظلم وصامت. لم يكن له جسد مادي، بل كان في هيئة روحية خالصة، عائمة في العدم. شعر وكأن صدى أنفاسه يتردد بلا نهاية، وأن كل حركة صغيرة من وعيه تهز ذلك الفراغ. جسده الروحي ارتجف قليلًا وكأن برودة لزجة تسللت إلى كيانه.

همس لنفسه:

"لا بد أن هذا هو العالم الداخلي، كما ذكرت تقنية التأمل..."

وفجأة بدأ ضباب رمادي يتكثف أمامه، يزحف ببطء وينتشر في الأجواء، ينبعث منه رائحة باهتة تشبه رماد محترق. كان يطفو ويتموج كأنه حي، يلامس وعيه ببرودة غريبة.

ابتسم أريس قليلًا وهو يتمتم:

"إذن… هل نبدأ؟"

كانت تقنية تأمل الخلق مختلفة تمامًا عن تقنيات الفرسان أو الساحرات. فكل تقنية تقوم بوظيفتها: الفرسان يشكلون نواة تشبه نجمًا صغيرًا، بينما الساحرات يشكلن حلقات متوهجة، وكلما زاد عددها مع الممارسة ازدادت القوة. أما تقنية الخلق، فكانت شيئًا آخر…

فمنذ اللحظة الأولى لبدئها ظهرت معلومات غامضة، ومع الممارسة بدأت تتضح أكثر: إنها تسمح بتشكيل شيء يشبه عالَمًا كاملاً. النجم يتحول إلى كوكب، والحلقة تصبح طبقة حماية له.

كان أريس يشعر بوضوح أنه قادر على فصل طاقة الفوضى إلى عناصر الضوء والظلام، غير أنه رفض ذلك، لأن طاقة الفوضى هي الأصل، والعالم الأول سيكون الركيزة التي ستُبنى عليها بقية العوالم.

وجه وعيه مباشرة، وقاد طاقة الفوضى لتبدأ في التجمع. في البداية تشكلت كنجم رمادي، ينبض ببطء وكأنه قلب حي، ثم ضغط أريس عليها أكثر فأكثر، حتى بدأ النجم يتماسك. لكن المفاجأة أن طاقة الفوضى لم تلتزم بالثبات، بل تبعت غريزته الداخلية، فتحولت إلى ثقب دوّار يمتص الطاقة بشراهة، يصدر صريرًا خافتًا كصوت تمزق في الفراغ. وفي اللحظة نفسها تشكلت حوله حلقة من طاقة الفوضى، كضباب كثيف يدور بلا توقف، ينبعث منه صوت حفيف يشبه الرياح الهامسة.

رفع أريس وعيه وحدق في المشهد بعينين تتلألآن ببرق خفي، وتمتم بصوت عميق مملوء بالرهبة:

"سيكون هذا… عالَم الفوضى."

كانت حقًا تقنية تأمل الخلق مميزة، فلكل عالم ينشئه أريس وظيفة خاصة. والآن، عندما شكل عالم الفوضى الذي اتخذ هيئة ثقب يمتص الطاقة، كان يدرك أنه إذا شكّل عالمًا آخر فسيكون لذلك العالم قدرات أخرى. فعلى سبيل المثال، إن أنشأ عالم الضوء سترتفع قوة عنصر الضوء لديه. لم يكن تركيزه على رفع رتبته فحسب، بل إن عالم الفوضى سيعمل كركيزة أساسية ترفع مستوى طاقته، ليصبح في آنٍ واحد فارسًا وساحرًا بنجمتين وحلقتين. وهكذا ستستمر الأمور.

قوته لن تبقى كما هي، بل سيكسب طاقات جديدة وفي الوقت نفسه سيعزز كل عالم جديد قوى مختلفة داخله.

وعندما رأى أريس أن كل شيء بخير، انسحب بوعيه من الفراغ الداخلي وفتح عينيه. الهواء من حوله بدا وكأنه يرتجف، وصوت خافت دوّى في رأسه قبل أن تظهر أمامه شاشة النظام:

[ مبارك! لقد صنعت مسارًا جديدًا: فارس سحري من الرتبة الأولى ]

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه، وهمس لنفسه وهو يشعر بقشعريرة تمر في جسده:

"هذه واحدة من أهم ميزات تقنية تأمل الخلق… إنها تسمح بدمج مسارين في مسار واحد، بحيث أستطيع استخدامهما معًا."

يجب أن تعلم أن هناك أشخاصًا يمتلكون موهبة في الهالة و الطاقة السحرية في نفس الوقت ، لكنهم عاجزون عن استخدام مسارين في آنٍ واحد. لذا عليهم التدرب بشكل منفصل، وهذا يعيق سرعة نموهم، كما أنهم لا يستطيعون التلويح بالسيف وإطلاق تعويذة في الوقت نفسه.

وهنا يتفوق أريس على جميع سكان العالم، لأنه طالما استطاع أن يجمع بين السيف والسحر في اللحظة نفسها، فإنه قادر على هزيمة فارس بنجمتين أو ساحر بحلقتين.

تمتم بصوت منخفض، ونبرته تحمل مزيجًا من الثقة والحذر:

"أعتقد أن الجميع سيشعرون برعب خالص من ظهور مهنة جديدة… لكن يجب ألا أكشف عن قدرتي إلا عندما أمتلك ما يكفي من القوة لحمايتي."

نظر بعيدًا، وأحس بأنفاسه تختلط ببرودة الليل التي تسللت عبر النافذة، قبل أن يغمض عينيه مجددًا ويتمتم:

"كما يقال… الشجرة العملاقة تجذب الرياح. وهذا ما لا أريده قبل أن أنمو بما فيه الكفاية."

بينما كان أريس يفكر، ظهرت شاشة جديدة.

[بسبب صنع مسار جديد لم يوجد ولن يوجد في العالم، والذي غيّر القدر تم تفعيل آليات تطوير النظام]

[سيتم ايقاف جميع وظائف الي مستودع]

[سوف يبدأ التطور]

[0..10..20]

عندما رأى أريس شاشة النظام شعر باستغراب.

"هل مهنة فارس سحري ملكي واحدة، وأيضًا أن ما فعلته غير القدر — كيف يمكن تغيير القدر بهذه السهولة؟"

ظهرت أسئلة لا تُحصى؛ كان بإمكانه أن يستوعب حقًا عدم وجود فارس سحري غيره ، لكن تغيير القدر كان صعب الفهم. في النهاية كان القدر شيء غامض يصعب فهمه أو التحكم فيه.

"هل غيرت القدر حقًا ، ذلك القدر الذي جعل حياتي سباقة مثل كلب أعمل من أجل أشخاص لا يهتمون بي، أو جعله ظلّ ريان؟"

"نعم، القدر سبب كل شيء. الآن أستطيع تغييره؟ لا — لن أكتفي بذلك، بل سأمزقه وأعيد كتابته."

ارتفعت هالته، وامتلأت نواياه بالقتل؛ أصبح الهواء ثقيلاً ومشوّهًا. بسرعة أخذ أريس نفسًا عميقًا ليهدأ مشاعره؛ صدره اتسع ثم ضاق كأنه يحاول كتم عاصفة، ونبضات دمه تدق في أذنيه.

"أنا حقًا غاضب وأحتاج إلى تفريغ هذا الغضب، لذلك أظن أنني أستطيع تجربة قوتي."

من أجل تجربة قوته وتحريك جسده في قتال حقيقي، وفي نفس الوقت تنفيذ خططه لتوحيد عصابات تحت قيادته. استعد للخروج.

لكن هذه المرة ارتدى درعًا جلديًا خفيفًا فوق قميصه الأسود، ولبس قناعًا على وجهه وغطّى رأسه برداء أسود طويل؛ كان الرداء يهمس بخفة مع حركته.

وضع ثلاث قوارير صغيرة في مستودع نظام وخرج. لم يكن هدفه هذه المرة عصابة الثعبان الأسود، بل عصابة الحرباء.

"بصراحة لا أفهم لماذا أسماء كل العصابات حيوانات."

سخر أريس، وعيونه تلمعان ببرود قتالية حقيقية وهو يتحرك بسرعة تحت جنح الظلام؛ الهواء حوله بارد كلسعة معدن، من شدة النية القاتلة المكبوتة.

كانت خطواته صامتة، والجلد تحت درعه يئن باحتكاك خفيف، بينما يصل إلى أنفه عبق رطوبة الشارع ووشاح دخان خفيف من بعيد.

هذه المرة لم يتسلّل أريس، بل ظهر مباشرة أمام مباني عصابة الحرباء، والتي كان من الواضح أنّها أقل شأنًا من مقر عصابة الدب البني.

كان هناك حارسان فقط عند باب الرئيس.

"مَن أنت؟!"

صرخ أحد الحراس نحو أريس، الذي ظهر كشبح على بُعد خمسة أمتار.

لكن قبل أن يتمكّن من التحرك وسحب سلاحه، بدا الأمر وكأن الزمن تجمّد بالنسبة لهما.

ملامح الألم ارتسمت بوضوح على وجهيهما.

سقط ضوء القمر على المكان، كاشفًا عن خيوط رفيعة ودقيقة كانت تقيّد جسديهما كشبكة عنكبوت شفافة.

فجأة حرّك أريس إصبعه بخفة، فارتجّت معه الخيوط، ومزّقت أجساد الحارسين إلى أشلاء متناثرة على الأرض.

كانت هذه واحدة من أبسط الخدع السحرية التي يعرفها أريس، تعويذة سمعها من أحد زملائه تُستخدم عادةً للعرقلة أو كفخاخ.

لكن بين يدي محترف، حتى أبسط خدعة يمكن أن تتحول إلى وسيلة قاتلة.

وهنا يكمن الفارق بين من يملك الخبرة ومن يفتقر إليها.

ألقى أريس نظرة باردة نحو كتلة اللحم الممزق أمامه، لكنّه لم يدخل بعد.

رفع رأسه قليلًا باتجاه سطح المبنى، حيث كان شخص يرتدي ملابس سوداء يراقب بصمت؛ أحد أفراد خناجر آرثر الخاصة.

أشار أريس بإصبعه من أجل صمت، ثم تابع طريقه إلى الداخل.

الخنجر، الذي أدرك أنّه تم اكتشافه، شعر برعب غامر.

جسده كله ارتجف لا إراديًا عندما التقت عيناه بعيون أريس؛ برغم خبرته الطويلة، لم يسبق أن شعر بخوف كهذا.

" يجب أن أبلغ بسرعة عن ظهور الهدف "

اختفى على الفور، متراجعًا في الظلام.

في الداخل، استقبلت أريس رائحة دماء نفّاذة خانقة، اختلطت برائحة العفن الحديدي الطازج.

تناثرت الجثث في كل مكان، مقطّعة بطريقة وحشية، وكأنها ثمار بطيخ شُرِحت بسكين حادة.

كانت الأرض زلقة تحت قدميه، والهواء مشبعًا بالثقل والوحشية.

2025/09/18 · 85 مشاهدة · 1259 كلمة
sir
نادي الروايات - 2025