حلَّ الصباح وارتفعت الشمس لتعلن عن فجر يومٍ جديد، وبدأت مدينة القلب تستيقظ مثل قلبٍ يضخ الدماء في جسدٍ حي.

كان بعض التجار يفتحون متاجرهم ببطء، وآخرون ينشرون أغراضهم فوق قطع قماشٍ بالية تفوح منها رائحة الغبار، بينما راحت الحانات تفتح أبوابها لاستقبال الزوار، وانبعثت روائح الخبز الطازج والدخان الخفيف من مواقد الشوارع، تختلط مع نسيمٍ باردٍ قادم من الأزقة.

فجأةً، اخترقت الأجواء صرخة حادة مزّقت سكون النشاط اليومي:

"آآآآآآآآآه!"

في أحد الشوارع الجانبية للمدينة، كانت هناك امرأة في منتصف عمرها ملقاة على الأرض، جسدها كله يرتجف من الخوف، وبشرتها شاحبة كأن الدم قد فارقها.

ظهر رجل في منتصف العمر، ذو مظهر عضلي، يرتدي ملابس حدادٍ متسخة وعليها بقع فحمٍ سوداء، وفي يده مطرقة ثقيلة تفوح منها رائحة الحديد والعرق.

صرخ بصوتٍ مرتعش، وعروقه بارزة من التوتر:

"عزيزة! ماذا حدث؟"

ركض بأقصى سرعته نحوها، ثم انحنى بجانبها، واضعًا يده على كتفها المرتجف.

نظرت المرأة إلى الرجل، وعيونها الواسعة ممتلئة برعبٍ خالص، بينما كانت يدها ترتعش بشدة، لترفع إصبعها المرتجف مشيرةً إلى الأعلى.

اتبع الرجل اتجاه يد زوجته، وما إن رأى ما تشير إليه حتى اتسعت عيناه، وارتجف صدره بصدمةٍ جعلت أنفاسه تتقطع كأن الهواء يرفض الدخول.

اقترب العديد من الناس، وجوههم شاحبة يعلوها الخوف والارتباك، وأنفاسهم متقطعة، وعينهم جميعًا كانت معلقة على مبنى من أربعة طوابق.

لكن ما جذب أنظارهم لم يكن المبنى، بل الجثة المعلّقة من شرفةٍ بحبلٍ غليظ مربوط حول الذراعين.

كانت الجثة ضخمة كخنزيرٍ مسلوخ، ترتدي ملابس ممزقة ومليئة بالدماء لدرجةٍ أن بركةً حمراء لزجة تشكلت أسفلها، رائحتها الحديدية خانقة حتى كادت تسد حناجر المتجمهرين. وعلى بطن الجثة كان مرسومًا رمز "X" بخطٍ عريضٍ قانٍ.

الجميع تعرّفوا فورًا على الجثة: لقد كان زعيم عصابة "الدب البني".

ساد صمتٌ ثقيل كالصخرة فوق الشارع، قبل أن يقطعه صوت بكاء مكتوم وصراخ ذهولٍ من بعض المتجمهرين.

وفي اللحظة التالية، ظهر عدد من الجنود بوجوه صارمة، وأسلحتهم تلمع في ضوء الشمس، وأبعدوا الناس بعنفٍ، محيطين بالمكان.

صرخ قائد الجنود بصوتٍ جهوريٍ أجش، هزّ صدور الحاضرين:

"هذه المنطقة تحت التفتيش!"

انتشر الخبر بسرعةٍ كالنار في الهشيم، حتى غدا حديث كل مكان.

داخل إحدى الحانات، حيث رائحة الشراب واللحم المشوي تختلط مع الدخان والعرق، جلس العديد من المرتزقة يتناولون طعامهم ويثرثرون.

قال أحدهم وهو يمسح فمه بيده المتسخة:

"هل سمعت عن الخبر؟"

أجابه آخر: "تقصد عصابة الدب البني؟"

"نعم… سمعت أنهم أُبيدوا عن بكرة أبيهم."

"ليس هذا فقط… لقد عُلّقت جثة الزعيم أيضًا."

"أجل، هذا صحيح، ولم يعثروا على أي شيء في المبنى بأسره."

"يا رجل… من الذي فعل هذا؟"

"مهما يكن، فهذا أفضل… لقد تخلصنا من القمامة. كانوا يستغلون عددهم ويتنمّرون على الضعفاء."

كان الحديث كلّه يدور عن إبادة العصابة. بعض الأصوات ارتجفت من الصدمة، وبعضها حمل نبرة خوفٍ، وأخرى امتلأت بالشماتة.

في زاوية مظلمة من الحانة، جلس شاب ذو شعرٍ رمادي، وجهه وسيم، عيناه البنفسجيتان تعكسان بريقًا هادئًا باردًا، وعلى طرف فمه ندبة عمودية صغيرة تكاد تخفيها ملامحه الجامدة.

ارتدى ملابس بسيطة من قطنٍ أسود نظيف، ورغم بساطتها بدت مرتبة وأنيقة.

كان يتناول وجبته ببطءٍ وهدوء، تقطعها فقط أصوات مضغ اللحم الطري ورائحة الدهن المشوي التي علقت بأنفه. لم يظهر على ملامحه أي أثرٍ للصدمة مما حدث، بل بدا وكأن كل ما يجري لا يعنيه.

لكن الحقيقة أن هذا الشاب لم يكن سوى أريس… هو من أباد عصابة الدب البني بأكملها.

تمتم بصوتٍ خافتٍ وهو يضع كأس الشراب على الطاولة، وصوت الزجاج يرن بخفة:

"يبدو أن الأخبار قد انتشرت…"

كان أريس يتوقع سرعة انتشار الخبر في كل مكان، خاصة بعد أن علّق جثة الزعيم على الملأ.

ابتسم ابتسامة باردة وقال في نفسه:

"يجب أن أنتهي بسرعة من طعامي."

كان يحتفل في داخله، فقد أصبح ثريًا بعد أن نهب ثروة العصابة ليلة البارحة. ولهذا دعا نفسه إلى وليمة خاصة، اشترى فيها الكثير من اللحم الطازج اللذيذ.

ورغم أنه يملك ما يكفي من الطعام في منزله بعد الغنيمة، إلا أنه أراد الخروج لشراء بعض الأغراض اللازمة لصناعة جرعة خاصة، تساعده على تقوية جسده والوصول إلى المستوى الذي يسمح له بممارسة تقنية تأمل الهالة.

بسرعة انتهى من تناول طعامه، وشرب عصيره حتى آخر قطرة، ثم مسح فمه من الدهن بمنديل خشن. أخرج قطعة فضية ووضعها على الطاولة، ثم خرج بهدوء.

لم يتسبب خروجه في أي ردة فعل، إذ كان الجميع منغمسين في حديثهم حول ما حدث لعصابة الدب البني.

حتى في الشوارع، ازدادت دوريات الحراس بشكلٍ ملحوظ، وصوت خطواتهم المعدنية يملأ الأزقة.

لحظ أريس كل شيء بعينيه الباردتين.

تمتم لنفسه وهو يضع يده خلف ظهره:

"الآن، المدينة بأكملها مثل قدرٍ على نارٍ تهتز… الحراس يشعرون بالإهانة، العصابات الأخرى ترتجف ككلاب ضالة، التجار يتهامسون بين الخوف والارتياح، وحتى الأكاديمية ستبدأ بتحريك عيونها السرية. إبادة عصابة بأسرها في ليلة، من دون صوت قتال… كيف حدث هذا؟ الاين سوف يتحرك الجميع من أجل مصلحتهم، وستتحول إلى نيرانٍ تبتلع الأطراف جميعها في دوامة دموية."

لم يكن أريس يهتم بما سيحدث، بل على العكس، كان سيستغل هذه الفوضى لإيجاد "قطعة بيدق" مناسبة للسيطرة على جزء من السوق السوداء.

كان أريس في البداية يريد إبادة العصابات وجمع أموالهم، لكنه غيّر رأيه:

"لماذا أقتلهم جميعًا؟ شخصٌ واحد أجعله يسيطر على العصابات كلها من أجل جمع المال والموارد لي."

بسيطرته على العصابات يمكنه بناء غرفة تجارية على سطح المدينة، حيث يوفر رجال العصابات الحراسة والحماية، فيخفي أعماله بينما يسيطر على جزءٍ من السوق السوداء.

أما بالنسبة للهدف، فهناك ثلاثة أشخاص مرشحون للسيطرة على العصابات.

بينما كان أريس يفكر، كان يتحرك بخطواتٍ سريعة، يتجنب أعين الجنود ودورياتهم، حتى وصل إلى متجر يبيع قطعًا مستعملة.

لكن هذا لم يكن متجرًا عاديًا، بل مجرد تمويه. العمل الحقيقي كان في الخلف: هنا تباع المعلومات السرية، والمعادن النادرة، واللحم ودماء الوحوش، والأعشاب السحرية، وحتى الجثث البشرية والقبور المسروقة.

بالطبع، هوية الطرف الآخر لم تكن سهلة. في حياته السابقة زار أريس هذا المكان كثيرًا ويعرف كل شيء عنه، بل ويعرف أن هذا المتجر ليس وحيدًا، بل سلسلة كاملة بفروعٍ تمتد من عاصمة الإمبراطورية "شمس" إلى مدن النبلاء والممالك المجاورة. وصاحب هذه الشبكة لم يكن سوى ولي العهد نفسه… في نفس عمر أريس، خمسة عشر عامًا.

"بصراحة… ما زلت مصدومًا من أن هذا المكان ملك لولي العهد آرثر."

كان أريس قد ارتدى رداءً أسود طويلًا غطى رأسه، ووضع قناعًا على وجهه. في النهاية هو هنا لشراء موارد ممنوع بيعها دون ترخيص، كما أنه لا يريد أن تصل معلوماته إلى آرثر، أو أن تصبح دليلًا على أفعاله. فهو يعرف أن آرثر ذو عقلٍ حاد، لا يفوّت شيئًا.

دفع أريس الباب، وفورًا رن الجرس:

رنين… رنين…

كان المتجر كما يذكره أريس، غير أن من يعمل هنا الآن عجوزٌ أحدب.

في حياته السابقة، لم يزر هذا المكان إلا بعد عشر سنوات من عيشه في هذا العالم.

كان الرجل العجوز خلف المنضدة أحدب الظهر، منتصف رأسه فارغ من الشعر بينما بقي الشعر على الجانبين، يشكل دائرةً من تجاعيد الزمن التي ملأت وجهه. عينٌ كبيرة وأخرى صغيرة، أنفٌ معقوف كبير، وفمٌ لا يحتوي إلا على سنٍ واحدة.

اقترب أريس منه.

"سيدي، في ماذا أساعدك؟"

تكلم العجوز بهدوء وهو يفحص أريس بنظرة متفحصة.

"هل تبيع شيئًا غير عادي؟"

خرج صوت أريس هادئًا من خلف القناع، لا يحمل غرورًا ولا خنوعًا.

ضحك العجوز بصوتٍ أجش، يهتز ظهره الأحدب صعودًا وهبوطًا:

"هوهوهو… سيدي، يبدو أنك جئت مستعدًا."

"نعم أو لا."

جاء صوت أريس باردًا هذه المرة، كالسكين.

رفع العجوز يديه ببطء وهو يقول:

"لا تغضب، سيدي… لم أقصد شيئًا."

ثم أومأ برأسه وأضاف:

"نعم يا سيدي، نبيع. ماذا تريد؟"

تكلم أريس بسرعة، وكأنه يقرأ قائمة محفوظة:

"زجاجة لتر من دم وحش منخفض الرتبة، وخمسة كيلوغرامات من لحم وحش منخفض الرتبة، ومجموعة من حزمات : زهرة دموية، وقصب عظم أبيض، ولبب سام، وأشواك حمراء، وثلاث غدد سم لأفعى ذات قرنين."

أومأ العجوز الأحدب وقال:

"انتظر هنا يا سيدي، سأحضر ما طلبته."

قفز من مقعده، أمسك بعكازه، واتجه بخطواتٍ متثاقلة نحو الباب الخلفي.

وقف أريس ينتظر، يسمع صوت خطواته البطيئة على الأرضية الخشبية.

لم يتأخر العجوز طويلًا، وعاد وهو يحمل صندوقًا خشبيًا على ظهره المنحني.

وضعه على المنضدة وفتحه. كان كل شيء في مكانه، تفوح منه روائح الدم والعشب الطازج واللحم النيئ.

قال أريس ببرود:

"كم الثمن؟"

أجابه العجوز بعد أن عدّ بأصابعه:

"حسنًا… خمسون قطعة فضية للزجاجة، وخمس وعشرون للحم، وستون للأعشاب، وثلاثون للغدد… المجموع مئة وخمس وستون قطعة فضية."

حسبها أريس بسرعة، ثم أخرج كيس المال وألقاه على المنضدة، فصدر صوت معدني ثقيل.

عدّ العجوز المال بعناية، ثم أومأ برأسه.

أخذ أريس الصندوق دون أن يضيف كلمة واحدة، ثم خرج بهدوء، فملابسه السوداء تتمايل مع نسمات الريح الباردة.

لم يكن يريد أي حديثٍ إضافي مع العجوز.

_____

بسرعة عاد أريس إلى منزله بعد أن دار في عدة شوارع وأزقّة متعرّجة، محاولًا تجنّب أي شخص قد يتتبّعه.

كان الوقت قد تجاوز الثالثة مساءً، والمدينة ما تزال تعجّ بالنشاط؛ أصوات الباعة تصدح في الأزقة، وصوت حوافر الخيول يختلط بصرخات الأطفال وضجيج المتسوقين.

في الداخل، جلس أريس فوق طاولة خشبية قديمة، وأخرج زجاجة الدماء القانية، وقطع اللحم النيّئة التي تفوح منها رائحة حديدية مختلطة بدمٍ متجلط، إلى جانب زهرة دموية حمراء داكنة تشبه بتلاتها أوردة مفتوحة، وقصب عظمٍ أبيض بارد الملمس.

كانت هذه الموارد كلها أساسًا لصنع جرعةٍ لتعزيز قوته الجسدية.

تمتم بصوتٍ منخفض وهو ينظر إلى محتويات الطاولة بعينين لامعتين:

"أذكر أنه تم استعمال هذه الجرعة من قبل الجنود في الجيش لتعزيز أجسادهم، بعد أن تم اكتشافها."

لم تُنشر هذه الوصفة لعامة الناس ولا حتى للنبلاء، بل بقيت سرًا بين جدران البلاط الملكي وصفوف الجيش العليا بين أيدي الجنرالات.

في حياته السابقة، عندما كان يعمل قائدًا في الجيش، كان أحد أوائل من اكتشف سرّ هذه الوصفة.

شرد لحظة وهو يضغط بأصابعه على الطاولة، قبل أن يتمتم:

"أعتقد أن مبتكر هذه الوصفة لا بد أن يكون تلميذًا في الأكاديمية القلب"

لكن الواقع أن اسم الكيميائي الذي ابتكرها لم يكن معروفًا، فقد مات في هجومٍ إرهابي دموي على مدينة القلب.

ارتفع حاجباه قليلًا، ولمعت عيناه البنفسجيتان ببريقٍ بارد وهو يهمس لنفسه:

"ربما… يجب أن أضمه إليّ بدل أن يموت، وأستغل وصفاته بدل أن تُدفن معه دون ذكر اسمه."

شعر بحرارة غريبة تسري في صدره وهو يفكر، بينما قبضته تنغلق ببطء. كان يدرك أنه يحتاج إلى فريق خاص به، يُنفّذ مهام مختلفة، من أجل وصول إلى أهدافه.

2025/09/11 · 70 مشاهدة · 1595 كلمة
sir
نادي الروايات - 2025