لم يمر وقت طويل حتى عاد المراقب ليظهر من جديد أمام بوابة قاعة الاختبار الثاني.

توقفت همهمات الطلاب على الفور، وارتفعت أنظارهم نحوه وقد امتلأت بظلال من التوتر والقلق الممتزج بالأمل.

كانوا جميعًا ممّن اجتازوا الاختبار الأول، حتى التوأم اللذان كانا غارقين قبل لحظات في منافسة حادة بالكلمات، جَمَدا مكانهما ووجّها نظرهما صوبه ، غير أنّ ما انعكس في أعينهما لم يكن كالآخرين؛

فبينما ارتجفت ملامح بقية الطلاب وارتسم الخوف في وجوههم، تلألأت عيون التوأم بحماس جامح وثقة مطلقة بقدرتهما على اجتياز المرحلة التالية.

انطلق صوت المراقب هادئًا، خاليًا من أي أثر للعاطفة، باردًا كنسمة ليلية تخترق الصدور:

" أولًا، يجدر بكم أن تفخروا بأنفسكم لوصولكم إلى هذه المرحلة... لكن هنا يبدأ الاختبار الحقيقي. النجاح أو الفشل لن يُحدِّده الحظ، بل فقط قوة ما تملكونه. "

تبددت السكينة في القاعة على الفور، فاختلطت المشاعر بين الحاضرين؛

بعضهم تبادل نظرات قلقة كأنهم يبحثون عن عزاء في وجوه الآخرين، وآخرون شبكوا أصابعهم بقوة حتى ابيضّت مفاصلهم، بينما تنفّس البعض بعمق في محاولة لتهدئة قلوب تكاد تثقب صدورهم من شدة الخفقان.

رائحة العرق الخفيف بدأت تنتشر في الجو، ممزوجة برطوبة القاعة الثقيلة.

في هذه الأجواء المشحونة، تحرّكت نظرات كاي وكيرا نحو أريس.

كان ما يزال جالسًا بلا مبالاة، ساق فوق الأخرى، وذراعاه معقودتان على صدره. عيناه ثابتتان ببرود غريب، تخلو من أي توتر أو قلق، وكأن ضجيج الهمسات والأنفاس المضطربة من حوله ينتمي إلى عالم آخر لا يمسّه.

لم يَفُت المراقب أن يلاحظ ذلك. عاين مشاعرهم جميعًا، لكن ما شدّه حقًا كان ذلك الفراغ الهادئ الذي يلفّ أريس. داخله ترددت فكرة عابرة:

"مستوى سيطرته على حضوره وهالته... لا يقلّ عن خبير متمرّس، بل ربما يتجاوز بعضهم. حتى وقع خطواته... معدوم تمامًا، كما لو أنّ وجوده نفسه محض سراب."

لم يكن أريس يجهل مشاعر هؤلاء الشباب والشابات، بل على العكس؛ فهمها أكثر من أي أحد.

ففي النهاية مرّ بتجارب أقسى منهم جميعًا، إن لم تكن أسوأ.

رأى الخيانة والغدر، وتذوّق اليأس حتى آخر قطرة، واقترب من الموت حين تهشّمت عظامه وسُحق لحمه وتكسّرت روحه.

لم يُصبح باردًا من الداخل والخارج إلا بعد أن جرّب كل ذلك، ليُصبح شخصًا مدفوعًا بالكراهية والحقد والانتقام.

لقد نسي أريس آخر أمنية له قبل موته... أن يجد حبًا حقيقيًا وأصدقاء جديرين بالثقة. ومنذ اليوم الذي تجسّد فيه من جديد، قرّر أمرًا واحدًا: أن يسير هذا العالم وفق قواعده هو.

قال المراقب وهو يستدير بخطوات رتيبة نحو الداخل:

"الآن، اتبعوني جميعًا إلى قاعة الاختبار الثاني."

دخلوا خلفه، تتعالى وقع خطواتهم على الأرض الحجرية، ومعها أصوات احتكاك الملابس وضربات الأقدام المتسارعة.

" أول ما يجب أن تعلموه أن الاختبار الثاني مقسوم إلى قسمين: الأول لاختبار التحمّل والقوة الجسدية، والثاني لاختبار أساسيات الأسلحة التي تتقنونها ."

كانت القاعة عبارة عن ساحة تدريب واسعة، تفوح منها رائحة الحديد والزيت الممزوجة بالتراب والعرق. في أحد الجوانب تكدّست الأوزان المعدنية، وفي الآخر رفوف ممتلئة بأنواع مختلفة من الأسلحة، بينما احتلت دمى التدريب منتصف المكان.

في المركز برزت حلبة قتال مربّعة الشكل، تحيط بها أرضية دائرية مُخصّصة للركض.

قفز المراقب بخفّة فوق الحلبة ونظر إلى الشباب والشابات الذين اصطفّوا أمامه.

بصوت رزين :

"حسنًا، ليأخذ الجميع مواقعهم عند خط البداية."

تحركوا بسرعة، وارتفعت أصوات خطواتهم المتسارعة، فيما تطاير الغبار الخفيف من الأرضية. أخذ كل واحد منهم وضعية الاستعداد، أنفاسهم تتسارع وعيونهم معلّقة بالمراقب، كأنها تنتظر لحظة إطلاق النار.

رفع يده وأعلن:

"عندما أعطي الإشارة تبدأون الركض، ولا تتوقفوا حتى أشير إلى النهاية. استعدوا... انطلق!"

في اللحظة التي سقطت فيها كلمة "انطلق"، اندفع الجميع إلى الأمام بأقصى سرعة، تتعالى أصوات أقدامهم وهي تضرب الأرضية، يتناثر العرق بسرعة على جباههم رغم البداية، وظهرت ابتسامات متوترة على وجوه البعض وهم يحاولون اقتناص موقع أفضل.

المراقب الذي تابعهم بعين باردة، هزّ رأسه في داخله:

"الهدف الحقيقي لهذا الاختبار ليس الفوز بالمركز الأول، بل اختبار قدرة التحمّل وكيفية الحفاظ على أفضل حالة في القتال."

أما أريس، فقد كان يركض في منتصف المجموعة بإيقاع ثابت، خطواته منضبطة كنبض قلب منتظم، وتنفسه هادئ عميق لا يختلّ.

لم يهتم بمنافسة طفولية على الصدارة، فهو يعرف تمامًا الغرض من هذا الاختبار. كما لم يحدّد المراقب مدّة الركض؛ قد تكون دقيقة أو خمس دقائق، ربع ساعة، أو حتى ساعة كاملة.

لكن للأسف، لم يُلحظ معظم الطلاب ذلك، وهنا يكمن الفخ الذي وقع فيه الكثير منهم.

مرّت خمس عشرة دقيقة، ولم تزل الإشارة معلّقة.

بدأت علامات الإرهاق تظهر؛ تنفّس مضطرب، صدور ترتفع وتهبط بسرعة، عرق غزير يبلل ملابسهم ويلتصق بظهورهم، وجوههم تحوّلت إلى حمراء متوتّرة، وأجسادهم أخذت ترتجف.

من كان يركض بسرعة عالية منذ البداية بدأت سرعته تتهاوى.

ورغم ذلك لم يتوقف أحد، استمرّوا في الركض حتى انقضت نصف ساعة كاملة.

عندها تدهور الوضع أكثر؛ بعضهم فقد القدرة على الاستمرار وانهار أرضًا، يتنفس بصعوبة كأنه يبتلع الهواء ابتلاعًا، فيما بقي آخرون يترنّحون بالكاد يجرّون أقدامهم الثقيلة.

من استهلك طاقته في البداية، انتهى به الأمر على التراب يتصبّب عرقًا.

أما أريس، الذي ظلّ محافظًا على موقعه في منتصف المجموعة، فقد وجد نفسه يتقدّم شيئًا فشيئًا حتى صار الأول، يتبعه كاي، ثم كيرا.

وبعد خمسة وأربعين دقيقة أعلن المراقب أخيرًا عن نهاية الاختبار.

والنتيجة... كانت كارثية. من بين خمسين شخصًا، لم يبقَ إلا ثلاثة.

الأول كان أريس، الذي بدا كأنه خرج للتو من نزهة؛ أنفاسه هادئة، تعابيره مستقرة، وملابسه جافة بلا قطرة عرق.

بعده جاء كاي، يتصبّب جسده عرقًا حتى التصقت ثيابه بجلده، لكنه ما زال متماسكًا.

ثم كيرا التي تبعته وهي تتنفس بصعوبة، قطرات العرق تتساقط من جبينها على الأرض، وجهها شاحب لكن عينيها لا تزالان تلمعان بإصرار.

تقدّم المراقب بخطوات ثابتة، ونظر إلى أريس وكاي وكيرا بعينين هادئتين تحملان شيئًا من التقدير.

تكلم بصوتٍ منخفض لكنه واضح:

"حسنًا… على الأقل لم تكن نتيجة سيئة لهذه المجموعة."

كان صوته يحمل لمحة من الفخر في نهايته، فبروز ثلاثة أشخاص من عامة الناس ضمن دفعة يشرف عليها، وامتلاكهم لموهبة وإمكانية دخول فصول النخبة، يُعَدّ إنجازًا في مسيرته، وسيحصل بسببه على مكافأة مناسبة.

لكن كان هناك سبب آخر خلف ذلك الشعور… فهو أيضًا من عامة الناس، ورؤية عباقرة يزدهرون من بينهم كان يسعده على نحوٍ خاص.

ثم أضاف بلهجة حازمة:

"حسنًا، أنتم الثلاثة تأهّلتم للجزء الثاني."

انتشر صوته في القاعة مثل صاعقة ضربت مسامع الطلاب، فتوقف الجميع عن الحركة ووقفوا مشدوهين.

وما إن سمعوا أن أريس ورفيقيه نجحوا، أدركوا هم أنهم قد فشلوا… لكن لم يجرؤ أحد على الاعتراض أو حتى رفع صوته أمام المراقب.

شعر كاي وكيرا بنشوةٍ عارمة وفَرَحٍ لا يوصف يتدفق في عروقهما.

لكن فجأة، قطع أريس الصمت بصوتٍ هادئ:

"وماذا عنهم؟"

التفتت الأنظار نحوه فورًا، وقد أشار بيده نحو بقية الطلاب.

ابتسم المراقب قليلًا، ثم قال:

"حسنًا… دعوني أشرح لكم. هم نجحوا كذلك، لكن طرقكم مختلفة. أنتم الثلاثة ستخضعون لاختبار النخبة، بينما هم سيجرون اختبارًا عاديًا… هل هذا واضح؟"

فهم الجميع الأمر عندها وأومأوا برؤوسهم في صمتٍ مطيع.

كان أريس يعرف هذه الحقيقة مسبقًا، لكنه تكلّم فقط ليُنهي الجدال بسرعة ويتوجه مباشرة إلى الجزء الثاني من الاختبار.

بعد ذلك أشار المراقب إلى ممرّين؛ أحدهما يقود نحو فصول النخبة، والآخر نحو الفصول العادية.

كانت تلك لحظة حاسمة، حيث بدت الحياة وكأنها ترسم لكل شخص طريقه… إلّا أريس، الذي أصبح هو من يكتب طريقه بيده.

انطلق بخطوات واثقة، وعن يمينه كاي وعن يساره كيرا يتبعانه بلا تردّد.

لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى وصلوا إلى قاعة الاختبار الثاني.

هناك كانت تقف مشرفةٌ بزيٍّ أنيق، وما إن تأكدت من هوياتهم حتى قالت بنبرة متعالية يملؤها الغرور، ومن الواضح أنها من النبلاء:

"أن تصلوا إلى هذه المرحلة وأنتم من عامة الناس… هذا يُعَدّ إنجازًا نادرًا. لكن لا تنسوا أنكم تدخلون اختبار النخبة ."

لم يلتفت إليها أريس، وكأنها لم تكن موجودة أصلًا، بينما عبس كاي بامتعاض، وأخرجت كيرا لسانها في سخرية وهما يتجاوزانها دون كلمة.

أمام بوابةٍ فخمة مرصّعة بالرموز، شعر أريس بتيار طاقةٍ خفيّ يتسرّب من خلفها، طاقةً أثقلت الهواء من حوله وأثارت قشعريرة خفيفة على جلده.

كانت رائحة المعدن البارد الممزوجة بعبقٍ غامض تتسلّل إلى أنفه، بينما لمعان البوابة تحت الضوء جعل المكان يبدو أكثر هيبة.

ابتسم بخفة وقال بصوتٍ يحمل حماسًا خافتًا:

"يبدو أن هذا لن يكون مملًا بعد الآن…"

مدّ يده ببطء، دفع البوابة الثقيلة بقوةٍ ثابتة، وفورًا انطلق منها ضوءٌ أبيض ساطع كاد أن يُعمي الأبصار، ليغمرهم جميعًا.

_____

اسف على تأخر في تنزيل فصل كانت مريض طول يومين .

2025/09/26 · 77 مشاهدة · 1294 كلمة
sir
نادي الروايات - 2025