كان الهواء ثقيلاً، كأن الكون ذاته يكتم أنفاسه ترقبًا للآتي. في وسط العاصفة السوداء التي أحدثها قدوم الكيان الغامض، وقف هيونغ غير مبالٍ، عيناه الداكنتان كليلٍ لا نجوم فيه، لا توحي بشيء سوى العدم البارد. رياح القوة الغاشمة تصطدم بجسده كأنها أمواج عاتية تحاول كسر جبل، لكنه لم يتحرك ولو قيد أنملة.

خصمه، ذاك الكيان المشؤوم، لم يكن مجرد عدو عادي. جسده المتآكل بفعل الظلام كان يرسل نبضات من الرهبة في أرجاء الميدان، لكن حتى وهج الشر المتدفق منه لم يحرك شعرة في رأس هيونغ. بل على العكس، رفع الأخير نظره إليه بازدراء هادئ، كأن وجوده ذاته كان إهانة لصبره.

ببطء، رفع هيونغ يده اليمنى، الأصابع تمتد ببطء، كأن الزمن نفسه ينحني لمشيئته. لم يكن هناك أي استعراض، لا هالة نارية، ولا طاقة تنفجر. ومع ذلك، في اللحظة التي تحركت فيها يده، تصدع الفراغ نفسه، وكأن الواقع احتج على فعل كهذا. كان هذا الفعل وحده كفيلاً بجعل الكيان يتراجع خطوة. لم يكن خوفًا، بل إدراكًا لحقيقة مروعة: هذا الرجل أمامه لم يكن مجرد بشري... بل كارثة مجسدة.

لم يحتج هيونغ للكلمات. هيبته وحدها تحدثت بصوت أعلى من أي تهديد. تحرك بخطوة واحدة... وفي تلك اللحظة، اختفى صوت الرياح، تلاشى الدمار، وعم الصمت القاتل. كان كأن الكون كله تراجع خطوة للخلف ليمنحه المجال.

"إن كنت تظن أنك تمتلك القوة لتهديدي..." قال بصوت منخفض، لكنه حمل في طياته ثقل ألف معركة. "فلتُرني."

الكيان الغامض لم يحتمل، انفجر إلى الأمام، ذراعه المتآكلة تتحول إلى سلاح مريع، لكن قبل أن يصل...

شقت صاعقة سوداء السماء، لم يرفع أحد يده، لم يصدر أي أمر، فقط إرادة هيونغ وحدها أوقفت العالم للحظة.

وحين تحركت يده أخيرًا، كانت النتيجة حتمية...

السماء كانت تنزف ظلامًا. الأرض تحطمت تحت وطأة الوجود المرعب الذي استُدعي إلى هذا المكان، وريح كريهة مليئة بصدى الأرواح الهالكة كانت تعوي وسط الخراب. في قلب هذا المشهد الجهنمي، وقف هيونغ، وحده، بلا خوف، بلا تردد.

كان منجله الهائل يمتد على طول جسده، شفرته المنحنية تعكس وميضًا كئيبًا، وكأنها تغذي نفسها من ظلال العالم من حولها. كان يحمل السلاح وكأنه امتداد لجسده، بلا جهد، بلا تردد. كل خلية في جسده كانت مشدودة، جاهزة... كأنه قاطع طريق على مشارف مجزرة.

أمامه، وقف الكيان، كومة من الظلام المتجسد، أطرافه تلتف وتتمدد كالأفاعي، وعيونه المشعة بالحقد تتأمل هيونغ بلا تعبير. لم يكن له وجه، ومع ذلك، كان من الواضح أنه يبتسم، سخريةً... تحديًا.

ثم بدأ الجحيم.

بلمح البصر، اندفعت أشواك الظلام من الأرض، عملاقة كأنها أرواح غاضبة تريد تمزيقه. لكن هيونغ لم يتحرك... حتى اللحظة الأخيرة.

"تشحج—!"

بضربة واحدة، تحطم العالم من حوله. انفجر الظلام، قُطعت الأشواك كأنها أوراق هشة، والغبار تصاعد في موجات كثيفة. لكنه لم يكن بحاجة لرؤية، فالغريزة وحدها كانت كافية. في جزء من الثانية، كان قد تحرك مرة أخرى.

ظهر أمام الكيان، يده تقبض على المنجل بزاوية قاتلة، ثم... مزق السلاح الهواء.

"شخخخخخ!"

لم يكن مجرد قطع... بل ذبح.

الكيان انفجر، أجزاء من جسده الحالك تناثرت في كل اتجاه، لكن لم يكن هذا كافيًا لإنهائه.

من بين الدخان، ظهر الكيان مرة أخرى، لكن هذه المرة، كان أكثر غضبًا. تحركت أطرافه مثل سياط شيطانية، انقضت نحو هيونغ بسرعة تفوق العين البشرية.

لكنه كان أسرع.

مال بجسده بمرونة مستحيلة، وكأنه شبح، ثم انحنى وأدار المنجل بقبضته، قبل أن يرفعه بضربة صاعدة مزقت كل شيء أمامه.

"شرااااااخ!!"

اندلعت الدماء السوداء، تفجرت من جسد الكيان كسيل جارف، وأجزاء من ظله تهاوت كأشلاء ممزقة.

لكن هيونغ لم يتوقف. تحرك كالعاصفة، التف حول جسده، قدمه تغوص في الأرض المدمرة، وقبل أن يتمكن الكيان من التراجع، انقض عليه مرة أخرى.

"كفاك عبثًا."

"فشششش!"

أحشاؤه تطايرت.

بضربة أفقية، قطع هيونغ جسد الكيان إلى نصفين، ومن الداخل، سقطت أشلاء مشوهة، وجوه محطمة، أيادٍ كانت تتوسل، أرواحًا محبوسة في هذا الجسد الملعون.

لكن لم يكن هناك وقت للشفقة.

هيونغ استدار بسرعة، أدار المنجل حول نفسه، ثم غرسه عميقًا في الأرض.

في لحظة، تشققت الأرض، انفجرت شظايا سوداء من الأسفل، وألسنة من اللهب القاتم التهمت ما تبقى من الكيان.

صرخ، لكن صرخته لم تكن من الألم... بل من الإدراك.

الإدراك أنه... انتهى.

وفي أقل من لحظة... تبخر كل شيء.

الغبار استقر، لم يبقَ سوى الصمت. هيونغ وقف بين الخراب، جسده لم يتلطخ بقطرة دم، عيناه الباردتان لم ترمشا حتى.

رفع منجله، تأمله للحظة، قبل أن يلوّح به ليتخلص من بقايا الطاقة السوداء التي التصقت بحوافه.

ثم أدار ظهره، وسار بعيدًا.

لأن هذا لم يكن سوى قتال آخر... بعد المعركة، ساد الصمت. لم يكن صمت راحة، بل صمتًا محمّلًا بالرهبة، كأن الغابة نفسها تحبس أنفاسها.

هيونغ لم يكن بحاجة للنظر إلى الخلف؛ لم يبقَ شيء سوى الرماد. قبض على مقبض منجله بقوة، ثم بدأ بالسير، قدماه تدوسان الأرض المبتلة بدماء الكيان الذي سحقه. كان الليل مظلمًا، لكن أعين هيونغ لم تكن بحاجة للضوء، فقد اعتاد الظلام...

الغابة كانت أكثر كثافة كلما توغل فيها. الأشجار كانت عالية بشكل غير طبيعي، وأغصانها متشابكة كأنها فخاخ حيّة، الهواء مشبع برائحة الرطوبة والتعفن، وأصوات خافتة كانت تتردد بين الأشجار، كأنها همسات تحاول أن تتسلل إلى روحه.

لكنه لم يكن وحده.

توقف فجأة.

رياح خفيفة تحركت بين الأشجار... لكنها لم تكن طبيعية.

لم يكن هذا مجرد نسيم، بل تنفّس.

رفع هيونغ رأسه، عيناه الحادتان تتفحصان الظلام، ومن دون أن يحرك جسده، قبض على المنجل بقوة.

ثم…

"كفاك اختباءً."

سقط الصمت مرة أخرى. لكن هذه المرة، لم يكن هناك شك— شيء ما كان يراقبه.

"كيان آخر..."

قبل أن ينطق اسمه، اهتزت الأشجار بعنف، كأن الغابة كلها تحركت في وقت واحد. فجأة، من الظلال العميقة بين الأشجار، بدأ شيء يتشكل.

"هوهو... لقد وجدتَني بسرعة، هيونغ."

الصوت لم يكن من فم واحد، بل من آلاف الأفواه.

خرج من الظلال مخلوق هائل، جسده لم يكن من اللحم والعظم، بل من أجساد متشابكة، متلاحمة، ملتوية بطريقة مستحيلة. كانت الوجوه تغطي جسده بالكامل—آلاف الوجوه البشرية، كل واحد منها يصرخ أو يهمس، بعضهم يبكي، وبعضهم يضحك بجنون. الأذرع كانت تخرج من جسده، تتحرك كما لو كانت تعاني في عذاب أبدي.

هذا لم يكن مجرد كيان... كان جيشًا داخل جسد واحد.

"أنا ألف، أنا اللاشيء، أنا كل الأرواح التي ابتلعتها هذه الغابة."

رفع هيونغ منجله، تأمله للحظة، ثم قال بهدوء:

"إذاً... سأضيفك إليها."

وفي لحظة، بدأ الجحيم.

انفجر ألف إلى الأمام، جسده يتمدد كأمواج من الجثث، أذرع ضخمة انطلقت نحوه كأنها أنصال حادة تريد تمزيقه. لكن هيونغ لم يتحرك حتى اقتربت منه، ثم في اللحظة الحاسمة، انحرف بجسده، التوى كأن الرياح تحمل جسده، والمنجل انطلق.

"شخخخخخخ!"

ضربة واحدة... ومئات الأجساد سقطت من جسد الكيان، تتلوى وتصرخ، لكنها لم تمت. عادوا إلى جسده، انضموا إليه من جديد.

ألف ضحك بصوت متداخل، أصواته تصدح في الغابة:

"عبث، عبث، عبث! لا يمكنك قتلي، فأنا لست واحدًا، أنا ألف!"

لكن هيونغ لم يتوقف.

"إذًا سأقتلكم جميعًا."

تحرك كالعاصفة، شبحٌ في الليل. ضرباته كانت سريعة، دقيقة، قاطعة. كل مرة ينطلق فيها منجله، كانت عشرات الوجوه تسقط، لكن الغابة نفسها بدت وكأنها تتحد مع ألف، تعيد بناءه كلما فقد جزءًا.

ثم فجأة، تحرك الكيان بطريقة مختلفة.

في لحظة، تحول إلى موجة ضخمة، غمر هيونغ بالكامل!

"هاهاهاها!!"

اختفى هيونغ تمامًا داخل جسد الكيان.

"الآن أصبحت جزءًا مني!"

لكن...

في قلب الجسد المظلم، بين الأجساد التي تحاول التهامه، كانت عينا هيونغ تلمعان.

لم يكن خائفًا.

بل كان ينتظر هذه اللحظة.

"أخطأت في شيء واحد..."

تحركت شفتاه ببرود.

"أنا لا أقاتل لأقطع. أنا أقاتل لأُبيد."

ثم...

انفجر الضوء.

"شرااااااااخ!!!!"

منجل هيونغ لم يكن مجرد سلاح... بل كان لعنة.

ضربة واحدة، ولكنها لم تكن عادية. لم تكن مجرد قطع. كانت... محوًا.

كل الأجساد التي لامسها المنجل لم تعد تعود، لم تلتئم... بل تبخرت تمامًا!

"م—ماذا؟!"

ألف صرخ، لأول مرة... في خوف حقيقي.

"لا... مستحيل...!"

لكن الأمر كان قد انتهى.

"تموتون الآن."

رفع هيونغ منجله للمرة الأخيرة، ووجهه بلا تعبير.

"انتهى أمركم."

ثم نزل المنجل.

"ززززززززراااااااااااخ!!!"

انفجرت الغابة بوميض أحمر قاتم، والصراخ تصاعد كالجنون.

لكن بعد لحظات... لم يبقَ شيء.

الغابة وقفت صامتة. الظلال انحسرت. لم يبقَ من ألف سوى رماد أسود متناثر، كأنه لم يكن موجودًا قط.

وقف هيونغ وسط الخراب، أدار منجله مرة أخرى، وأسقط آخر قطرة من دماء الكيان عن شفرته.

ثم استدار... وسار إلى أعماق الغابة.

لأن هذه لم تكن إلا البداية... وفي الظلام، كانت هناك وحوش أخرى بانتظاره.

هيونغ وقف وسط الأنقاض، ممسكًا بمنجله الذي لا يزال يقطر بقايا سوداء مما كان يُعرف باسم "ألف". تنفس ببطء، نظر حوله، ثم استدار ليكمل طريقه.

لكنه لم يكن وحده.

"لقد كنتَ قاسيًا معهم."

توقف هيونغ، عيناه الحادتان انطلقتا نحو مصدر الصوت.

على صخرة مغطاة بالطحالب، جلس كيان طويل القامة، جلده كان أزرق قاتمًا، وأذناه الطويلتان المدببتان زادتاه مظهرًا غير بشري. عينيه كانتا تتوهجان بلون بنفسجي خافت، وهو يتأمل هيونغ بابتسامة باردة.

لم يكن مثل باقي "ألف". لم يكن مجرد جسد عشوائي من الأرواح المتشابكة.

كان فردًا… بوعي كامل.

رفع هيونغ منجله قليلًا، وقال بصوت بارد: "أنت أحدهم؟"

"كنتُ، لكنني لم أعد."

نهض الكيان ببطء، خطواته هادئة كأن الأرض نفسها لم تشعر به، ثم تابع: "أنا من تبقى منهم بعد أن بدأنا نفكر بشكل منفصل. كنتُ مختلفًا منذ البداية... ولأنني كنتُ مختلفًا، نبذوني."

نظر هيونغ إليه بلا تعبير، ثم قال: "ولماذا لم تهرب؟"

ضحك الكيان بهدوء، ثم قال: "لأنني كنتُ أنتظر شيئًا مثل هذا."

لوّح بيده نحو الرماد الأسود المتناثر في الأرض، ثم أضاف: "لقد قتلتهم، محوتهم بالكامل... شيء لم يكن ممكنًا من قبل. أنت قوة ليست من هذا المكان."

لم يرد هيونغ، فقط حدق به بعيون جامدة.

تقدم الكيان خطوة أخرى، ثم قال بنبرة أكثر جدية: "لكن أخبرني، هيونغ... هل أنت قاتل فقط؟ أم أنك تفهم ما تفعله؟"

ضاقت عينا هيونغ قليلًا، نبرته لم تتغير وهو يرد: "إذا كنتَ تقصد أنني لا أفهم عدوّي... فأنت مخطئ."

ابتسم الكيان، ابتسامة لم تحمل أي استهزاء، بل شيء يشبه الفضول: "إذا كنتَ تفهمهم... فهل تعرف لماذا أصبحوا كذلك؟"

صمت هيونغ للحظة، ثم قال ببرود: "لأنهم ضعفاء. ولأنهم لم يملكوا الإرادة للقتال وحدهم."

ابتسامة الكيان تلاشت ببطء.

"هذا صحيح... لكن ليس تمامًا."

نظر إلى السماء المظلمة فوقهم، ثم قال: "ألف لم يكونوا دائمًا هكذا. كانوا بشريين في يوم من الأيام، لديهم أسماء، قصص، أحلام. لكن شيئًا ما كسرهم... شيئًا دفعهم إلى الاتحاد بشكل قسري، كأنهم يبحثون عن ملجأ في بعضهم البعض."

نظر مجددًا إلى هيونغ، وأضاف بصوت خافت: "والآن، أنت تقتلهم لأنهم ضعفاء؟ أم لأنهم يشكلون تهديدًا؟"

لم يجب هيونغ فورًا. لكن عيناه لم تتغيرا، لم تتردد للحظة وهو يقول:

"أنا لا أقتل لأنهم ضعفاء. أنا أقتل لأنهم يقفون في طريقي."

هز الكيان رأسه ببطء، ابتسامة صغيرة عادت إلى وجهه.

"إجابة صادقة."

ثم رفع يده إلى صدره، ووضعها فوق قلبه، وقال بصوت خافت:

"اسمي… نيرفا."

لم يتحرك هيونغ، لكن عينيه كانتا تراقبانه بدقة.

أكمل نيرفا: "لا أنوي القتال معك... على الأقل ليس الآن. لكن إن كنت تريد حقًا إنهاء ألف... فأنت بحاجة إلى معرفة شيء واحد."

انتظر هيونغ بصمت، فأضاف نيرفا بصوت منخفض:

"لم يكونوا الوحيدين... والذين يقفون خلفهم أقوى بكثير."

لم يكن هذا تهديدًا... بل كان تحذيرًا.

هيونغ لم يتغير تعبيره، لكن شيئًا في الهواء أصبح أثقل. نيرفا شعر بذلك، لكنه لم يتراجع.

ابتسم مرة أخرى، ثم قال: "سأكون في الظل، أراقب كيف ستمضي في هذا الطريق. سأرى إن كنتَ مجرد قاتل... أم شيء أعظم من ذلك."

ثم استدار، وسار نحو الظلام، جسده يتلاشى ببطء كأنه لم يكن موجودًا أبدًا.

ترك هيونغ وحده في الغابة، مع الرياح التي حملت رماد ألف بعيدًا... وهدوء ما قبل العاصفة المقبلة.

تقدَّم هيونغ بثبات وسط الغابة الكثيفة، خطواته هادئة لكنها تحمل وزن الطوفان قبل أن يجتاح الأرض. كان النسيم البارد ينساب بين الأشجار العملاقة، إلا أن الهواء ذاته بدا ثقيلًا تحت وطأة هالته القاتلة.

أمام عينيه، كانت الشجرة العملاقة التي تُعرف بأنها مسكن مئات من الألف، جذورها تمتد كالأفاعي عبر الأرض، وأغصانها تشكِّل عرشًا خفيًا لهم. الألف هناك، أجسادهم الزرقاء تشع بتوهج خافت تحت ضوء القمر، كانوا يتنقلون بين الأغصان وبين جذور الأرض، يتحدثون بصوت خافت، أصواتهم مزيج من القلق والخوف… حتى تجمَّدوا جميعًا.

لقد شعروا به.

لم يكن هيونغ بحاجة إلى التحدث، مجرد وجوده كان كافيًا لزرع الرعب في قلوبهم. ارتجفت الأوراق، والأغصان تمايلت كأن الطبيعة ذاتها خضعت لهيبته، والألف رفعوا أسلحتهم البدائية نحوه، رماحهم وسهامهم ترتجف كما ترتجف أيديهم التي تمسكها.

أدار هيونغ رأسه ببطء، تفحَّص الأعداد من حوله، مئات المقاتلين… ولكنه لم يرَ سوى حفنة من الفرائس العاجزة.

"هذا عدد قليل لي فقط؟"

خرج صوته منخفضًا، لكن صداه ارتطم بجدران الغابة، كأنه أمر حتمي بالموت. كانت كلماته هادئة، لكنها حملت نبرة سخرية ثقيلة، جعلت بعض الألف يبتلع ريقه لا إراديًا، وآخرون تراجعوا دون أن يدركوا ذلك.

ثم تحرَّكت الظلال.

خرجت من الأرض كما لو كانت كوابيس استيقظت من سباتها الطويل، ألف شكل مظلم، بلا وجوه، بلا ملامح، مجرد كتل من الهلاك الزاحف. الأعين المتوهجة في ظلاله لم تكن تشع بالحياة، بل كانت تمتصها.

جحافل من الرعب المطلق، تحيط بالألف كأنها تطوقهم داخل قبرهم قبل حتى أن يُحكم عليهم بالموت.

هيونغ لم يتحرَّك بعد، فقط أسند منجله الأسود العملاق على كتفه، النصل كان قاتمًا كليلةٍ بلا نجوم، مشبَّعًا بدماء لا تُحصى، ولمَّا انحنى قليلًا مع وزن السلاح، بدا وكأنه ملاك موتٍ يستعد لحصد الأرواح.

رفع عينيه ببطء، حدَّق فيهم نظرة جعلت الهواء ذاته يتوقف للحظة.

ثم نطق بهدوء قاتل:

"دعونا ننهي الأمر." حين انبثقت الظلال، وساد الصمت المشحون بالموت، كان الألف يترقبون مصيرهم المحتوم… لكن قبل أن تنفجر المجزرة، تحرَّك شيء في قلب الشجرة العملاقة.

خطوات ثقيلة، ثابتة، محمّلة بحكمة السنين، اخترقت الصمت كأنها أصوات الماضي ذاته تنادي الجميع للإنصات.

"كفى."

كان الصوت أجشًّا، عميقًا كالرعد البعيد، لكنه حمل معه سلطة لا يمكن إنكارها. ومع صداه، تفرَّقت صفوف الألف، فتحوا ممرًّا بين الجذوع الهائلة، ليتقدم كبيرهم.

خرج الشيخ الألف من ظلال الشجرة، جسده أطول من بقية أبناء جنسه، بشرته الزرقاء تتخللها خطوط فضية كأنها شقوق محفورة من الزمن ذاته. كان يرتدي عباءة مصنوعة من أوراق شجر متحجرة، وتاجًا بسيطًا من عظام وحوش قديمة.

توقَّف على مسافة قصيرة من هيونغ، عينيه العميقتين تحدقان مباشرة في وحش الظلال. لم يكن هناك خوف في نظره… لكن كان هناك فهمٌ مرعب.

"أنت… لست من هنا."

لم يجب هيونغ، بل اكتفى بتمرير إبهامه ببطء على نصل منجله الأسود، كما لو كان يزن قيمة الإجابة.

لكن الشيخ لم ينتظر، بل تابع، صوته هادئ لكنه يحمل ثقل أجيال:

"أرى الموت يحيط بك، يرقص في ظلك، يقتات على وجودك… أخبرني، من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وما الذي تريده منا؟"

ابتسم هيونغ ابتسامة خفيفة، لكنها لم تكن تحمل أي دفء. رفع رأسه قليلًا، كأنما يفكر، ثم قال بصوت منخفض، لكنه كاد يمزق الأجواء بوحشيته:

"أنا نهاية كل شيء."

ثم رفع منجله عن كتفه، غرزه ببطء في الأرض، فتشققت التربة، واهتزّت جذور الشجرة العريقة.

"أنا لا آتي… أنا أُرسل."

في تلك اللحظة، شعر جميع الألف برعشة تسري في عظامهم. لم يكن هيونغ رجلًا… لم يكن محاربًا أو ساحرًا… بل كان كارثة تتجسد في هيئة بشر.

لكن الشيخ الألف لم يرمش حتى، بل زفر ببطء وقال بصوت خافت:

"إذن… جئتَ لتدمّر؟"

هنا، تلاشت الابتسامة من وجه هيونغ، نظر إليه بعينين لا تحملان أي رحمة، ثم قال:

"أنا جئت… لإنهاء هذه المسرحية البائسة." بعد لحظات من التوتر المكثّف، حيث احتبست أنفاس الألف بين الخوف والتوجس، رفع الشيخ يده بإشارة بسيطة. كأنها أمر ملكي، فتراجع المحاربون خطوة، لكن أعينهم بقيت معلقة على هيونغ، هذا الغريب الذي وقف بينهم وكأنه تجسيد للموت ذاته.

"اتبعني."

كانت نبرة الشيخ هادئة لكنها تحمل نغمة الأمر. التفت متجهًا نحو قلب الشجرة العملاقة، حيث بوابة منحوتة في جذعها بعناية عمرها آلاف السنين.

هيونغ لم يرد، فقط رفع منجله قليلًا ثم ضربه ببطء على كتفه، قبل أن يرفع يده الأخرى قليلًا مشيرًا إلى ظلاله المتراصة خلفه. في لحظة، وكأنها سحابة من الظلام، بدأت تلك الظلال تتلاشى، تغوص ببطء إلى الأرض كأنها تعود إلى العدم، تاركة خلفها سكونًا مخيفًا.

"هذا ليس وقتهم." تمتم هيونغ بصوت خافت، قبل أن يسير خلف الشيخ بخطوات ثقيلة، وكأن المكان بأسره أصبح أقل أهمية بمجرد أن أخفى ظلاله.

عند دخولهم، كان الظلام يحيط بالمكان للحظة، قبل أن تكشف مشاعل زرقاء عن قاعة واسعة، سقفها متشابك بجذور ضخمة، وجدرانها مزينة بنقوش قديمة تحكي تاريخ هذا الشعب المنسي.

في وسط القاعة، وقف عرش حجري ضخم، تحيط به أعمدة متصدعة، وعلى جانبيه طاولات طويلة حيث جلس حكماء الألف بصمت، وجوههم مشدودة بالقلق والفضول.

وقف الشيخ أمام العرش، ثم التفت إلى هيونغ، عينيه متقدتان بحكمة آلاف السنين.

"أخبرني، يا سيد الظلال… ماذا تفعل هنا حقًا؟"

ألقى هيونغ نظرة سريعة حول القاعة، ثم ابتسم ابتسامة باهتة، تحرك ببطء حتى وقف أمام الشيخ مباشرة، وقال بصوت منخفض لكنه اخترق سكون المكان كالخنجر:

"سؤال مثير للاهتمام… لكن الأهم منه، هو ما ستفعلونه أنتم بعد أن أخبركم بالإجابة." الشيخ، الذي بدا كأنه جزء من هذه الشجرة العتيقة، عقد يديه خلف ظهره وسأل بصوت عميق:

"إذن، أخبرني، أيها الدخيل... لماذا أتيت إلى هنا؟"

لم يرد هيونغ مباشرة، بل مرر إصبعه على حدّ منجله ببطء، وكأنه يتأمل مدى حدته. ثم رفع رأسه وحدّق في عيني الشيخ مباشرة قبل أن يقول ببرود:

"أنا هنا لأصبح أقوى… ولأنهي هذا الطابق."

ساد الصمت للحظة، قبل أن ترتفع همهمات بين حكماء الألف. البعض نظر إلى بعضهم البعض بقلق، والبعض الآخر قبض على سلاحه دون وعي. كلمات هيونغ كانت بسيطة، لكنها حملت معها ثقلًا هائلًا.

الشيخ لم يتفاجأ، بل ظلّ ينظر إلى هيونغ بتمعن، ثم قال:

"لتُنهي هذا الطابق؟ أنت تتحدث كما لو كنت تعرف كل شيء عنه."

ضحك هيونغ بهدوء، صوت ضحكته كان أشبه بتموج الظل في الظلام. "لست بحاجة إلى أن أعرف كل شيء، أنا فقط أعرف أن كل شيء سينتهي عندما أصل إلى القمة."

ثم استدار قليلًا، ناظراً إلى النقوش القديمة على الجدران، وكأنها لا تعني له شيئًا. "هذا المكان… هذه الغابة… أنتم جميعًا لستم سوى جزء من الطابق."****"وجودكم هنا محكوم بقوانين يجب أن أتجاوزها."

ضاقت عينا الشيخ، نبرته أصبحت أكثر جدية:

"وكيف تنوي أن تصبح أقوى؟ هل ستذبحنا جميعًا؟"

رفع هيونغ منجله قليلاً، وأمال رأسه بتفكير، وكأن الفكرة لم تكن مستبعدة، ثم قال بصوت هادئ لكن خطير:

"ذلك يعتمد على ما ستفعلونه."

في القاعة العتيقة، وقف هيونغ أمام الحكيم، عينيه تلمعان ببرود تحت ظلال القناديل الخافتة. كان الحوار بينهما محتدماً، لم يكن الشيخ مستعداً لتقديم إجابات سهلة، ولم يكن هيونغ ممن يقبلون بالتردد.

قال الشيخ بصوت هادئ لكنه يحمل وزن السنين: "إن كنت تسعى للقوة، فعليك أن تفهم أن ليس كل شيء يُؤخذ بالقوة وحدها."

هيونغ ابتسم بسخرية، ثم أمال منجله الضخم على كتفه وقال: "إذا لم تُؤخذ القوة، فستُسلب. ليس هناك خيار آخر."

لكن قبل أن يتمكن الحكيم من الرد، دوى انفجار مدوٍّ خارج القاعة، تبعته اهتزازات قوية جعلت الغبار يتساقط من السقف. حدّق هيونغ نحو الباب، ثم تردد صوت صراخ وفزع من الخارج.

اندفعت ألسنة النيران عبر النوافذ، انعكاسها على الجدران أضفى لونًا دموياً على القاعة. اقترب أحد المحاربين من الشيخ بسرعة، وجهه شاحب وهو يلهث:

"إنها قوات زعيمة الجليد! لقد بدأوا الهجوم!"

اتسعت عينا الحكيم بصدمة، في حين أدار هيونغ رأسه ببطء نحو الشيخ، ملامحه لم تتغير، لكن في عينيه تألق بريق مثير للاهتمام.

"زعيمة الجليد، هاه؟" قالها بصوت هادئ، ثم تقدم خارج القاعة بخطوات بطيئة، وكأنه غير مكترث بالدمار الذي بدأ يحيط بالمكان.

حين خرج إلى الساحة، كانت المشاهد أمامه فوضوية—المنازل تحترق، الأشجار العملاقة تشتعل، وأفراد الألف يحاولون الدفاع عن أنفسهم ضد محاربين مدججين بالدروع الجليدية. في السماء، كانت قطع ضخمة من الجليد تتهاوى كالمذنبات، تحطم الأرض وتزيد من الفوضى.

تنهد هيونغ، ثم رفع منجله من على كتفه، تمرر أصابعه على حدّه الحاد قبل أن يبتسم ابتسامة قاتلة.

"حسنًا، يبدو أن الأمور ستصبح ممتعة."

2025/02/22 · 7 مشاهدة · 3038 كلمة
Aymen
نادي الروايات - 2025