كان الصوت خافتًا… لكن كفّ إليزا أحسّت به قبل أن تسمعه. حجر صغير تراجع في الجدار، كأنه تنفّس لأول مرة منذ سنوات، وانفتح الباب.
لم يكن خلفه غرفة، بل ممرٌ ضيق، مظلم، يمتد داخل الجدار كأن القصر يخفي قلبًا نابضًا منذ زمن.
نظرت إلى ليون، لم تحتج إلى قول شيء، فقد قرأ في عينيها ما يكفي. حمل المصباح وتقدم أمامها بخطوات حذرة، وكلما سارا، ازداد الهواء برودة، وكأن الزمن يعود بهما إلى الوراء.
في نهاية الممر، باب آخر… بلا قفل. دفعه ليون، فانفتح على غرفة صغيرة غمرها الغبار، لكنها لم تكن فارغة.
كانت هناك حضانة قديمة ، مهجورة… تتدلّى من سقفها لعبة موسيقية متوقفة، على الأرض بساط باهت الألوان، وفي الزوايا مهدان صغيران ، أحدهما عليه لوحة باسم: “إيزي”، والآخر: “إليزا”.
شهقت إليزا بصوت مرتجف، اقتربت من المهد الصغير، ومرّ إصبعها فوق اسمها كأنها تحاول لمسه للمرة الأولى في حياتها.
وعلى رفّ خشبي جانبي، وجدت صندوقًا صغيرًا آخر… بدا مألوفًا، يحمل نفس النقش على الصندوق الأول الذي وجدته في الجناح.
فتحته ببطء، وداخل الصندوق… مذكرات قصيرة مكتوبة بخط أنثوي مهتز .
“ولدتُ
…
.
.
…
.
…
.
سقطت الدفاتر من يدها، وجثت على الأرض.
قالت بصوت مكسور:
“لقد أحبّتني… لكنها لم تستطع أن تُنقذني.”
اقترب منها ليون، جلس قربها، وضع يده على كتفها بخفة، وقال:
“وهذا ما يجب أن تتذكريه دائمًا… لقد أحبتك.”
أجفلت إليزا، ورفعت وجهها نحو المصباح المعلق في السقف.
“ليون… الآن فقط فهمت.”
قال بهدوء:
“فهمتِ ماذا؟”
“الصوت… لم يكن يريد إخافتي. كان يدلّني… على طريقي. أراد أن أكشف كل هذا، أن أرى من أنا، لا ما أخبروني به.”
سكتت للحظة، ثم أضافت:
“ربما هو ظل أمي… أو ذاكرة بقيت في هذا المكان، تحاول أن تُنقذ ما لم تستطع إنقاذه آنذاك.”
أومأ ليون، وعيناه لم تفارقها.
“وما الذي ستفعلينه الآن؟” سألها.
نظرت إليه، مسحت دموعها، وقالت بثبات لأول مرة:
“سأعود.”
“إلى أين؟”
“إلى أهلي… أولئك الذين ربّوني… وأسألهم: لماذا لم يقولوا لي إنني لست ابنتهم؟ خرجت إليزا من القصر، ووجهها شاحب كأنها تحمل على عاتقها أعمارًا من الأسرار. ركب ليون معها عربة النقل القديمة التي استعاروها من القصر، لم ينطق بكلمة طوال الطريق، فقط كان يُلقي عليها نظراته من حينٍ لآخر، تلك النظرات التي تقول: “أنا
…
.
حين وصلت أمام منزلها… منزلها الحقيقي، أو الذي اعتقدت لسنوات أنه كذلك، شعرت أن خطواتها لا تقوى على حملها، لكنها دخلت.
استقبلتها أمها بالتبني – السيدة آنا – بوجهها الهادئ الذي لطالما منحها الأمان. لكن هذه المرّة، إليزا لم تبتسم.
نظرت في عينيها وقالت مباشرة، بصوتٍ ناعم لكنه مكسو بالخذلان:
“أمي… لماذا لم تقولوا لي إنني لست ابنتكم؟”
تجمدت آنا، وكأن قلبها توقف. أسندت يدها إلى المقعد خلفها، وجلس الأب من بعيد، يتابع في صمت.
قالت آنا وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها:
“كنا سنخبرك… ذات يوم. فقط كنا ننتظر أن تكوني قوية بما يكفي.”
“كنت قوية. كنت أبحث عن الحقيقة وحدي، وأنا لا أعرف حتى أن حياتي كلها كانت نصف قصة فقط.”
تقدمت آنا بخطوات بطيئة نحوها، وعيناها تلمعان بالدموع:
“أخذناكِ حين كنتِ رضيعة، لا تحملين اسمًا ولا ملامح مكتملة. فقط ورقة مكتوب عليها: ‘إليزا’. كنا نعلم أن أمك ماتت أثناء الولادة، وأن أباك اختفى بعدها بيوم، تركك في الميتم. لم أستطع أن أتركك هناك… شيء فيك ناداني.”
قال الأب، بصوت أجش:
“كنا نحبك كأنك ابنتنا، وما زلنا.”
همست إليزا، وكأنها تُسلم الكلمات من قلبها لا لسانها:
“وأنا أيضًا أحبكم… أنتم من منحتوني عائلة، أمان، ضحكات صادقة. لكن… الآن عليّ أن أعرف من أكون.”
احتضنتها أمها، وقالت:
“أنتِ إليزا… سواء وُلدتِ في قصر أو كوخ.”
دخل ليون الغرفة بهدوء، كان قد بقي في الخارج احترامًا لخصوصيتهم. التقت عيناه بعينيها، فعرف من نظرتها أنها بحاجة إليه.
قالت إليزا، وهي تتجه نحوه:
“أنا مستعدة للخطوة القادمة.”
“وما هي؟” سألها، وقد بدأ قلبه ينبض بشيء جديد.
أجابت بابتسامة صغيرة، لكنها مغموسة بالعزم:
“أن أواجه إيزي… وأكشف كل شيء. وربما… أُخبرها بالحقيقة