لم تكن الليالي بعد العملية أهدأ كما توقعت إليزا. صحيح أن جسدها أخذ في التعافي، لكن داخلها… شيءٌ ظلّ متيقظًا، يُلاحقها كظلّ لصيق.
كانت تفيق أحيانًا فزِعة، يبلل جبينها العرق البارد، وفي أذنيها صدى لا تعرف مصدره.
أما ليون، فبات يأتيها في كل صباح تقريبًا، متظاهرًا بأنّه جاء ليطمئن فقط، لكن نظراته حين تلتقي بعينيها، تقول ما لا يُقال. وكان قلبها يعرف، حتى إن تظاهرت بالبرود.
ذات مساء، وبينما كان القصر يغطّ في صمتٍ غريب، استيقظت إليزا من حلم مشوّش. كانت تقف فيه أمام باب قديم، في ممرٍ مظلم، تسمع صوتًا يهمس من خلفه:
“عودي
…
.
ارتدت معطفها الصوفي، وخرجت من غرفتها بخطوات حذرة.
الهواء كان ساكنًا على غير العادة. ضوء القمر المنسكب من النوافذ الطويلة يرسم ظلالًا مربكة على الأرضية الرخامية. شعرت أن القصر قد تغيّر… وكأنه يتنفس في غياب الناس.
كانت تسير، بلا وعي تقريبًا، حتى توقفت أمام باب خشبي مختلف عن بقية الأبواب. قديم، كأنّه من زمن آخر. رفعت يدها لتلمسه، وبمجرد أن لامسته… سكن الهواء، وسكت كل شيء.
“إليزا؟”
التفتت بسرعة، فرأت ليون واقفًا خلفها، يحمل فانوسًا صغيرًا بيد، وقلقًا كبيرًا في قلبه.
قال:
“ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟”
همست:
“الصوت… قادني إلى هذا الباب.”
اقترب منها، نظر إلى الباب نظرة فاحصة، ثم قال بهدوء غير معتاد:
“هذا الجناح مغلق منذ سنوات طويلة. قيل لي إن دخوله… ممنوع.”
سألته بعينين مرتجفتين:
“لماذا؟”
تنهّد، وقال وهو يتفادى النظر في عينيها:
“لأنهم قالوا إن داخله… ذاكِرة لا يُحب أحد أن يتذكرها.”
وقبل أن تُجيب، تردّد في الممر صوتٌ مألوف، أنثوي، ضحكة باردة.
نظرت إليزا في الاتجاه، وقالت:
“إيزي؟”
لكن ليون كان يحدّق في نهاية الممر، بوجهٍ قد فقد لونه، وهمس:
“لا… ليست هذه المرة.”
في آخر الرواق، ظهرت صورة خافتة، تشبه إيزي إلى حدٍ مرعب. كانت واقفة هناك، بثوبها الملكي، لكن عينيها… لا حياة فيهما.
قالت بصوت يشبه صوت إيزي تمامًا، لكنّه خالٍ من الدفء:
“لا تتبعاني… فبعض الأبواب خُلقت لتُغلق إلى الأبد.”
ثم اختفت.
شهقت إليزا، ووضعت يدها على صدرها، بينما سألته بخوف حقيقي:
“ليون… لماذا قد تفعل إيزي شيئًا كهذا؟”
صمت طويل مرّ بينهما، ثم قال بصوت منخفض:
“لأن طفولتها لم تكن سهلة.”
نظرت إليه، فتنهّد وقال:
“إيزي نشأت في قصر مليء بالحرس، والخدم، والذهب… لكنها كانت وحيدة. ماتت والدتها وهي طفلة صغيرة، ووالدها… لم يكن أكثر من ظل. كانوا يربّونها لتكون وريثة، لا إنسانة.”
همست إليزا:
“لكن هذا لا يبرّر كل هذا الظلام.”
قال وهو ينظر إلى الباب المغلق:
“لا يبرّر… لكنه قد يفسّر. وربما ما رأيناه لم يكن إيزي فعلًا، بل شيئًا يشبهها… أو يستخدمها.”
اقترب منها خطوة، وصوته صار أكثر دفئًا:
“إليزا، أريدك أن تبتعدي عن هذا الباب. هذا المكان… ليس آمنًا.”
ردّت بصوت فيه رجفة:
“لكني أشعر أن كل ما يحدث… يبدأ من هنا.”
قال، وهو يضع يده بخفة على كتفها:
“إذًا إن كنتِ مصرّة… فلن أدعكِ وحدك.”
نظرت إليه، فشعرت للحظة أن الظلمة حولها أقلّ وحشة.
قالت بصوت خافت، وهي تنظر نحو الباب:
“ربما لا نريد أن نعود لما كنا عليه قبل أن نصل هنا.”
فردّ ليون دون أن يرفع عينيه عنها:
“أحيانًا… لا تكون العودة خيارًا أصلاً.”
وانتهت تلك الليلة… على وعدٍ لم يُنطق، وعلى بابٍ لم يُفتح… بعد