بسرعة وصل أريس إلى مكتب تسجيل الدخول، حيث وُضعت عدة أكشاك مخصّصة للتسجيل في أكاديمية القلب.
كانت هناك عشرة صفوف طويلة من الأطفال والشبان يقفون أمام الأكشاك، يتحركون بتململ تحت أشعة الشمس الحارقة. تجوّل أريس بعينيه بهدوء ولاحظ أن جميع الواقفين من عامة الناس، دون أي أثر لنبيل واحد أو لأعراق أخرى.
كان الأمر مفهوماً بسهولة؛ فالنبلاء يحصلون مباشرة على دعوات دخول خاصة تسمح لهم بالالتحاق بفصول النخبة. غير أن عدد هذه الدعوات محدود، والنبلاء ذوو الإمكانيات الضعيفة لا يمكنهم دخول تلك الفصول. وبسبب غرورهم وكبريائهم، يرفضون الانضمام إلى الفصول العادية مع عامة الناس. بالنسبة لهم، هم قمة هذا العالم، فكيف يختلطون مع "ديدن" العامة؟ ألا يكفي هؤلاء شرف تنفّس الهواء ذاته معهم؟ لذلك يفضّل معظم النبلاء التوجّه إلى أكاديميات أخرى أو جلب معلمين خصوصيين إلى منازلهم.
أما بالنسبة للأعراق الأخرى، فقد جرى اختيار نخبة منهم من ذوي المكانة العالية. ومنعاً لنشوب صراعات، تقرر تطبيق سياسة اندماج تدريجية، بحيث يكون دخولهم إلى أكاديمية القلب بشكل بطيء ومنظّم.
كان الصف طويلاً، والشمس قد تحولت إلى لهيب يلسع البشرة، فتفجّرت حبات العرق على وجوه الأطفال، وانبعثت منهم روائح العرق الثقيلة. كثير منهم أصبحوا غير صبورين، يتململون، يجرّون أقدامهم على الأرض، أو يمسحون وجوههم بأكمامهم المبللة.
أما أريس، فوقف بهدوء تام، لا يكترث. في النهاية، هو الرجل الذي قاتل ملك الشياطين وختمه؛ فماذا تعني له حرارة شمس صيفية عابرة؟
تمتم لنفسه وهو يراقب الصف:
«منذ اللحظة التي تقف فيها هنا، يبدأ اختبارك الحقيقي…»
تذكر ماضيه حين تجسّد في هذا العالم للمرة الأولى، يوم اكتشف أنه يمتلك إشعار قبول رسمي من الأكاديمية. ظنّ حينها أن دخوله مضمون، لكنه صُدم عندما لم يُعترف به بسبب كونه يتيماً بلا مال.
قد يتساءل البعض: لماذا لم يدخل مباشرة إلى فصول النخبة بما أن إشعار القبول صدر من الأكاديمية نفسها؟
الجواب كان مُراً: لم يستطع دفع ثمن فتح "الباب الخلفي".
ابتسم بمرارة وهو يتمتم لنفسه:
«كلما أتذكر ذلك، أشعر أنني كنت أحمق في ذلك الوقت… كيف جرؤت على التفكير بالاختلاط مع النبلاء؟»
لكن هذه المرة، لا ينوي استخدام ذلك الإشعار إلا للتسجيل العادي، دون أن يحرج نفسه أو يضع العراقيل أمامه. أما فصول النخبة؟ دخولها سيكون أسهل لاحقاً، لأن مدير أكاديمية القلب لا يهتم بالمكانة الاجتماعية، بل بالموهبة.
وأريس يملك الموهبة والخبرة معاً، لذا كان واثقاً من أن الأمر سيُحسم لصالحه.
وأخيراً، وصل دوره عند الكشك حيث امامه شخص واحد و يكون دوره . كان المسؤول عن عملية التسجيل شاباً بدا واضحاً أنه طالب من الأكاديمية، رغم مظهره البسيط نسبياً.
كان يرتدي سترة طويلة تصل إلى منتصف الفخذ، مصنوعة من قماش صوفي ناعم، بلون أساسي أنيق، مع تطريز فضي يلمع تحت أشعة الشمس على الأكمام والحواف. أزرار معدنية لامعة منقوشة بشعار الأكاديمية على شكل قلب تتخلله صاعقة صغيرة.
سرواله الضيق بلون داكن بدا عملياً، مناسباً للحركة والتدريب، يثبّته حزام جلدي أنيق يحمل مشبكاً مطبوعاً عليه شعار الأكاديمية. أما حذاؤه الجلدي الطويل الذي يصل إلى الركبة، فقد صُقل بعناية حتى انعكس عليه الضوء.
فوق كتفيه، انسدلت عباءة خضراء تحمل الرقم (3) مطرزاً بخيوط فضية لامعة.
عرف أريس هذا الزي جيداً: إنه لباس طلاب الفصول العادية، حيث يتميز بالفضي. أما فصول النخبة فيُضاف إليها اللون الذهبي. الرقم (3) دلّ على أنه طالب في السنة الثالثة، بينما اللون الأخضر للعباءة كشف أنه من قسم السحرة.
رفع أريس عينيه قليلاً يتأمل ملامح الشاب، الذي بدا مشغولاً بالدفاتر والأوراق الموضوعة أمامه، قبل أن ينقل نظره إلى وجوه الواقفين خلفه في الصف، ليلحظ تعبهم وإرهاقهم. عندها، ابتسم بهدوء وهو يخطو خطوة للأمام، اخرج إشعار القبول في يده.
وضع اريس ابتسمت بتوتر، حيث بدا أن الأمر كله ما زال يشعرها بالقلق.
رفع الشاب المسؤول عن التسجيل رأسه، ورأى ابتسامة أريس المتوترة وملامح الخوف من الفشل في عينيه، فابتسم بلطف.
قال بصوت هادئ يحمل دفئًا خفيفًا:
"مرحبًا، لا داعي للتوتر."
ارتعشت أنفاس أريس قليلًا وأجاب وهو يعض شفته:
"آه، شكرًا… أشعر بتوتر شديد."
ضحك الشاب بهدوء وقال بنبرة مطمئنة:
"ههه، لا بأس. أرني… أراك شخصًا حرًا."
أومأ أريس برأسه مثل طفل مطيع، ثم أخرج بطاقة التعريف وسلمها للشاب.
أخذ الشاب البطاقة ووضعها على جهاز سحري. بعد ثوانٍ قليلة صدر صوت رنين معدني واضح.
قال الشاب بابتسامة:
"تم التأكيد، تفضل."
وأعاد البطاقة إلى أريس، الذي قبض عليها بيده قبل أن يعيدها إلى جيبه، حيث شعر ببرودة سطحها المعدني تلامس أصابعه.
كانت هذه البطاقة أشبه ببطاقة هوية من حياته السابقة، لكنها هنا تحدد إن كان الشخص حرًا أم عبدًا، أو حتى إن كان مطلوبًا للقبض عليه.
مدّ أريس يده وأوقف الشاب قبل أن يبدأ بملء الأوراق:
"سيدي، لدي هذه الورقة… سلّمني إياها أبي قبل موته."
وبسرعة استغل أريس ودّ الشاب وأخرج إشعار القبول وسلمه له.
ارتسمت على وجه الشاب ملامح حيرة من تصرف أريس، لكنه أخذ الورقة وبدأ بقراءتها بعناية، بينما كان صرير ريشته يملأ الصمت.
في تلك اللحظة، فعّل أريس "عين الملك".
[الاسم: باين
الألقاب: شخص طيب (يساعد المحتاجين دون تردد) / مجتهد (يعمل بجد ويحقق نتائج بنصف جهد)
الفئة: ساحر ذو حلقتين
الصفة: الرياح
الموهبة: B
المهارات: إدارة / سحر الرياح]
تمتم أريس بصوت خافت، وعيناه تلمعان:
"هذا باين… ليس سيئًا. يمكنه أن يدخل برج السحر بعد التخرج."
ظهر وميض مفاجئ في عيني باين كأنه صُدم للحظة، لكنه أخفاه بسرعة. إلا أن أريس، بعينيه المترقبتين، التقط ذلك بوضوح.
وضع باين ورقة القبول على الطاولة ونظر إلى أريس قائلًا:
"صديقي، هذه وثيقة صحيحة. يمكنك إحضارها معك يوم الدخول مع ورقة التسجيل."
تغيرت نبرته قليلًا؛ فبعد أن كانت هادئة ومريحة، أصبحت أقرب وأدفأ.
قد لا يلاحظ أحد ذلك، لكن أريس شعر أن هناك أمرًا أكبر، كأنه أمام صديق قديم.
لكنه لم يتوقف طويلًا، ما دام كل شيء يسير في الطريق الصحيح ، هذا هو الأهم.
أخذ أوراقه وغادر الصف حيث تغيرة ملامح وجهه و عاد الي طبيعته و انطلق متجهًا نحو العنصر الذي قد يساعده كثيرًا.
---
كان أريس يتجول في مدينة القلب.
المدينة تنبض بالحياة: الباعة يصرخون على بضائعهم، النساء يتجولن وهن يتحدثن، المغامرون يأتون ويذهبون بملابسهم الملطخة بالغبار والدروع التي تصطكّ مع خطواتهم، بعضهم يحمل غنائم، وآخرون في طريقهم للبحث عن المزيد.
كانت هذه المدينة الخارجية للأكاديمية، وتُعد واحدة من أهم المدن التجارية والعسكرية في هذا العالم.
سار أريس في الشوارع الرئيسية المزدحمة، ثم بدأ يغير اتجاهه، متسللًا إلى الأزقة المظلمة، حيث تختفي أصوات الضوضاء شيئًا فشيئًا لتحل محلها رائحة العفن والقمامة.
أي مكان فيه ضوء، فيه أيضًا ظلام. وهذه الأحياء الفقيرة لم تكن استثناءً.
هنا، ينتشر المتشردون والأيتام واللصوص.
كانت الرائحة كريهة، مزيجًا من فضلات عالقة ورطوبة متعفنة، والجدران السوداء الملطخة بالدخان تعكس شعورًا بالخنق.
اقترب بعض اللصوص من أريس محاولين سرقته، لكنهم تجمدوا في مكانهم بعدما أحسوا ببرودة قاتلة تنبعث من جزء صغير من "نية قتله". ارتجفت أكتافهم كأنهم جُمدوا.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى وصل أريس إلى متجر قديم، بناؤه الخشبي أسود متعفن كأنه تآكل من الفساد.
تمتم وهو يرفع رأسه نحو اللافتة المهترئة:
"أذكر أن ريان أخبرني أنه حصل على قلادة الظل من هذا المتجر."
ريان… بطل وصديق أريس. والعنصر الذي يبحث عنه الآن هو "قلادة الظل".
حسب كلام ريان، هذه القلادة قادرة على إخفاء المعلومات عن كل وسائل الكشف أو المعرفة. وهذا ما يفضله أريس.
دفع الباب، فرن الجرس بصوت معدني حاد:
رنين…
فورًا ضربت أنفه رائحة عفن خانقة، لكن ملامحه بقيت ثابتة وهو يجول بنظره في المتجر.
رأى كتبًا متراكمة، أدوات صدئة، معادن خام، عظام وحوش وبشر متناثرة.
خلف منضدة خشبية جلست امرأة عجوز، وجهها مليء بالتجاعيد، شعرها الأبيض يتساقط كخيوط باهتة، أنفها معقوف، وعيناها الغائمة مركزتان على كتاب بين يديها.
استعمل "عين الملك" عليها، لكنها لم تُظهر سوى أنها امرأة عجوز عادية.
لم يهتم كثيرًا، وبدأ يتجول بين الرفوف، عينيه تمسح كل شيء بدقة.
وبسرعة، وجد القلادة:
[الاسم: قلادة الظل
النوع: إكسسوار
الفئة: أسطوري
الوظيفة: إخفاء المعلومات الخاصة من جميع وسائل التجسس / اندماج مع الظلال عبر توجيه طاقة الظلام، مما يسمح للمستعمل بالتحرك بحرية داخلها
الوصف: كانت يومًا ما قلادة سيد اللصوص الذي أجبر النبلاء والحكام على إخفاء كنوزهم خوفًا منه]
ارتسمت على وجه أريس ابتسامة خفيفة، وهمس لنفسه:
"يبدو أن هذا العنصر مخصص لي أنا… وليس لريان."
بينما كان يستعد للمغادرة، لفت انتباهه صندوق خشبي مكعّب الشكل، فيه ثقبان؛ أحدهما أشبه بفم يبتلع، والآخر مخرج يلفظه.
[الاسم: صندوق تولف
النوع: معدة
الفئة: أسطوري
الوظيفة: يبتلع أي شيء. إن وُضع عنصران من النوع نفسه داخله، يقوم بدمجهما ليُخرج عنصرًا يجمع قدراتهما
الوصف: صندوق صنعه أعظم كيميائي #### بهدف الدمج ####]
اتسعت حدقتا أريس، قلبه يخفق من المفاجأة. لم يتوقع مكسبًا غير متوقع كهذا. بدا الصندوق قويًا بشكل استثنائي.
"لكن… لماذا الاسم مخفي؟ وماذا عليّ أن أدمج؟"
في الحقيقة، كان أريس يتمنى لو يعرف اسم هذا الكيميائي الأسطوري، لكن بدا الأمر مستحيلًا.
تجول مرة أخرى في المتجر، لكنه لم يجد شيئًا آخر مفيدًا، فقرر المغادرة قبل حلول الليل.
اقترب من المنضدة وقال:
"أيتها الجدة، بكم هذان؟"
رفعت العجوز رأسها أخيرًا عن الكتاب، ونظرت إلى أريس بعينيها الغائمتين وابتسمت بلطف.
ارتجف قلبه لوهلة، وكأن شيئًا مألوفًا يتسرب إلى داخله.
"شاب جيد… لديك عين جيدة."
ابتلع أريس ريقه وأجابها بهدوء:
"شكرًا… بكم هما؟"
"بعشرة عملات نحاسية."
اتسعت عينا أريس بدهشة:
"هل هذا صحيح؟ ألم تخطئي في السعر؟"
أومأت العجوز، دون نقاش.
لم يجادلها أريس، بل دفع الثمن وحمل القطعتين، ثم غادر.
تابعت العجوز ظهره بعينيها، قبل أن تتمتم بصوت خافت:
"لقد كبر كثيرًا منذ آخر مرة…"
فجأة خرج صوت بارد من زاوية مظلمة:
"نعم… أصبح الآن شابًا قويًا. هل تريدين أن نحميه يا سيدتي؟"
ردت العجوز بابتسامة هادئة:
"لا… لقد كبر، ويجب أن يستمر في النمو. في النهاية، سوف يعود."
أما أريس، فقد كان عقله يتسابق بالأفكار وهو يسير في الشوارع المظلمة:
"ماذا يحدث؟ ريان قال إنه اشتراها بعملة فضية، ولولا أن معلمتها أخبرته بقدرة القلادة لما اشتراها. لماذا إذن باعتها لي بهذه السهولة؟"
ظل الإحساس الغريب يلاحقه، إحساسٌ مألوف كأنه كان يقف أمام شخص قريب منه…
______
اتمنى ان يعجبكم فصل و من أجل دعم اترك تعليق لي مشاركة رأيكم