فوق الظلام

كان الليل حالكًا، والمدينة تحته تمتد كبحر من الأضواء المتراقصة، لكنها لم تكن قادرة على اختراق الظلام العميق الذي يحيط به. وقف هيونغ على حافة البناية الشاهقة، معطفه الطويل يرفرف تحت هبات الرياح الباردة، بينما كان ينظر إلى الأسفل بعينين جامدتين كالصخر. في يده، كانت شارة الترقية إلى رتبة D تتلألأ بوهج فضي خافت، تعكس ضوء القمر وكأنها تخبره أنه قد بدأ فقط بشق طريقه في هذا العالم القاسي.

لكنه لم يكن وحده.

ثلاثة كيانات غير بشرية كانت تحيط به، أشبه بأشباح خرجت من أعماق الظلام نفسه، كل منها يحمل هالة مهيبة تملأ الجو برهبة لا توصف. لم يكن أحد غيره قادرًا على رؤيتها، لكنها كانت هناك، تحرسه، تراقبه، تنتظر أوامره بصمت.

الأولى كانت ضخمة، جسدها أشبه بظل أسود متحجر، عيناها المتوهجتان باللون القرمزي أشبه بجمر مشتعل. كانت تمثل القوة المطلقة، الدرع الذي لا يُكسر، الجدار الذي يحطم كل من يتجرأ على مواجهته. كل خطوة لها على الأرض كانت تحدث صدى غير مسموع، وكأن وزنها ليس فقط ماديًا، بل روحيًا أيضًا.

الثانية كانت مختلفة، لم يكن لها جسد واضح، بل كانت تتحرك كما لو كانت امتدادًا للهواء، شكلها متغير باستمرار، مثل انعكاس مشوه في ماء راكد. كانت تمثل الإدراك، تلك العين التي ترى كل شيء قبل أن يحدث، التي تحلل وتحسب وتتفادى كل ضربة قبل أن تُوجه. مجرد وجودها بجانبه جعله يشعر وكأنه يرى كل زاوية في هذا العالم المظلم.

أما الثالثة… فكانت الأكثر خطورة. لم تكن ثابتة مثل البقية، بل كانت تتحرك بسرعة مرعبة، وكأنها نصل يمزق الفراغ نفسه. كانت تجسد الاغتيال، الصاعقة التي تضرب قبل أن يدرك العدو أنه قد مات بالفعل. لم يكن لها وجه، لكن الشعور الذي تبثه كان كفيضان من الدماء الباردة، كتهديد صامت لا يحتاج إلى كلمات.

وقف هيونغ في وسطهم، صامتًا، بينما عينيه تحدقان في الأفق البعيد. كان يدرك أن هذه الشارة التي يحملها بين أصابعه ليست النهاية، بل مجرد بداية… بداية لطريق ملطخ بالدماء، محفوف بالخطر، لكنه لم يكن يخشى شيئًا.

ارتفع صوت الريح، وكأنها تحاول التحدث إليه، لكنه لم يكن بحاجة إلى سماعها. هو يعلم… يعلم أن الليل ليس سوى ساحة لعبه، وأن هؤلاء الذين يسيرون تحته، سواء أكانوا صيادين أم وحوشًا، لم يدركوا بعد أن صيادًا مختلفًا قد ظهر بينهم.

قبض على الشارة بقوة، ثم خطا خطوة إلى الأمام.

وفي غمضة عين، اختفى.

لم يتبقَ شيء سوى صدى الرياح، والظلال التي تلاشت معه في عتمة الليل. المدينة كانت تغرق في بحر من السكون، لا يقطعه سوى أضواء الشوارع الباهتة وهمسات الريح التي تسري بين المباني الشاهقة. فوق إحدى تلك البنايات، وقف هيونغ بثبات، جسده مغمور في الظلال، وعيناه تنعكسان بريقًا خافتًا تحت ضوء القمر الشاحب.

في يده، كانت شارة رتبة D الفضية تلمع ببرود، وكأنها قطعة من الليل ذاته، تحكي قصة صعوده إلى هذا العالم الخفي. لم تكن مجرد رمز، بل كانت شهادة على أنه الآن هدف… وعلى أنه خطر.

لم يكن وحده.

خلفه، وقفت ثلاثة أرواح مستدعاة، كيانات لم تكن تنتمي لهذا العالم، لكن وجودها كان كافيًا لجعل الهواء نفسه يرتعش. لم يكونوا بشريين، ولم يكن عليهم ذلك…

الظل الأول—جسد ضخم كجدار أسود، تتوهج عيناه بحمرة قاتمة. لم يكن يتحرك ككائن حي، بل كأنه مخلوق من الفراغ ذاته، وجوده وحده كان يكفي لجعل المساحة حوله تهتز بصمت غير طبيعي. لو حاول شيء الاقتراب من سيده، فلن يكون أمامه سوى خيار واحد: الاختفاء من الوجود.

الكيان الثاني—ضباب رمادي كثيف يتراقص في الهواء، يغير شكله باستمرار كأنه يبحث عن شيء. لم يكن له ملامح، لكن أي شخص ينظر إليه طويلًا كان يشعر وكأن العدم يبتلعه ببطء. لم يكن يتحدث، لكنه لم يكن بحاجة لذلك… لقد كان يرى كل شيء.

أما الثالث—فلم يكن سوى وميض فضي تحرك بسرعة خاطفة، ظهر للحظة خلف هيونغ، ثم اختفى ليظهر فوق سطح مبنى آخر، يراقب كل شيء بصمت قاتل. وجوده كان تحذيرًا، وإعلانه عن الخطر كان بسيطًا: إن كنت عدوًا… لن ترى الموت قادمًا.

هيونغ لم يتحرك، لكنه شعر بهم جميعًا، بجودهم الذي ينسج حوله هالة من القوة التي لم تكن موجودة من قبل.

هناك من يراقب.

رفع رأسه قليلًا، عينيه تتوهج بحدة. في البعيد، وسط أحد الأزقة المظلمة، كان هناك شيء… كيان لم يكشف عن نفسه بعد، لكنه كان يختبره.

ابتسم.

الابتسامة لم تحمل أي أثر للخوف.

بل كانت ابتسامة من اعتاد أن يكون الصياد… وليس الفريسة.

أحكم قبضته على الشارة الفضية، فاشتعلت للحظة بوميض بارد، قبل أن تتلاشى طاقتها في يده.

ثم، وبحركة واحدة… قفز من فوق البناية، تاركًا ظلاله الثلاثة تنطلق معه نحو الظلام الذي ينتظرهم في الأسفل. هبّت رياح الليل كأنها أنفاس وحش كامن، تلفح وجه هيونغ وهو يقف على حافة البناية العالية، نظراته ثابتة على المدينة الغارقة في السواد تحته. كانت الأضواء الخافتة تتراقص مثل شعلات مشتعلة في هاوية لا قاع لها، بينما سكون الليل كان يقطعه أحيانًا صوت سيارة بعيدة أو نباح كلب ضائع.

في يده، قبض على شارة فضية، شارة رتبة D، تلك العلامة التي وُسم بها رغم كل ما فعله، رغم كل الأرواح التي سقطت تحت يده، رغم كل المعارك التي خاضها. حدّق بها للحظة، ثم أطلق زفيرًا ساخرًا.

"رتبة D…"

كأنها إهانة من هذا العالم.

كان محاطًا بثلاثة ظلال… ليست كائنات بشرية، بل أرواح مستدعاة، كيانات تفصلها عن الواقع خيوط واهية، لكنها كانت حاضرة، تراقب، تحرس. لم يحتاجوا إلى الحديث، حضورهم وحده كان كافيًا ليعلن عن سطوتهم.

أحدهم كان يقف خلفه مباشرة، عملاق مغلف بدرع أزرق داكن، لا وجه له سوى شقوق تتوهج بلون أحمر خافت. الآخر على يساره، لم يكن أكثر من كيان طويل مغلف برداء أسود ممزق، بينما الثالث كان جاثيًا على إحدى ركبتيه، أقصر من البقية، لكن عينيه المتوهجتين كانتا تحملان بريقًا قاتلًا.

"هناك شيء يراقب."

لم يكن مجرد حدس… بل كان إحساسًا عميقًا، أشبه بصوت خفي يهمس في أذنه.

لم يكن بشريًا.

كان في الظلال، مختبئًا في أحد الأزقة القذرة التي تفوح منها رائحة العفن والدم الجاف. عيون باردة، عديمة الحياة، تتأمل من بعيد، تنتظر… أو ربما تتربص.

تغيرت الأجواء.

الهواء أصبح أكثر كثافة، كأن المكان بأسره قد غاص في بحر ثقيل من السواد. أنوار المصابيح الخافتة في الشارع بدأت تومض بشكل غير طبيعي، وهدوء الليل تلاشى، ليحل محله صوت طنين منخفض، أشبه بصوت احتضار مخلوق قديم.

هيونغ لم يتحرك.

لم يكن بحاجة إلى ذلك.

الظلال الثلاثة حوله كانت مستعدة، لكن شيئًا في هيئتهم بدا… متوتراً. كأنهم، رغم قوتهم، كانوا يشعرون بأن هذا الليل يخفي ما هو أعمق من مجرد وحش في الزقاق.

ببطء، رفع هيونغ يده، وسمح للضوء الباهت أن ينعكس على شارة الرتبة.

ثم تحدث، بصوت خافت لكنه مشبع بقوة خفية:

"إما أن تظهر… أو أنني سأمزق هذا الظلام بحثًا عنك."

لم يكن تهديدًا.

بل وعدًا.

الظلام تحرك.

ظهر الكيان، كأنه خرج من أعماق الفراغ نفسه. جسد متعرج، بلا ملامح واضحة، كأن روحه قد سُحقت وأعيد تشكيلها في هيئة غير مستقرة. عينان خضراوان مشعتان، لا رمش لهما، لا تعكسان سوى العدم المطلق.

تقدّم خطوة.

الأرواح الثلاثة حول هيونغ تشدّدت قبضتها على أسلحتها. الجو أصبح أبرد، الرؤية تذبذبت للحظة، كأن العالم نفسه بدأ ينسحب إلى بُعد آخر.

لكن هيونغ؟

لم يُظهر أي خوف.

بل رفع الشارة أمامه، حدّق بها للحظة، ثم همس ساخرًا:

"رتبة D؟"

ضحكة خافتة، كأنها خرجت من أعماق روحه.

ثم نظر إلى الكيان مباشرة، وعيناه السوداوان لم تعكسا سوى يقين لا يتزعزع.

"في الظلام… الرتبة لا تهم."

وفي تلك اللحظة، اندفع الظلال الثلاثة، وانفجر الليل بمعركة صامتة، لا شهود لها سوى المدينة النائمة والنجوم التي تراقب من بعيد.

"لقد وصل."

كانت الأرواح المستدعاة تحيط به، ثلاثة ظلال تتجسد من العدم، واقفة في صمت مهيب. لم يكونوا بشريين، ولم يكونوا مجرد أدوات. كانوا جزءًا منه، كأنهم انعكاسات لشخصيته القاتمة التي لا ترحم.

في البعد الآخر، حيث لا ضوء يخترق ولا حياة تدوم، كان المخلوق يقترب. لم يكن يسير، بل كان يتمدد… كأن الظلام نفسه ينحني وفق إرادته. كان يمتلك حضورًا كئيبًا، شيئًا يجعل الهواء نفسه يختنق، يجعل الليل أكثر سوادًا.

ولكن، بدلاً من أن يتراجع، رفع هيونغ رأسه قليلًا، نظرة باردة استقرت على الفراغ الذي يتلوى أمامه. لم يكن هذا مشهدًا جديدًا بالنسبة له. كان قد رأى الأسوأ، وواجه ما يفوق ذلك رعبًا، وخرج دائمًا… منتصرًا.

"حان الوقت لإنهاء هذا."

خطا خطوة إلى الأمام، وبحركة واحدة، اختفت شارة رتبة D من يده، كأنها لم تكن هناك أبدًا. لم يكن بحاجة إليها، ولم يكن ينتمي إلى قيدها منذ البداية.

تدفق الظلام.

لم يكن مجرد هالة أو طاقة، بل كان شيئًا ينبثق من داخله، شيء أكثر عمقًا من مجرد قدرة أو مهارة. كان هذا تجسيد قوته الحقيقية، القوة التي لم يكن العالم مستعدًا لمواجهتها بعد.

المخلوق تجمد في مكانه. لأول مرة، لم يكن هو المفترس. لأول مرة، لم يكن هو الظلام الوحيد الذي يخشاه الآخرون.

هيونغ رفع يده، بلا استعجال، بلا خوف.

ثم…

بهمسة واحدة، انشق الليل.

الصمت الذي ساد المكان لم يكن إلا هدوءًا يسبق العاصفة. في غمضة عين، انطلقت الأرواح الثلاثة، كل منها متوهج بهالة قاتمة، سيوفهم تشق الهواء كأنها نصل القدر ذاته.

أما هيونغ، فقد اختفى من مكانه، لم يكن هناك سوى أثر طيفه، قبل أن يظهر أمام المخلوق مباشرة. لم يكن هناك صراع، لم يكن هناك مجال للمقاومة.

طعنة واحدة، وكان كل شيء قد انتهى.

تلاشى المخلوق في فراغه الخاص، يبتلع نفسه كما لو أنه لم يوجد أبدًا. لم يكن هناك أثر للمعركة، لا دماء، لا صرخات… مجرد هدير الرياح وصوت معطف هيونغ وهو يرفرف في الفراغ.

وقف هناك للحظة، متأملًا المكان الذي احتله عدوه قبل لحظات، ثم رفع نظره نحو السماء. الغيوم التي غطت القمر بدأت بالتفرق، وكأن الليل نفسه قد خضع لإرادته.

لم يكن يحتاج إلى شارة، لم يكن يحتاج إلى تصنيف.

لأنه هو… كان الكابوس الذي يختبئ منه الصيادون أنفسهم.

"اقتربوا."

لم تكن مجرد كلمات، بل كانت أمرًا، تمتمة نطقها بصوت بالكاد يُسمع، لكن وقعها كان كالصاعقة. الهواء من حوله تموج، والفراغ ذاته انشق، لتظهر الأرواح الثلاثة مجددًا، صامتة كما كانت دائمًا، لكنها تحمل هالة أعمق، أشد وحشية. كانت كل واحدة منها تمثل جزءًا من قوته، جزءًا لا يراه الآخرون إلا عندما يكون الوقت قد فات.

أحدهم كان يحمل سيفًا ضخماً، شفرته تعكس الضوء القليل الذي وصل إليه. الآخر كان بلا وجه، مجرد كيان شاحب، لكنه ينبض بوجود قاتم يجمد الدم في العروق. أما الثالث، فقد كان الأطول، يلفه عباءته الممزقة كأنه ظل تجسد في هيئة بشرية، يحمل في يده رمحًا تنبعث منه طاقة قاتلة.

"إنه هنا."

لم يكن هناك حاجة لشرح أكثر. هيونغ رفع رأسه قليلًا، عيناه الباردتان تتوهجان بلون فضي تحت ضوء القمر. على بعد عدة بنايات، كانت هناك عينان تراقبه، وهج أحمر يقطع الظلام، ينبض كقلب وحش يترقب فريسته.

الوحش الذي انتظر قدومه… قد ظهر أخيرًا.

لم يكن مجرد كائن، لم يكن مجرد تهديد. كان شيئًا مختلفًا، قوة كانت تعيش في الظل منذ زمن، والآن قررت أن تصعد إلى السطح.

الريح ازدادت حدة، والهواء أصبح أثقل، كأن الواقع نفسه بدأ يتغير.

لكن هيونغ؟

لم يتحرك. لم يرتعش، لم يغير وقفته، بل فقط أدار رأسه قليلًا، شفتيه بالكاد تتحركان عندما همس:

"ابدأوا."

في اللحظة التالية، انطلقت الأرواح الثلاثة كما لو كانت أسهمًا أُطلقت من قوس القدر ذاته.

الظلام اشتعل.

السيف قطع الهواء، الرمح مزّق الفراغ، والظل عديم الوجه انزلق عبر العدم، لا صوت، لا تحذير، لا فرصة للهروب.

لكن الوحش؟

ابتسم.

قبل أن تنغرز الشفرات فيه، قبل أن يقتله ما لا يُقتل، كان قد اختفى—لا، بل تحرك بسرعة لم يكن من المفترض أن يمتلكها.

ارتطمت الأرواح بالأرض، السطح اهتز، الخرسانة تحطمت، لكن الهدف لم يكن هناك.

ثم—

"أنت أذكى مما توقعت."

صوت خشن، متشقق، خرج من العدم. كان خلف هيونغ، أقرب مما ينبغي، كأن الظلام نفسه قد حمله إلى هناك.

لكن هيونغ؟

لم يلتفت.

بل ابتسم هو الآخر.

"وأنت أبطأ مما كنت أتمنى."

بلمح البصر، انشق الهواء. لم يكن سيفًا، لم يكن رمحًا، بل كان شيئًا آخر، شيء لم يُرصد، لم يُسمع، لكنه كان هناك.

والوحش؟

عينيه الحمراوين، لأول مرة، امتلأتا بشيء لم يكن موجودًا قبل لحظات.

الرعب.

لم يكن هناك وقت للهروب. لم يكن هناك وقت للمراوغة.

"انتهى الأمر."

ثم، وسط الظلام، وسط العدم…

لم يكن هناك سوى صوت واحد.

صوت جسد يتمزق.

2025/02/20 · 9 مشاهدة · 1883 كلمة
Aymen
نادي الروايات - 2025