مرّ الوقت شيئًا فشيئًا، وبدأت أشعّة الشمس تتسلّل ببطء، مثل جنود استطلاع يراقبون عدوًّا خفيًّا من خلف الضباب.
في تلك اللحظة، كان أريس قد استيقظ من نومٍ ثقيلٍ بعد ليلةٍ طويلةٍ من القتال ضدّ مغتالٍ من رتبة ثلاث نجوم.
ملامحه كانت شاحبة قليلًا، خاصّةً بعد أن سهر طويلًا، وعيناه تحملان أثر الإرهاق الممزوج ببرودة قاتلٍ متمرّس.
مدّ جسده بتنهيدةٍ خافتة، وسمع فرقعة عظامه وهي تستجيب ببطءٍ للتمدد، ثم نهض من السرير بخفّة، بينما خيوط الضوء الزاحفة عبر النافذة لامست بشرته كأنّها تختبر وجوده.
عبق الهواء الصباحيّ امتزج برائحة الحديد العالقة في المكان، تذكيرًا خافتًا بليلةٍ غارقةٍ في الدم.
كان قد أخفى الجثة في الليلة الماضية داخل مستودع النظام، وأزال كلّ أثرٍ يمكن أن يُدين وجوده هناك، قبل أن يتسلّل إلى غرفة نوم جيسون وجيسيكا كما لو أنّ شيئًا لم يحدث.
قال بصوتٍ منخفضٍ وهو يتفحّص المرآة، ناظرًا إلى عينيه البنفسجيتين العميقتين:
> "حسنًا… أعتقد أنّ عمّال تنظيف الأكاديمية وجدوا آثار القتال الآن."
---
في تلك الأثناء، كان فريق التنظيف في باحة الأكاديمية الخلفيّة يعمل بصمتٍ ثقيل.
رائحة الدم الجافّ اختلطت برائحة العشب الرطب، وعبق التراب المبلول تسلّل إلى أنوفهم كلّما مرّت نسمة باردة.
كانت أيديهم تتحرّك بخبرةٍ فوق الأرض المتشقّقة، بينما تتطاير شراراتٍ صغيرة من تعاويذ السحر التي تُنسَج عند أطراف المكان لإخفاء كلّ أثرٍ للدماء.
الخيوط الزرقاء الخافتة تلتمع للحظاتٍ قبل أن تتبدّد في الهواء مثل رمادٍ في مهبّ الريح.
همس أحدهم للآخر بصوتٍ متردّدٍ يشوبه القلق:
> "حتى الأرض تشرب دماءً كثيرة هذه الأيّام…"
ردّ الآخر وهو يمسح العرق عن جبينه بكمّ قميصه، ناظرًا حوله بتوجّس:
> "اصمت، لا نريد أن نثير لعنة من كان يقاتل هنا."
تبادل الاثنان نظراتٍ حذرة، ثم واصلا عملهما في صمتٍ تام، لا يُسمع سوى حفيف المكانس ووشوشة الريح بين الأشجار.
---
في تلك اللحظة، كان قائد الحرس المسؤول عن حماية جيسون وجيسيكا يقف أمام النافذة العالية في مكتبه.
ريح الصباح الباردة تداعب عباءته السوداء، فتتحرّك أطرافها كظلٍّ ينبض بالحياة.
عيناه تتابعان حركة ثلاثة جنودٍ يغادرون الأكاديمية على ظهور خيولٍ رماديّةٍ، تتطاير من تحتها غبار الأرض الرطبة.
كانت مهمّتهم واضحة: جمع معلومات عن أريس.
رفع القائد يده لذقنه، وصوته المبحوح يهمس لنفسه، بينما نظرته تتصلّب:
> "ذلك الفتى… لا يمكن أن يكون مجرّد طالبٍ عاديّ."
---
في الجهة الأخرى من الأكاديمية، في جناح النبلاء، ارتفع صدى الأصوات داخل قاعةٍ ضخمةٍ مضاءةٍ بأنوارٍ ناعمةٍ تنعكس على الطاولة المستديرة المصنوعة من خشبٍ أسودٍ فاخر.
عبق الشمع المحترق امتزج برائحة المسك النبيل، فيما ظلّ الدخان يتصاعد بخفّةٍ متراقصًا نحو السقف المزخرف.
جلس ستة أشخاص — ثلاثة رجالٍ وثلاث نساء — تحيط بهم هالةٌ من الغموض والهيبة.
ملامحهم متوتّرة، وأنفاسهم متقطّعة قليلًا. كان الهواء نفسه يبدو أثقل من المعتاد، وكأنّ الغرفة تحبس أسرارًا أكبر من قدرتها على الاحتمال.
قال أحد الرجال بصوتٍ جافّ، وهو يضرب بأصابعه على الطاولة بإيقاعٍ بطيء:
> "لقد فشل جيسون في مهمّته."
ردّت امرأةٌ ذات شعرٍ أخضر، وقد وضعت ساقًا فوق الأخرى وهي تنظر إليه بعينين نصف مغمضتين:
> "نعم، كلّنا نعلم ذلك… لكنّ الصمت الآن أفضل من الثرثرة."
تدخّل رجلٌ آخر، عيناه ضيّقتان كأنّهما لا تثقان بأحد، وصوته يحمل نبرةً حادّة:
> "وماذا سنفعل إذن؟ هل نترك الأمور تتعفّن؟"
رفعت امرأةٌ شابة رأسها، عيناها تلمعان بقلقٍ خفيّ، وقالت بنبرةٍ هادئةٍ تخفي ارتجافًا طفيفًا:
> "سنلتزم الصمت… وندع الأمر لجيسون وجيسيكا."
ارتفع صوتٌ ثالث، عميقٌ كأنه صادرٌ من أعماق غرفةٍ مغلقةٍ، بنبرةٍ مشكّكة:
> "لماذا؟ هل هناك سببٌ خفيّ؟"
تبادل الحاضرون النظرات لثوانٍ قبل أن يتقدّم الرجل ذو الشعر الأسود الجالس في المقدّمة — واضح أنّه الرئيس — وقال بنبرةٍ باردةٍ متّزنةٍ تخلو من الانفعال:
> "بحسب ما وصلنا… يبدو أن هوية أريس ليست عادية. المغتال من رتبة ثلاث نجوم الذي أُرسل لقتله… تمّ العثور على رأسه في غرفة نوم جيسون وجيسيكا."
ساد الصمت للحظةٍ، تلاه صدى أنفاسٍ متسارعة.
انفجرت إحدى النساء بدهشةٍ خافتة:
> "مستحيل! كيف يمكن أن يحدث ذلك؟"
تبعها صوتٌ مرتجفٌ آخر:
> "أجل… هذا غير معقول!"
رفع الرئيس نظره ببطء، كانت عيناه أشبه بمرآةٍ مظلمةٍ تعكس القلق المكنون في قلوبهم.
قال بهدوءٍ قاتلٍ كأنه يحكم بالإعدام:
> "لهذا السبب أمر الزعيم بألّا نحرك ساكنًا قبل أن نعرف من يقف وراءه… إن كان وراءه أحدٌ أصلًا."
هزّ أحد الرجال رأسه بتوتّرٍ وهو يبتلع ريقه:
> "نعم… أعتقد أن ذلك هو الخيار الصائب."
خيم الصمت مجددًا، لا يُسمع سوى طقطقة الشموع وهي تذوب ببطء، كأنها تحترق على أنغام الغموض الذي يزداد ثقلًا في أجواء القاعة.
هؤلاء كانوا أعضاء مجلس نبلاء الأكاديمية.
لم يكن أحد يعرف الزعيم الحقيقيّ للمجلس سوى الشابّ الجالس في المنتصف، وهو المؤسس الذي أنشأه قبل خمس سنوات، في بداية دخوله الأكاديمية.
أخضعوا النبلاء ذوي النفوذ الضعيف، وشكّلوا شبكةً كاملةً من الاستخبارات والتحكّم في التجارة، والسيطرة على القانون بين الطلاب النبلاء والعاديين.
يحملون طابع النبلاء في المظهر، لكنهم يسحقون بلا رحمة كلّ من يعارض مصالحهم.
لكنّهم لم يكونوا الوحيدين المهتمّين بالقضيّة…
كان هناك طرفٌ آخر — آرثر، وليّ العهد.
في قصره الخاص، جلس آرثر أمام مكتبه المزيّن بخرائطٍ ووثائق كثيرة، بينما يقرأ تقريرًا بتمعّن.
لمعت ابتسامةٌ ساخرة على وجهه وهو يهمس:
> "هؤلاء الجرذان يعتقدون أنفسهم نمورًا."
تمتم آرثر ساخرًا، لكنّ عينيه امتلأتا بوميضٍ من الحذر والفضول.
في أعماقه، كان يعلم أن تلك "الجرذان" تنتمي إلى عائلاتٍ نبيلةٍ ذات نفوذٍ اقتصاديٍّ قويّ، وأنّ وراءهم مصالح متشابكة كشبكة عنكبوتٍ في الظلال.
> "لكن الأهمّ… من هو أريس؟ شخصٌ يمتلك موهبةً، وقوّة، وذكاءً كهذا… كيف يمكن أن يكون مجهولًا؟"
ألقى نظرةً على التقرير مجددًا، وتذكّر قضية المغتال الذي نشر الفوضى في مدينة القلب قبل أسبوع، والذي لُقّب بـ سيد الليل.
> "هل هناك علاقة بينهما؟"
هذا السؤال ترنّح في ذهنه للحظات، كصوتٍ يتردّد داخل غرفةٍ فارغة.
لم يكن آرثر وليّ العهد عبثًا يُعدّ من بين أذكى ثلاثة أشخاصٍ في الامبرطورية شمس، فبرغم قلّة الأدلة، كان قادرًا على جمع الخيوط في صورةٍ واحدةٍ، ولو ضبابيةٍ وغير مؤكّدة.
> "إذن يا أريس…" قال وهو يحدّق من النافذة نحو السماء الرمادية، "هل أنت بيدقٌ أم ملكٌ على رقعة الشطرنج؟"
لكن هل أريس حقًا بيدق أم ملك في رقعة الشطرنج؟ لا، ليس هكذا، فهو اليد الخفية التي تحرك القطع، واللعبة الحقيقية لم تبدأ بعد.
_____
مرّ الوقت، وحان موعد الدرس الخاص بالأستاذة مي.
عمّ الهدوء أرجاء القاعة بينما تسلّلت أشعة الشمس من النوافذ العالية، ترسم خطوطًا ذهبية على الطاولات الخشبية المصقولة، كأنها خيوط من زمنٍ غابر عادت لتروي حكاية نُسيت منذ قرون.
كانت رائحة الورق القديم تمتزج بالحبر الدافئ، بينما أزيز الريح الخفيفة يمرّ من الشقوق ليحمل معه إحساسًا غامضًا بالعراقة.
وقفت الأستاذة مي أمام السبورة بخطواتٍ ثابتة، وفي يدها عصا خشبية داكنة تشير بها إلى خريطة ضخمة علّقت على الجدار، وقد تآكلت أطرافها بفعل الزمن.
قالت بصوتٍ مفعمٍ بالوقار، يحمل في نبراته صدى الماضي:
> "كما تعلمون، درس اليوم يتناول واحدة من أعظم الحقَب التي غيّرت وجه التاريخ في هذا العالم—حقبة الثورة الكبرى. كانت بداية عصرٍ جديد، وولادة نظامٍ من رماد قرونٍ من الحكم الحديدي. في تلك الأيام، انهارت الإمبراطورية المقدّسة التي حكمت العالم لخمسة آلاف عام، وسقطت معها إمبراطورية المورلوك التي سيطرت على بحر المرجان وسواحله العتيقة."
صمتت قليلًا، ورفعت نظارتها برفق وهي تحدّق في وجوه الطلاب المتحفّزة.
انعكست أنوار الشمس على زجاجها، كأنها شرارة من تلك العصور القديمة.
> "بسقوط الإمبراطوريتين، انطفأ نور السيطرة المطلقة، وبدأت الأرض تنفض غبار العبودية.
آنذاك، كانت القوة سرًّا لا يعرفه إلا القلائل من الأسر الحاكمة، لكن بعد انهيار العروش، بدأت المعرفة تنتشر كالنار في هشيم الطموح البشري."
اقتربت من النافذة، وقد بدت وكأنها تراقب الماضي يتجسّد بين الغيوم الرمادية، وقالت بنبرةٍ حنينٍ ممزوجةٍ بالرهبة:
> "في تلك العصور، وُلدت تقنيات التأمل الداخلي.
كانت في البداية طقوسًا غامضة يمارسها كبار الفرسان والعلماء في الخفاء، لكن مع الوقت، انتقلت إلى العامة. صار الناس يجلسون في الساحات والمعابد القديمة، يستمعون إلى نبض أجسادهم، ويحاولون فهم الطاقة التي تسكنهم.
ومن هنا بدأت مدارس الفرسان تُعلّم كيفية تسخير الهالة، ومدارس السحر تسعى لربطها بعناصر الطبيعة، بينما الكيميائيون اكتشفوا أن المادة نفسها يمكن أن تُطهّر أو تُدمّر بواسطة تلك الطاقة."
مرّت لحظة صمت، لم يُسمع فيها سوى حفيف أوراق الشجر خلف النوافذ.
ثم تابعت الأستاذة مي بصوتٍ أكثر عمقًا، كأنها تُعيد إحياء ذاكرة الأرض:
> "كانت الهالة آنذاك أشبه بنبض الكائن الحيّ، تختلف في اللون والشكل والقوة حسب من يحملها.
هالاتٌ كاللهب تشتعل بالعزم، وأخرى كالضباب تنساب بهدوءٍ ودهاء. ومع تطوّر المعرفة، بدأ العلماء يمزجون بين السحر والهالة والكيمياء ليصنعوا ما سُمّي لاحقًا بـ العصر الممزوج—حقبة تفجّرت فيها الاكتشافات كما تتفجّر البراكين بعد سباتٍ طويل."
رفع بعض الطلاب رؤوسهم بدهشة، بينما آخرون انهمكوا في تدوين كل كلمة.
كانت عيونهم تلمع بنفس البريق الذي وصفته، كأنهم يشهدون انبعاث الحضارات القديمة أمامهم.
تابعت بنبرةٍ أخف، لكنها أكثر حزنًا:
> "غير أن هذا النور لم يدم طويلاً... فكلّ اكتشافٍ عظيمٍ يجلب معه طمعًا أعظم.
اشتعلت الحروب من جديد، لا بين الملوك فقط، بل بين العلماء والفرسان أنفسهم.
الأمم تمزّقت، والمدن صارت ساحاتٍ يختبر فيها الناس حدود قوتهم.
ومن تلك الفوضى، خرج أولئك الذين سُمّوا لاحقًا بـ الفرسان الحقيقيين—من اختاروا حماية التوازن بدلًا من الهيمنة."
وضعت العصا جانبًا، ورفعت نظرها نحو الخريطة القديمة.
> "لقد كانت تلك الأيام بداية كل شيء...من رمادهم بُني عالمنا، ومن أخطائهم تعلّمنا كيف نسير في طريقنا دون أن نُعيد مأساتهم."
ساد الصمت، وكأن الزمن نفسه توقّف ليستمع.
كانت الريح تمرّ على النوافذ بصوتٍ خافتٍ يشبه أنين العصور الغابرة،وفي تلك اللحظة، شعر الجميع بأنهم لا يدرسون التاريخ… بل يعيشونه من جديد.