17 - ملكة الجليد المستقبلية

كان أريس يتجول في ساحة الأكاديمية القلب، حيث الأشجار الخضراء تنتصب بهدوء، وتحتها بقع ناعمة من العشب الذي جُزَّ بعناية ليصبح بساطًا أخضر ممتدًا. كانت هناك مقاعد للجلوس موزّعة بين الظلال، ونافورات تتدفق مياهها في أماكن متفرقة، فيصدر خريرها نغمة عذبة تتناغم أحيانًا مع أصوات الطيور. كان المشهد جميلاً يبعث السكينة في الأرواح، والهواء العليل يحمل رائحة التراب الرطب والعشب الطازج.

لكن المكان كان فارغًا؛ فلا طلاب هنا بعد، فالفترة الدراسية لم تبدأ بعد، باستثناء طلاب القبول الخاص من النبلاء، الذين يرون هذا المشهد الهادئ أمرًا عاديًا بلا أهمية. أما أريس، فلم يكن هنا ليستمتع بجمال المنظر، رغم أنه فكّر أنه ربما بعد إنهاء هدفه سيجلس قليلًا ليتذوق هدوء هذا المكان قبل أن يحين وقت الاختبار الثاني.

تمتم لنفسه وهو يتحرك بخطوات ثابتة، وعيناه تتأملان الجهة الغربية:

"أذكر أن الشجرة التي تحتوي على بيضة عنقاء كانت قريبة من سور الأكاديمية من الجهة الغربية..."

ارتسمت على ملامحه نظرة تركيز وهو يتذكر المعلومات التي سمعها حول اكتشاف بيضة العنقاء. قيل إنها وُجدت في عش طائر عادي، لكن ما كشف سرها كان الهالة الخافتة التي انبعثت منها. حينها، اعتقدت فتاة أن هناك عنصرًا سحريًا يخفي نفسه، لكنها فوجئت ببيضة عادية الشكل والحجم، غير أن نقوشًا غريبة منقوشة عليها فضحت حقيقتها.

تسارعت خطوات أريس، وبسرعة وصل إلى الجهة الغربية، وبدأ يبحث بعينيه الحادتين بين الأشجار عن العش. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا بسبب قلة الأشجار هناك.

وما إن اقترب من شجرة ورأى عشًا فوقها، حتى اجتاحه شعور غريب: عالم الفوضى داخله أصدر فجأة موجة هائلة من القوة، وتجاوبت معها الشجرة ذاتها، وبالأخص العش الذي يحمل البيضة.

"ماذا يحدث؟ لماذا يتفاعل عالم الفوضى مع البيضة؟"

قفز أريس برشاقة، وصعد إلى الغصن الذي يحمل العش. كان العش خشن الملمس، وتفوح منه رائحة الطين اليابس الممزوج بالريش. داخله ثلاث بيضات، إلا أن واحدة فقط جذبت انتباهه. كانت مشابهة للبيضتين الأخريين في الشكل، لكن لونها كان مختلفًا قليلًا، والنقوش الغامضة المرسومة على سطحها سحرت بصره بجمالها الغريب.

ابتسم أريس بخفة وقال:

"ههه... يبدو أن هذه هي البيضة."

مد يده ببطء ليلتقط بيضة العنقاء. وما إن رفعها حتى شعر بارتباط خافت يتسلل من البيضة إلى داخله، كأنه خيط طاقة يلمس روحه. ارتبك أريس، وتجمد للحظة وهو يتمتم:

"غريب... لماذا أستطيع التواصل؟ كان يجب على الأقل أن أتوقع عقد دم من أجل ذلك..."

بينما كان يفكر، ومض ضوء في عينيه، انعكاسًا لتيار خاطف في ذهنه.

"طاقة الفوضى... يجب أن تكون هي السبب. في النهاية، هي أصل كل شيء."

لمعت فكرة في ذهنه، وأحس بارتجاف خفيف في جسده من الحماس:

"وبما أن الفوضى هي أصل كل شيء، فهذا يعني أن طاقة الطبيعة التي يستخدمها الإلف... أستطيع استخدامها بصورتها الفوضوية."

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه، شعر وكأنه اكتشف لعبة جديدة، وكان جسده يكاد يقفز من حماسه، لكنه كبح اندفاعه وقرر التريث، فالوقت والمكان لم يكونا مناسبين للتجربة.

لف البيضة بوشاح ناعم ووضعها بحذر في جيبه، ثم قفز بخفة من على الشجرة، يهبط بمرونة والهواء يصفع وجهه برائحة الأوراق المتساقطة.

تمتم ساخطًا وهو يسير بخطى متثاقلة، تتردد صدى خطواته على الأرض المرصوفة:

"بصراحة... متى ينتهي تحديث النظام؟ أربعة أيام وهو على نفس الحالة!"

أطرق رأسه قليلًا، عاقدًا حاجبيه بضيق، والظلال تلقي على وجهه هالة من الكآبة. لم يستطع إلا أن يتذكر أنه لو كان النظام يعمل لكان استخدم عين الملك لرؤية معلومات بيضة العنقاء بوضوح.

أطلق أريس تنهيدة طويلة، امتزجت بحرارة أنفاسه بالهواء البارد، ثم تابع سيره بهدوء، ينوي الجلوس قليلًا قبل الاختبار الثاني.

لكنّه فجأة توقّف، وأدار رأسه بخفة، وملامحه صارت أكثر برودًا وهو يقول بصوت هادئ ممتزج بصرامة جليدية:

"إلى متى تنوين اتباعي والاختباء؟"

ساد الصمت للحظة، كأن المكان نفسه تجمّد. لم يكن هناك جواب، حتى خُيّل إليه أنه يتحدث مع نفسه.

غير أنّ خلف إحدى الأشجار، كان هناك جسد صغير يختبئ، وبدت ملامحه وكأنها لوحة من الجمال تجسّدت في الواقع.

كانت فتاة ذات شعر أبيض نقي ينساب كالحرير، يلمع تحت أشعة الشمس بوهج بارد يذكّر بنور القمر. عيناها زرقاوان صافيتان كالبلّور، تحملان عمقًا هادئًا كالبحر في يوم صيفي. أما بشرتها، فكانت ناعمة وبيضاء كالثلج، نقية كأنها لم تُمسّ بيد بشر.

كانت رائحة عبير خفيف يحيط بها، أشبه ببرودة زهور الجليد في فجر شتوي.

ارتدت فستانًا أنيقًا قصيرًا يصل إلى منتصف الفخذ، مصنوعًا من قماش صوفي ناعم، بلون أساسي راقٍ، يزينه تطريز ذهبي متلألئ على الحواف والأكمام. غلّفته أزرار معدنية صغيرة منقوشة عليها علامة الأكاديمية: قلب يتخلله برق رفيع.

تحت الفستان، ارتدت سروالًا داكنًا ضيقًا يمنحها خفة وأناقة في الحركة، يكتمل مع حزام جلدي أنيق يحمل مشبكًا معدنيًا مطبوعًا عليه نفس شعار الأكاديمية. أما حذاؤها الجلدي الطويل الذي يصل إلى الركبتين، فقد كان لامعًا كمرآة تعكس ضوء الشمس بخطوط فضية متقطعة.

وفوق كتفيها انسدلت عباءة خضراء داكنة، مُطرَّزة بخيوط فضية رفيعة تحمل الرقم (1)، ما أضاف لهيئتها لمسة من الجلال والتميّز.

لقد بدت وكأنها أجمل فتاة في الأكاديمية؛ جمالها لم يكن مجرد هيئة، بل حضور طاغٍ يأسر كل من يراها، ويجعل الزمن يتباطأ أمامها.

نظر أريس إلى الشجرة التي كانت تختبئ خلفها الفتاة، وقال بنبرة متحملة للضيق وهو يزفر بهدوء:

"تنهد... لماذا لا تخرجين بينما أنا ما زلت أتكلم بهدوء ولم أفقد أعصابي؟"

لكنه قوبل بصمت آخر، عندها أدار ظهره ببرود وهمّ بالرحيل.

حينها سمعت الفتاة وقع خطواته الثقيلة وهي تبتعد شيئًا فشيئًا، فارتعشت شفتيها وهي تهمس بصوت هادئ يحمل برودة الصقيع:

"لقد رحل... لم أتوقع أنه سيكتشف وجودي."

لكن صوتًا آخر باغتها من جانبها، اخترق هدوء المكان كخنجر بارد:

"نعم، لقد رحل... لكن لم تخبريني لماذا كنتِ تراقبينه؟"

تسارعت أنفاسها، وقفز قلبها بقوة. بسرعة خاطفة تحرّكت الفتاة وابتعدت عن مكانها، تستدير بعنف لتجد صاحب الصوت.

وعندما التقت عيناها بعينيه، اتسعت حدقتاها الزرقاوان بصدمة حقيقية.

كان أريس واقفًا بهدوء، ملامحه ثابتة لا تهتز، وصوته يقطر سخرية:

"أوه... ردّ فعلك سريع."

لكنها لاذت بالصمت مرة أخرى.

حلّ بينهما صمت ثقيل، والهواء المحيط بهما بدا وكأنه تجمّد. كانت قد استجمعت شتات نفسها أخيرًا، لترمقه بحذر بالغ. أما هو، فقد ظل هادئًا، لكنه في داخله أدرك هوية هذه الفتاة: سيلينا فروستبين، ابنة دوق الشمال الصغير.

عائلتها اشتهرت بسحر الجليد، وهي أصغر عبقرية في تاريخها، بل في القارة كلها. لكن الأخطر من ذلك أنها في المستقبل ستصبح قائدة منظمة الشرور التسعة، وتحمل ألقابًا مرعبة: آفة الصقيع، ملكة الشتاء... وغيرهما.

لقد كانت كارثة حقيقية على العالم. حتى أن هزيمتها لم تتم إلا باستدعاء رافائيل عبر طقوس معقدة لنزوله إلى العالم البشري، ومع ذلك لم تُقتل بل خُتمت بصعوبة شديدة.

هذه الفتاة التي تبدو كلوحة فنية متحركة، كانت في الحقيقة أخطر كوارث المستقبل.

أما أريس فلم يكن يكترث بسبب تحولها إلى الشريرة، ولا يهمه الأمر أصلًا.

بينما كان يطيل النظر إليها، كانت هي تراقب تعابيره بدقة. لكن ما أدهشها أنه لم يظهر أي شيء! لم يحدّق بجمالها، ولم يبدُ مسحورًا كالبقية، لم يكن في نظراته شيء من الشهوة أو الانبهار. وهذا الإحساس الغريب أزعجها أكثر من أي شيء.

وعندما بدا أن الصمت سيطول، قرر أريس كسره ببرود:

"لم تجيبي على سؤالي بعد... لماذا تراقبيني؟"

تحول صوته فجأة إلى برودة قاسية، تحمل أمرًا لا يُكسر.

وعندما رفعت نظرها، التقت عيناه البنفسجيتان المتوهجتان تحت ظل الشجرة، فشعرت للحظة وكأنها تقف أمام وحش حقيقي، نفس الإحساس الذي شعرت به حين وقفت أمام والدها.

الخوف تسلل إلى قلبها كالثلج، لكنها سيطرت على نفسها بصعوبة وردّت ببرود:

"لم أكن أتتبعك."

أجابها بابتسامة جانبية وصوت ساخر:

"أوه، إذن ماذا تفعل فتاة جميلة هنا وحدها؟ ألا تخافين من أن يتم استغلالك؟"

تحول صوته إلى نبرة مقززة، منحرفة، وهو يقترب منها بخطوات بطيئة تُسمع بوضوح فوق العشب.

هذه المرة لم تتفاعل بسرعة.

في لحظة خاطفة، ظهر أريس أمامها، واقترب من أذنها حتى شعرت بأنفاسه الدافئة تختلط ببرودة الهواء.

همس بصوت عميق:

"أتساءل... كيف سيكون الشعور معكِ؟"

ارتجف جسدها، وشعرت أنها تجمدت تمامًا. أغمضت عينيها بإحكام، تتمنى لو يبتعد.

لكن انفجر صوت ضحكته القاسية في أذنها، قبل أن يبتعد بخطواته الواثقة:

"هههههه... كان من الممتع العبث معكِ، لكن يجب أن أذهب الآن."

فتحت سيلينا عينيها بسرعة، تلتقط أنفاسها، لترى أريس قد تجاوزها بالفعل وهو يرحل دون أن يلتفت.

احمر وجهها غضبًا وارتجف كتفها، قبل أن تهمس بأسنان مشدودة:

"وقح..."

نفخت خدها الصغير بغضب طفولي، وشعور بالحرج والخجل يغمرها من كلماته ومن نفسها.

____

اتمنى ان يعجبكم فصل.

و شخصية سيلينا ستكون من شخصية قوية و مهمة في رواية.

2025/09/21 · 87 مشاهدة · 1292 كلمة
sir
نادي الروايات - 2025