وقف هيونغ أمام البوابة الضخمة التي تشع بطاقة زرقاء غامضة، تهتز في الفراغ كما لو كانت كائناً حياً يتنفس. كانت البوابة تقف شامخة في منتصف الساحة المهجورة، محاطة بأطلال قديمة غارقة في الظلام. خلفه، لم يكن هناك أحد، فقط صوت الرياح يهمس بين الجدران المتصدعة.
كان يعلم أن هذا القرار لا رجعة فيه. بمجرد عبوره، لن يكون هناك طريق للعودة حتى يكمل التحدي الجديد.
تنفس بعمق، ثم مد يده إلى السيف المتدلي من خصره، يتأكد من وزنه المعتاد. راحته شعرت بصلابة مقبضه، فابتسم ابتسامة خافتة، ثم تقدم بخطوات ثابتة نحو الضوء.
[تم تأكيد الدخول إلى الطابق الثاني.]
فجأة، انطلقت موجة من الطاقة من البوابة، اجتاحت جسده بالكامل. شعر بجاذبية تسحبه إلى الداخل، وكأن شيئًا ما كان يلتهمه من الداخل إلى الخارج. ثم... اختفى.
السقوط في العدم
لم يكن هناك شيء. لا ضوء، لا أصوات، فقط فراغ مطلق يحيط به من كل جانب. شعر كأنه يسقط إلى ما لا نهاية، جسده متجمد لكنه واعٍ تمامًا.
ثم، في لحظة، ضربت عيناه ومضات متتابعة من الضوء، صور غريبة تمر أمامه:
جيش من المحاربين يسقط تحت وطأة وحش ضخم ذو قرون متشابكة.
شلال من الدماء يتدفق فوق أرض سوداء متشققة.
شجرة عملاقة، جذورها ممتدة كالأفاعي في بحر من الظلام.
ثم توقف كل شيء.
الوصول إلى الطابق الثاني
فتح عينيه ليجد نفسه واقفًا في وسط غابة كثيفة، أشجارها شاهقة بشكل غير طبيعي، تمتد فروعها حتى تبتلع السماء. كان الهواء هنا أثقل، محملاً برائحة مزيج من التربة الرطبة والدماء القديمة.
نظر حوله بسرعة، عينه تلتقط كل تفصيلة. المكان لم يكن مجرد غابة عادية... بل كان شيئًا أشبه بمتاهة طبيعية، حيث لم تكن هناك مسارات واضحة، بل مجرد فوضى من الجذوع والأغصان المتشابكة.
فجأة، صدر صوت منخفض من بعيد، كزئير مكتوم لوحش يراقب من الظلال.
"أهلاً بك في الطابق الثاني."
ظهر أمامه شكل شفاف، ظل كائن غريب الملامح، عيونه المتوهجة تراقبه من الظلام. لم يكن بشرًا... ولم يكن وحشًا بالكامل. كان شيئًا بينهما.
"لكي تتقدم، عليك أن تصطاد أو تُصطاد."
لم يُظهر هيونغ أي تردد. وضع يده على مقبض سيفه، عينيه تلمعان بحدة قاتلة.
"إذن... لنرَ من سيكون الفريسة أولاً."
تحركت الظلال حوله، والهواء امتلأ برائحة الخطر. كان الطابق الثاني على وشك أن يكشف عن أسراره، وكان مستعدًا تمامًا لمواجهتها. كان الهواء مشبعًا برائحة الرطوبة والدم. الغابة التي دخلها هيونغ لم تكن مجرد أشجار وحشائش، بل متاهة من الظلال الحية، تترصد كل حركة، تهمس بالأسرار المظلمة لكل من يعبرها. ومع ذلك، وقف هيونغ هناك، كأن المكان كله ينحني تحت وطأة حضوره.
"أخرجوا."
لم يكن صوت طلبٍ أو دعوة، بل كان أمرًا لا يقبل الجدال.
وفجأة، ترددت الهمسات، تحولت إلى زئيرٍ، وانطلقت من بين الأشجار عشرات الكيانات المظلمة، مخلوقات لها مخالب بطول السيوف، عيون متوهجة بالجوع، وأجساد تنبض بقوة فوضوية.
لكنها لم تهاجم فورًا.
توقفت.
ترددت.
كأنها أدركت خطأها حين وقفت أمامه.
هيونغ لم يكن مجرد إنسانٍ آخر دخل هذا المكان. كان شخصًا طغى وجوده على الظلام ذاته. وقفته وحدها، عيناه التي تشع بنار لا تنطفئ، والمنجل الذي يحمله، وكأنه جزء منه، جعل الوحوش تشعر بشيء لم تعرفه من قبل... الخوف.
المنجل الملعون
كان المنجل في يده ينبض، كما لو كان مخلوقًا حيًا، يشتهي الدماء، يطالب بالمزيد.
هيونغ ضغط على قبضته.
لا... ليس مرة أخرى.
تذكر المرة الأخيرة التي أفلت فيها المنجل من سيطرته، كيف تلطخت يداه بدماء لم يكن ينوي أن تُراق. كيف تحول من سلاح إلى وحش ينهش كل شيء أمامه.
ولكن هنا، الآن، لم يكن لديه خيار.
"إن عصيتني، سأحطمك بيدي."
كان تهديده للمنجل أشبه بهمس، لكنه حمل ثقلًا يكفي لجعل الظلال نفسها ترتعش.
ضربة تفصل بين الحياة والموت
قبل أن تدرك المخلوقات خطوتها التالية، تحرك هيونغ.
لكن كلمة "تحرك" لم تكن كافية لوصف ما حدث.
في لحظة، كان في مكانه. في اللحظة التالية، كان وسط الوحوش، ومنجله ينزلق بين الأجساد كما لو كان يرقص رقصة الموت.
شينغ!
صوت تمزق اللحم.
تشااااك!
وميض الدماء السوداء في الهواء.
لم تكن ضرباته مجرد هجمات، بل كانت كأنها نحت في نسيج الوجود نفسه. كل خطوة كانت محسوبة، كل حركة كانت دقيقة. وبينما حاولت الوحوش الرد، لم يكن هناك شيء لتهاجمه. لقد كان كالشبح، يتحرك بين الظلال كما لو كان سيدها.
لكن مع كل ضربة، شعر بشيء غريب.
المنجل... بدأ يتسرب من بين أصابعه.
كأنه يريد أن يقرر المعركة بنفسه.
كأنه يريد أن يبتلع كل شيء.
"ليس الآن..."
قبض عليه بقوة، لكنه شعر بالمقاومة، وكأن السلاح نفسه يرفض أن يُقاد.
ثم...
"كفى."
توقف الزمن للحظة عندما سقط آخر وحش على ركبتيه، عيونه تتلاشى قبل أن يتحول إلى رماد.
الخصم الحقيقي يظهر
لكن هذا لم يكن النهاية.
لم يكن هذا سوى الاختبار الأول.
في الخلف، حيث ظن أنه وحده، شق الصوت المظلم الصمت:
"ليس سيئًا... لكنك لم تواجه شيئًا بعد."
استدار هيونغ ببطء، غير مبالٍ بالدماء التي لطخت الأرض حوله. كان هناك. رجل... أم شيء آخر؟
جسد طويل، عينان مشتعلة كجمرة في ظلام أبدي، وابتسامة مشوبة بالسخرية.
"أنت مختلف،" تابع الصوت. "لكن هل أنت قوي بما يكفي للنجاة؟"
هيونغ لم يبتسم، لم يتكلم.
لكنه رفع منجله ببطء، وانبعث منه وهج قاتل، وكأنه يبتسم بسادية.
الرياح توقفت.
الظلال انكمشت.
حتى الليل نفسه بدا وكأنه يراقب...
المعركة الحقيقية بدأت الآن.
كان الصمت مطبقًا، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا. بل كان صمتًا ثقيلًا، يُشبه وطأة الموت قبل أن يهبط على فريسته.
وسط الساحة المدمرة، وقف هيونغ بثبات، يده تحكم قبضتها على منجله الضخم، والنصل الأسود ينبض بطاقة باردة، وكأنه يتنفس، يتوق للانفلات كما فعل في السابق.
أخفض نظره للحظة، يراقب انعكاس عينيه على سطح المعدن. كانت عيناه تشتعلان بوهج قاتم، تحذرانه، تخبرانه أن هذا السلاح... قد يخرج عن السيطرة مرة أخرى.
لكنه لم يتراجع.
إنه يعرف جيدًا أن هذا الخوف… لا مكان له هنا.
على الجانب الآخر، وقف خصمه، رجل طويل، جسده ملفوف بعباءة من الظلال المتماوجة. لم تكن بشرته سوى صفحة سوداء تتخللها شقوق متوهجة بالطاقة، وكأن جسده لم يكن سوى قالب هش يحوي في داخله كيانًا مظلمًا محضًا.
"هيونغ..."
كان صوته همسًا، لكنه اخترق الهواء كأنفاس الشياطين.
"هل ما زلت تخاف منه؟"
لم يرد هيونغ.
لكنه رفع المنجل ببطء، وشبكة من التشققات ظهرت على الأرض أسفل قدميه، وكأن الأرض لم تحتمل مجرد وقوفه هناك.
حفيف الظلام حول خصمه ازداد اضطرابًا.
نعم، هو يعرف...
هذا الرجل، أو بالأحرى، هذا الكيان… لم يكن يستهين بهيونغ، لكنه أراد أن يعرف شيئًا واحدًا.
هل لا يزال هيونغ عبدًا لسلاحه؟ أم أنه أصبح سيده؟
انفجار الهيمنة
لم يمنحه هيونغ الوقت للانتظار.
في لحظة، اختفى جسده.
تحرك بسرعة لم تستطع حتى الظلال مواكبتها، وظهر خلف خصمه في طرفة عين.
هوووووووووش!
هوى المنجل.
لكن الظلال استجابت. تلاشت صورة الرجل، وانبثق من الأرض كأنه لم يكن سوى وهم، ثم حاول مهاجمة هيونغ من الخلف.
لكنه لم يكن أسرع منه.
ببضع درجات خفيفة من جسده، أفلت هيونغ من الضربة، ثم استدار في الهواء، والشرر ينفجر من طرف منجله وهو يهوي مرة أخرى، هذه المرة بزاوية مميتة.
كااااااااااااانغ!!
اصطدمت النصل بالظلام، لكن هذه المرة… لم يكن مجرد اصطدام.
بل كان إبادة.
الضغط الناتج عن الضربة محا كل الظلال في محيط عشرة أمتار، تاركًا خصمه مكشوفًا للحظة.
هيونغ لم يتركها تضيع.
استغل الفراغ، ودفع جسده للأمام، وانطلقت قدماه كرصاصة، ليصل إلى وجه خصمه في ثانية واحدة.
"هذه النهاية."
بوووووووووووم!!
ركلة مدمرة، مباشرة في صدر العدو.
انفجرت الظلال، وتحطم الجسد إلى عشرات الشظايا السوداء، تطايرت كالدخان في الهواء، وكأن الكيان نفسه بدأ يتلاشى.
لكن…
"ههه… لا… لم تنتهِ بعد."
من وسط الفوضى، تجمعت الشظايا، لتعيد تشكيل نفسها. لم يكن الخصم ينوي السقوط بهذه السهولة.
لكنه لم يكن يدرك أن هيونغ لم ينتهِ أيضًا.
في اللحظة التي بدأ فيها التجسد من جديد، كان المنجل قد تحرك بالفعل.
لكن هذه المرة… لم تكن مجرد ضربة.
بل كان... قطعًا نهائيًا.
تشاااااااااااااااااااااك!
الفراغ نفسه انقسم نصفين، ومعه، صرخ الكيان للمرة الأولى.
كانت صرخة لم تكن من هذا العالم، صوت تمزق كيان لا ينتمي لهذا الواقع.
"لا... كيف… كيف تمكنت…؟"
نظر إليه هيونغ، وعيناه خاليتان من أي مشاعر.
ثم همس بصوت منخفض، لكنه محمل بثقل العالم:
"أنا لم أعد أخاف من الظلام."
وفجأة، انهار كل شيء.
النهاية... وبداية جديدة
وقف هيونغ في وسط ساحة المعركة، المنجل لا يزال مشعًا بطاقة سوداء، لكن هذه المرة… كان تحت سيطرته الكاملة.
لم يعد السلاح يقوده.
بل أصبح هو سيده الحقيقي.
مد يده، والتقط شيئًا من بين بقايا الكيان المحطم.
كان ذلك... شظية من نواة الظلام.
نظر إليها للحظات، ثم أغلق أصابعه عليها.
لقد كانت هذه مجرد بداية الطريق.
ولكن الآن، لم يعد هناك شيء يمكنه الوقوف في طريقه.
كان الوحش كابوسًا مستعرًا… جلده الأسود المليء بالنُتوءات يشبه درعًا عضويًا، وأنيابه الحادة تقطر باللعاب، مستعدة لتمزيق أي شيء يعترض طريقه. كانت مخالبه ضخمة كأنها سكاكين معوجة، وكل خطوة منه كانت تهز الأرض كزلزال صغير.
أمام هذا المشهد الجهنمي… وقف هيونغ.
لم يتحرك، لم يرمش، لم يُبدِ أي أثر للخوف.
عيناه كانتا مثل ظلال الموت نفسها، ساكنتين كهدوء ما قبل العاصفة، بينما قبضته اشتدت على المنجل الضخم الذي يحمله. حدّق إلى نصل سلاحه، وشعر بالخطر الكامن في داخله. هذا المنجل… سبق وخرج عن سيطرته. كان سلاحًا ينهش مستخدمه إن لم يكن قويًا بما يكفي لاحتوائه.
لكن هيونغ لم يكن كأي شخص.
شرارة البداية
الوحش لم يحتمل الصمت أكثر…
"كروووووووووووه!!"
زأر بصوت كاد يمزق السماء، ثم اندفع بسرعة لا تناسب حجمه الهائل، جسده كنيزك قاتم يقتحم الفراغ، مخالبه موجهة مباشرة إلى صدر هيونغ بقصد تمزيقه بضربة واحدة.
لكن…
اختفى هيونغ.
قبل أن تصل مخالب الوحش، كان جسد هيونغ قد اختفى كما لو أنه تبخر في الهواء.
وفي اللحظة التالية…
"زهـــم!!"
ظهر فجأة فوق الوحش، جسده ينقلب في الهواء بانسيابية قاتلة، قبل أن يهوي بمنجله مباشرة نحو رأس الوحش.
رقصة الدماء
"كراااااااااه!!"
زمجر الوحش بقوة، رافعًا ذراعه الهائلة لصد الضربة. وعندما التقى المنجل بجلده، دوى صوت أشبه بانفجار، واندفع الشرر القاتم في كل اتجاه.
لكن جلد الوحش لم يكن كافيًا لإيقاف النصل.
شق المنجل طريقه عبر اللحم والعضلات، قاطعًا الذراع من منتصفها. اندفعت الدماء السوداء مثل نافورة من الجرح المفتوح، وسقطت الذراع العملاقة على الأرض بارتطام عنيف.
لكن هيونغ لم يتوقف.
في اللحظة التي لمس فيها قدماه الأرض، استدار بجسده بسرعة، مستخدمًا قوة اندفاعه ليطلق ضربة أخرى. كان كالشبح، يتحرك بانسيابية لا توصف، وسلاحه لا يتوقف عن الأنين وهو يشق الهواء.
"زهــــم!!"
المنجل اخترق ساق الوحش هذه المرة.
سقط الوحش على إحدى ركبتيه، جسده الضخم يترنح، وزئيره يمتلئ بالغضب والألم.
لكن هذا لم يكن كافيًا لإنهائه.
رفع رأسه ليحدّق في هيونغ، وكانت عيناه المتوهجتان تملؤهما الكراهية المطلقة. ثم فجأة…
"كووووووووووووه!!"
انفجرت طاقة سوداء من جسده، واندفع في حركة أخيرة متهورة، فمه مفتوح ليبتلع هيونغ كاملًا بأسنانه القاتلة.
لكن هيونغ لم يتحرك.
ظل واقفًا هناك، كأن جسده قد تجذّر في الأرض.
ثم…
في اللحظة التي كاد فيها الفك العملاق ينغلق عليه…
اختفى مجددًا.
الضربة الأخيرة
ظهر خلف الوحش مباشرة، جسده منخفض، ومنجله مرفوع لأعلى، مستعدًا للذبح.
وفي تلك اللحظة… أطلق هيونغ كل قوته.
"قطع الجحيم—"
هوت شفرة المنجل بسرعة جنونية، مشتعلة بهالة قاتمة كأنها نيران الجحيم نفسها.
"زهــــــــــــم!!!"
مرت لحظة من الصمت.
ثم… انشق جسد الوحش إلى نصفين.
ظل الوحش في مكانه للحظة، وكأنه لم يدرك ما حدث… ثم انفجر الدم الأسود من جسده مثل بركان، وانقسم إلى شطرين قبل أن يسقط على الأرض، هامدًا إلى الأبد.
وقف هيونغ في وسط بركة الدماء، منجله يقطر بسائل الحياة المنطفئة لعدوه. رفع رأسه، ونظر إلى الأفق القاتم.
"المعركة القادمة ستكون أصعب."
قالها بهدوء، قبل أن يمضي قدمًا… تاركًا خلفه جثة أخرى تنضم إلى مذبحة لا نهاية لها. وقف هيونغ وسط بركة الدماء السوداء، أنفاسه هادئة كأن القتال لم يكن سوى تمرين بسيط. حدّق في جسد الوحش المشطر إلى نصفين، ثم زفر ببطء.
"كان هذا مزعجًا أكثر مما توقعت."
خفض رأسه ونظر إلى منجله… لا يزال يقطر بسائل الحياة المتخثرة لعدوه، والهالة القاتمة التي تحيط به لم تتبدد بعد. لوهلة، شعر بذبذبة غريبة من السلاح، كما لو كان يناديه، يطالبه بالمزيد…
قبض على مقبضه بقوة، قبل أن يغرسه في الأرض بجانبه، مجبرًا الطاقة القاتلة على الخمود.
ثم جلس.
انحنى إلى الخلف قليلًا، يريح جسده على أحد الصخور المحطمة، بينما لف الضباب الداكن ساحة المعركة. لم يكن إرهاقًا جسديًا ما شعر به، بل نوعًا من الترقب… كأن هناك أعينًا تراقبه من العدم.
دعوة الظلال
رفع يده اليمنى ببطء، ثم غمرها في الأرض كما لو كانت سائلة.
"انهضي."
خرجت الكلمات بصوت خافت، لكن تأثيرها كان أشبه بأمر لا يقبل العصيان.
من تحت سطح الأرض، بدأت الظلال تتلوى كأنها كائنات حية، تمتد كأذرع متشابكة قبل أن تتصلب وتأخذ شكلًا ماديًا.
خمسة أجساد سوداء خرجت من العدم، بلا وجوه، بلا ملامح… فقط حضور قاتم يبعث على الرهبة.
كانت هذه ظلاله. كائنات غير ملموسة تتغذى على الظلام، وتنفذ أوامره دون تردد.
"ابحثوا."
بمجرد أن نطق بالأمر، تحركت الظلال بانسيابية أشبه بموجات الظلام، تذوب وتعيد تشكيل نفسها وهي تندفع في جميع الاتجاهات، تتسلل بين الأنقاض، تنساب فوق الأرض، تلتف حول الجدران المحطمة، باحثة عن أي أثر، عن أي تهديد، عن أي سر مخبأ في هذا المكان.
أما هو، فبقي جالسًا هناك، يراقب دون أن يحرك ساكنًا.
الهمسات القادمة من الفراغ
بينما كانت الظلال تنتشر، بدأ يسمع همسات… ليست أصواتًا واضحة، بل تموجات في الفراغ، كأن المكان نفسه ينبض بحياة غريبة.
رفع رأسه قليلاً، وعيناه الحادتان تتوهجان في العتمة.
"هناك شيء هنا…"
شعر به… وجودًا ليس حيًا، لكنه ليس ميتًا تمامًا.
وفي تلك اللحظة، عادت إحدى ظلاله، تنحني أمامه كما لو كانت تعطيه تقريرًا.
"إذن… هناك شيء تحت الأرض."
وقف ببطء، قبضته تعود للالتفاف حول مقبض منجله. لم يكن بحاجة لكلمات إضافية. وقف هيونغ فوق الأرض المتشققة، حيث أشارت ظلاله إلى وجود شيء غامض تحت السطح. لم يكن بحاجة إلى تردد، فقد اعتاد على مواجهة المجهول. رفع قدمه اليمنى، ثم داس بقوة، فاهتزت الأرض وظهرت تشققات متعرجة حوله.
"اخرج."
لم يكن صوته عاليًا، لكنه حمل ثقل الهيمنة المطلقة.
في البداية، لم يحدث شيء… ثم بدأ الهواء يثقل، كأن المكان ذاته يحتضر.
صرير مشؤوم صعد من أعماق الأرض.
ببطء، بدأت أنسجة سوداء ملتوية تزحف من التشققات، تتلوى كأنها كائنات جائعة، قبل أن تلتحم وتشكّل يدًا ضخمة ذات مخالب ممتدة. ثم تبعتها ذراع أخرى، ثم رأس مشوه، بعيون تتوهج بلون أحمر باهت وسط الظلام.
وحش جديد… لكن هذه المرة، لم يكن مجرد مخلوق آخر.
"هذا ليس وحشًا عادياً… إنه شيء هنا."
همست الظلال من حوله، كأنها تشعر بالخطر القادم.
الوحش المقيد… والهاوية التي تفتحت
ارتفع الكيان من الأرض، جسده الضخم محاط بسلاسل متصدعة، كأنها كانت تسجنه لقرون طويلة. رغم أنه بالكاد خرج، إلا أن ضغطه كان مروعًا، يطغى على الأجواء بثقل كريه.
ثم فجأة… انكسرت السلاسل.
زمجرة مدوية انفجرت في المكان، ارتج لها الفضاء المحيط.
لكن هيونغ لم يتحرك.
لم يرفع منجله، لم يتراجع، لم يغير وضعه.
بل فقط حدّق.
نظراته كانت باردة، واثقة، كأن ما أمامه ليس إلا عقبة أخرى في طريقه.
الوحش، الذي بدا مستعدًا للانقضاض، توقف للحظة… تردد.
"تخافني؟"
خرجت كلمات هيونغ هادئة، لكنها اخترقت الفراغ كأنها نصل مسموم.
وفي اللحظة التالية، كان يتحرك.
الهيمنة المطلقة
بخطوة واحدة، اختفى.
لم يكن هناك صوت، لم يكن هناك أثر… مجرد ظلال تبعثرت في الهواء، وكأن جسده نفسه لم يعد سوى جزء من العدم.
وفي نفس اللحظة، ظهر خلف الوحش.
"مت."
انطلق منجله، هالة سوداء قاتمة تمتد من نصله، أشبه بشبح يفتح فكيه لابتلاع ضحيته.
شريحة واحدة…
وانقسم العالم إلى نصفين.
الوحش لم يكن لديه وقت للصراخ. لم يكن لديه وقت للمقاومة.
في لحظة واحدة، تقطّع جسده كأنه لم يكن سوى ورق رقيق أمام سلاح الجلاد.
ثم، دون ضجة، اختفى… كما لو أن العالم نفسه رفض بقاءه.
صمت… ثم اليقين
وقف هيونغ في مكانه، عينيه مغمضتين للحظة، كأنه يستمع إلى آخر نبضات العدو وهي تتلاشى في العدم.
ثم فتح عينيه…
"لم يكن هذا كل شيء."
كان يعلم.
هذه مجرد بداية.
حدق هيونغ في الفتاة، لكن تركيزه لم يكن عليها فقط. كان هناك شيء آخر. شيء يتحرك في الظل خلفها.
أراد ظلاله أن تتقدم، أن تلتف حولها مثل أفعى تحاصر فريستها، لكن هيونغ رفع يده، وأوقفهم.
"ابقوا في أماكنكم."
كانت هذه إشارة واضحة… إنه يفضل المواجهة المباشرة.
الفتاة، التي كانت ترتجف منذ لحظات، بدأت فجأة تهدأ. وكأنها أدركت أنها ليست في خطر… أو ربما كانت تعرف أن الخطر الحقيقي ليس من هيونغ، بل من شيء آخر كان يقترب.
همهمة بطيئة انطلقت من الظلام.
"إنه قوي…"
لم يكن صوتًا بشريًا. بل كان أشبه بصدى مخيف، وكأن أكثر من كائن يتحدث في آن واحد، يتردد في الفراغ وكأنه ينبع من أعماق العالم نفسه.
لم يبدُ على هيونغ التأثر، لكنه شعر بذلك الضغط الخفي. هذا الكيان لم يكن عاديًا.
"أرني نفسك."
لم تكن كلمات هيونغ طلبًا… بل أمراً.
وفجأة، تحرك الظل.
من خلف الفتاة، امتدت يد طويلة نحيلة، أصابعها ملتوية بشكل غير طبيعي، تتلوى وكأنها مصنوعة من ظلام حي. انبثق منها هالة سوداء كثيفة، وكان الهواء نفسه يهتز عند اقترابها.
لكن قبل أن تلمس الطفلة، انفجرت الظلال حول هيونغ، وانطلقت كالعاصفة!
في لحظة، كان منجله في يده، وانقض بسرعة لا ترى بالعين المجردة. ضربة واحدة… لم تقطع اليد فقط، بل شطرت الظل كله إلى نصفين.
صرخة مرعبة مزقت الهواء، لم تكن صرخة ألم، بل كانت أشبه بالغضب والحقد المتراكم عبر العصور.
"هذا ليس كافيًا لقتلي…"
لكن هيونغ لم يتحرك. لم يظهر أي رد فعل.
بل رفع عينيه الباردتين، والتقى بنظرة الكيان مباشرة، ثم قال ببرود:
"كنت أعلم ذلك."
وفي اللحظة التالية… تغير كل شيء.