خرج هيونغ من القاعة على عجل عندما دوّى صوت الزئير الوحشي في أنحاء قرية الألف. كان الهواء مشبعًا برائحة الدم والثلج الذائب، بينما تصاعدت صرخات السكان وهم يفرون من وحوش مظلمة تشق طريقها عبر الممرات الجبلية الضيقة.
وقف هيونغ عند حافة الساحة، عينيه الحادتين تمسحان المشهد أمامه. رأى كائنين ضخمين يقودان الهجوم: الأول، وحش ذو جسد عملاق مكسو بالجليد المتصلب، عيناه تتوهجان بلون أزرق متجمد، وكل خطوة يخطوها كانت تترك وراءها قشعريرة قاتلة. والثاني، مخلوق نصف بشري، نصف وحش، له قرون سوداء ملتوية وأنياب تقطر سُمًّا، يتبختر في المعركة وكأنه يستمتع بالمذبحة.
زمّ هيونغ شفتيه، ثم استدار نحو شيخ القرية الذي كان يقف بالقرب، متكئًا على عصاه، وجهه شاحب من الرعب. "من هؤلاء؟" سأله بحدة.
ابتلع الشيخ ريقه قبل أن يجيب بصوت مرتجف: "إنهما من قادة جيش ملكة الجليد... ذلك المخلوق الجليدي يدعى 'فرايزينغ دراك'، والآخر يُعرف باسم 'سالفان المتوحش'. كلاهما من أقوى أتباعها."
تأمل هيونغ الوحشين ببرود قاتل، بينما قبض على منجله الحادّ بقوة. "إذن، لقد أرسلت ملكة الجليد كلابها." نظر إلى السماء الملبدة بالغيوم الثقيلة، ثم زفر بصوت منخفض. "حسنًا، لنعدهما إليها جثتين." وسط الأغصان العالية، وقف هيونغ بثبات، قدمه ترتكز على غصن سميك، وكأنه جزء من الطبيعة نفسها. لم تكن الرياح تزعجه، بل كانت تتمايل حوله بانسيابية، وكأنها تحترم حضوره. القمر خلفه كان ينير ظله، وشفرة منجله الضخم تلمع بضوء فضي بارد، وكأنها تمتلك إرادة خاصة تنتظر لحظة الانقضاض.
أسفل منه، كان سالفان المتوحش، أحد قادة وحوش ملكة الجليد، يحدق به بعينين متوهجتين بلون الدم. كان جسده الضخم، المكسو بالفراء الأسود الداكن، يشع طاقة قاتلة، وكل نفس يخرجه كان يحمل وعيدًا بالفناء. لكن رغم هذا، لم يظهر على هيونغ أي توتر أو ارتباك. على العكس، كان وجهه يحمل تلك الابتسامة الهادئة، الممزوجة بالسخرية واللامبالاة، وكأنه يراقب مجرد عرض هزيل.
زمجر سالفان بصوت يشبه هزة أرضية: "من تكون أنت، أيها البشري التافه؟!"
لم يرد هيونغ فورًا، بل رفع يده ببطء، وسحب منجله من على كتفه بحركة هادئة، وكأنه يوقظ وحشًا من سباته. مرّر أصابعه على نصل المنجل بحركة خفيفة، فصدر صوت ناعم أشبه بالهمس، قبل أن يبتسم ابتسامة مستفزة.
"كلب… ويتحدث بطلاقة؟ هذا أمر نادر." لوح بالمنجل قليلًا في الهواء، محدثًا صوتًا أشبه بتمزيق الفراغ، قبل أن يضيف بصوت خافت لكنه مشحون بالسخرية: "أين هي سلسلتك؟ وأين هي مالكتك؟"
ارتجف الهواء حول سالفان للحظة، ثم انفجر في موجة من الغضب، جاعلًا الأرض تحت قدميه تتشقق من شدة ضغطه. زمجر بصوت اهتزت له الأشجار، ومخالبه غرزت في الأرض: "راقب لسانك، أيها الوغد! سأجعلك تندم على كل كلمة تفوهت بها!"
لكن هيونغ لم يتحرك، لم يرتجف، لم يرمش حتى. بل أمال رأسه قليلًا، وضحك ضحكة قصيرة باردة، كأن كلمات الوحش لم تكن سوى نقيق عصافير صباحية.
"أوه، هل جرحت مشاعرك؟" قالها بصوت هادئ، وكأنه يسخر من طفل صغير. "لم أعلم أن كلاب ملكة الجليد لديها كبرياء. ظننت أنكم مجرد أدوات تنبح وتأكل بقايا الطعام الذي تلقيه لكم."
ارتجف جسد سالفان بالغضب، وطاقة قاتلة بدأت تتصاعد منه. لم يكن معتادًا على أن يتحدث إليه أحد بهذه الطريقة، خاصة ليس بشريًا!
لكنه، رغم غضبه، أدرك شيئًا… هذا البشري ليس عادياً.
وقفه، نبرته، طريقته في حمل منجله، كل شيء فيه لم يكن طبيعيًا. لم يكن خائفًا، لم يكن متوترًا… بل كان ينظر إليه وكأنه مجرد متعة أخرى في ليلة مملة.
حاول كبح غضبه، زأر بصوت منخفض وهو يزم شفتيه: "قرية الألف تحمل سرًا قديمًا، طاقة خفية تبحث عنها ملكة الجليد منذ قرون. قوة ستغير موازين الحرب. وأنت… لست سوى حشرة تقف في طريقنا."
صمت هيونغ للحظة، ثم رفع حاجبًا بخفة، وقال بصوت بارد: "إذن… مجرد طاغية أخرى تبحث عن القوة؟ كم هذا ممل."
في لحظة، انطلقت موجة طاقة قاتلة من سالفان، ولكن بدلًا من أن يتراجع هيونغ، ضغط بقدمه قليلًا على الغصن، فتحطم تحته، لكنه لم يسقط. بل أدار منجله في الهواء، وقبل أن تصل قدماه للأرض، دار جسده في حركة سلسة، ثم هبط بثقل رهيب أمام سالفان، تاركًا صدعًا صغيرًا أسفل قدميه.
نظر إلى الوحش نظرة باردة، وأمال رأسه قليلاً: "إن كانت ملكتك تظن أن الأمر بهذه السهولة، فدعونا نرى كيف ستسقط قوادها أولاً." وقف سالفان بشموخ وسط الأنقاض المتناثرة، عينيه المتوهجتين تمعنان النظر في هيونغ، الذي ظل ممسكًا بمنجله بيد واحدة، وكأن المعركة بأكملها ليست أكثر من تمرين صباحي.
قهقه سالفان بصوت أجش، مشوب بالسخرية: "أتعلم ما هو أكثر شيء مضحك فيك، أيها البشري؟"
رفع أحد مخالبه وأشار حوله حيث تناثرت جثث القرويين والمقاتلين: "أنت وحدك. حتى لو كنت قويًا، هل تظن أنك تستطيع تدمير جيش ملكة الجليد ببعض من الأوغاد والضعفاء؟"
ضحك بوحشية، صوت ضحكته يملأ الأرجاء، قبل أن يواصل: "أنت تحارب ملكة تحكم نصف العالم المتجمد! جيشها يسحق الأمم، ومع ذلك، تقف هنا بمفردك، متوهمًا أنك قادر على تغيير شيء؟! كم هذا مثير للشفقة!"
لكن، بدلًا من أن يغضب، ابتسم هيونغ. ابتسامة لم تكن عادية، بل حملت في طياتها برودة أشد من جليد ملكته. رفع منجله ببطء، حتى صار يشير إلى رأس سالفان مباشرة.
"جيش؟" قالها بصوت هادئ، قبل أن يغمض عينيه للحظة.
وفي تلك اللحظة… اهتزت الأرض.
من بين الظلال، بدأت أشكال تتحرك، تتماوج، وتلتفّ حول بعضها البعض. أصوات هامسة خرجت من العدم، قبل أن تتجسد أمام أعين سالفان في مشهد مرعب.
آلاف الكائنات…
كيانات سوداء، أشباح قاتمة بأعين حمراء مشتعلة، فرسان بلا وجوه يمتطون خيولًا من الدخان، محاربون بأجساد ملفوفة بالظلام، مخالب، أنصال، وعيون متوهجة، كلهم وقفوا خلف هيونغ… جيش الظلال الذي استُدعي من العدم.
"هل هذا جيش يسعدك؟" قالها هيونغ بهدوء وهو ينظر إلى سالفان نظرة باردة.
اختفت السخرية من وجه الوحش، وحل محلها صمت ثقيل، قبل أن يتمتم بصوت منخفض، والرهبة تتسلل إلى نبرته: "مستحيل… ما هذا…؟"
هيونغ لم يرد. فقط رفع منجله… فبدأ جيش الظلال يتحرك. بعد أن استدعى جيشه من الظلال، وقف هيونغ فوق الشجرة، وعيناه تراقبان الفوضى التي بدأت تعم المكان. قبل أن ينطلق نحو قائد الوحوش، سمع صوتًا خلفه. كان شيخ قرية الألف يتقدم نحوه بخطوات مترددة، نظراته تحمل خليطًا من القلق والذهول.
"أيها الشاب... ما الذي تنوي فعله؟!" قال الشيخ، صوته مليء بالحيرة. "أتعلم من تواجه؟ إنه أحد قادة ملكة الجليد، ليس مجرد وحش عادي! هل ستقف حقًا في وجهه؟"
استدار هيونغ ببطء، نظراته لم تتغير، باردة كالموت نفسه. ابتسم بسخرية وقال:
"سوف أنظر إن كانوا حقًا أقوياء كما يزعمون."
حدّق الشيخ في عينيه للحظات، وكأنه يحاول فهم هذا الشاب الغامض. ثم تنهد وقال: "أنت... لا تخشى الموت، أليس كذلك؟"
ضحك هيونغ بصوت خافت، ثم نظر إليه نظرة حادة وقال:
"وأنت، أيها العجوز، هل يمكنك الابتعاد من هنا؟ هذه ليست معركتك."
شعر الشيخ بقشعريرة تسري في جسده، لكنه أومأ على مضض وتراجع إلى الخلف. لم يكن لديه خيار آخر، فقد أدرك أن هذا الرجل ليس شخصًا يمكن إيقافه بالكلمات.
رفع هيونغ يده وأشار ببطء إلى الوحوش المنتشرة في أرجاء القرية، بينما أعطى أمرًا واضحًا لجيش الظلال:
"اقتلوا كل وحش، لكن لا تؤذوا أحدًا من الألف."
وفي لحظة واحدة، تحركت الظلال كما لو كانت أمواجًا من الظلام، تنقض على الوحوش بسرعة مذهلة. أصوات الصرخات والتمزقات ملأت المكان، بينما بدأ جيش الظلال بتنفيذ أوامر سيده بدقة مرعبة.
هيونغ لم ينظر حتى إلى ما يحدث خلفه، بل ركز بصره على قائد الوحوش، الذي بدأ أخيرًا يدرك أن هذه المواجهة لن تكون كما توقعها. ارتفع القمر في السماء، يراقب بصمته الباردة المجزرة التي تجري تحته. في ساحة المعركة، حيث امتزجت الأرض بالطين والدماء، كان الصراع قد بلغ ذروته. الظلال التي استدعاها هيونغ لم تكن مجرد كائنات طيفية، بل تجسدات للرعب نفسه. خرجت من العدم، تسللت بين جموع الوحوش، مزقت، خنقت، قطعت، وأغرقت العالم في صرخات يائسة.
كلما حاولت الوحوش المقاومة، كانت الظلال تتكاثر كالأشباح، تخرج من ظلال أجسادهم نفسها، تحيط بهم، تحفر أنيابها السوداء في لحومهم، وتلتهم صرخاتهم قبل أن تصل إلى الآذان. كان المشهد أقرب إلى جحيم مفتوح، حيث لا مفرّ ولا خلاص.
وعلى ارتفاع شاهق فوق الفوضى، وقف هيونغ.
على غصن ضخم لشجرة قديمة، جسده مسترخٍ، وكأنه مراقب غير معنيّ بما يحدث. يده اليسرى تستند إلى خده، وعيناه الباردتان تمسحان المعركة بنظرة لا مبالية. أما يده الأخرى، فكانت تمسك بمنجل أسود قاتم، لا يعكس ضوء القمر وكأنه يبتلع كل ضوء يقترب منه.
تحت قدميه، وقف قائد الوحوش، جسده مثقل بالجروح، وأنفاسه تتسارع وهو يشاهد رجاله يُسحقون واحدًا تلو الآخر. زمجر، لكن صوته بدا متردّدًا، خوفًا لم يستطع إخفاءه تسلل إلى كلماته:
"ماذا... ماذا تكون أنت بحق الجحيم؟! أي بشري هذا الذي يقود جيشًا من الأشباح؟!"
ضحك هيونغ، صوت هادئ لكن يحمل شيئًا قاتلًا، شيئًا جعل الرياح نفسها تهدأ. أدار المنجل ببطء في يده، ثم أشار به إلى القائد مباشرة.
"أنا؟ مجرد شخص يسلي نفسه بتمزيق كل من يقف في طريقه."
تحرك الظلام من حوله، وكأن العالم كله انحنى لكلماته، صرخات الوحوش كانت تتلاشى، وكأن الموت ذاته أدار رأسه لينظر إلى هذا الرجل الواقف فوق الشجرة.
"اختر كيف تريد أن تموت..." قالها بصوت بارد كالجليد. "هل تفضل أن يُفصل رأسك عن جسدك؟ أم أن تُقطع إلى أشلاء لا يمكن التعرف عليها؟"
تجمد الهواء. القائد شعر لأول مرة في حياته بالخوف الحقيقي، ليس من الموت، بل من هذا الإنسان الذي بدا كأنه شيء آخر تمامًا. وسط الساحة الملطخة بالدماء، نزل هيونغ من فوق الغصن بخفة وكأن وزنه مجرد ظل، رغم أن الهالة التي أحاطت به كانت ثقيلة كجبل يرزح فوق أنفاس كل من تبقى على قيد الحياة. تناثرت أشلاء الوحوش حوله، بينما كانت الظلال التي استُدعيت بأمره تزحف على الأرض، تعيد تشكيل نفسها بعد أن مزقت آخر أفراد جيش ملكة الجليد.
وقف هناك، يرفع رأسه قليلاً، تنفس الهواء المشبع برائحة الدم والموت، ثم أدار عينيه الباردتين نحو القائد الراكع أمامه. سلاسل الظلام كانت تحيط بجسده كأنياب وحش جائع، غرست في لحم القائد، مزقت بعضًا منه، لكنه لم يصرخ، بل كان يحاول التماسك أمام هيبة الرجل الواقف أمامه.
رغم سقوط جيشه، رغم الخراب الذي حل بهم، إلا أن كبرياءه ما زال يحاول المقاومة. رفع رأسه بصعوبة، وعيناه تشتعلان بالغضب والكراهية.
"أنتَ... أيها البشري الوضيع..."
بصوت مشروخ، حاول التحدث لكنه توقف ليلتقط أنفاسه المقطوعة.
"هل تدرك من هي ملكة الجليد؟! كيف تجرؤ على المساس بجيشها؟! هل تعتقد حقًا أنك قادر على مواجهتها؟!"
تردد صدى كلماته في المكان، لكن بدلاً من أن يتلقى ردًا غاضبًا أو حتى تهديدًا، ما تلقاه كان... ضحكة.
ضحك هيونغ.
ضحكة خافتة في البداية، ثم تصاعدت تدريجيًا، لم تكن صاخبة، لكنها حملت معها شيئًا أكثر رعبًا من أي صراخ. كانت مليئة بالسخرية، وكأن كلام القائد كان مجرد مزحة تافهة.
رفع هيونغ يده ببطء، مرر أصابعه عبر مقبض منجله الذي كان مستريحًا على كتفه، ثم نظر إلى القائد بنظرة ازدراء باردة.
"ما زلت تتحدث بدون إذن؟ كلب وقح."
انحنى قليلًا، اقترب من وجه القائد المنكسر حتى لم يعد هناك سوى أنفاس تفصلهما، ثم همس بصوت أشبه برياح الشتاء القاتلة:
"يبدو أنك نسيت مكانك."
في تلك اللحظة، تحرك المنجل.
لم يكن هناك وميض، لم يكن هناك تحذير، فقط صوت حاد كتمزق الهواء نفسه، تلاه صوت شيء ثقيل يسقط على الأرض.
تدحرج رأس القائد على الجليد.
توقف الزمن للحظات، الجميع تجمدوا، حتى الوحوش الجريحة التي نجت بالكاد من سكاكين الظلال، حتى الألف الذين كانوا يراقبون بعيون مليئة بالرهبة، كل شيء أصبح صامتًا... سوى صوت الدم الذي يقطر على الثلج.
هيونغ، بلا أي تغيير في تعابيره، انحنى قليلًا والتقط الرأس بقبضته القوية، رفعه عاليًا، ثم استدار ببطء نحو القائد الثاني، الذي كان حتى تلك اللحظة يراقب المشهد وعيناه متسعتان بصدمة لم يستطع حتى إخفاءها.
لم يكن هذا فقط رعبًا من الموت، بل رعب من شيء لم يستطع استيعابه تمامًا.
"خذ هذا."
قالها هيونغ بصوت هادئ، لكنه حمل ثقلاً كالصخور.
ورمى الرأس نحو القائد الثاني، الذي التقطه بيد مرتعشة، نظر إليه وكأنه يحمل لعنة، عيون قائده القتيل كانت لا تزال مفتوحة، جاحظة وكأنها لم تصدق ما حدث.
"هذه هدية الترحيب لملكتك."
أضاف هيونغ وهو يضع منجله على كتفه مجددًا، ثم مال برأسه قليلًا ونظر للقائد الثاني بنظرة باردة جعلت الهواء نفسه يبرد أكثر مما كان عليه.
"أوصلها إليها، وأخبرها أنني قادم."
لم يكن هناك حاجة للمزيد، القائد الثاني، رغم كل شيء، لم يكن غبيًا، كان يعلم أنه إن بقي لحظة أخرى، فسيكون التالي. استدار على الفور، ركض بأقصى سرعته، لم يكن ينظر إلى الوراء، لم يكن يجرؤ.
أما هيونغ، فقد مسح طرف منجله الملطخ بالدماء بقطعة قماش، استدار نحو الجثث المكدسة، ثم نحو الألف الذين كانوا يحدقون فيه بخوف وصمت.
لم يقل شيئًا، لم يكن بحاجة إلى ذلك.
رفع رأسه قليلًا، نظر إلى السماء الرمادية الباردة، ثم تنفس ببطء، كأن هذه لم تكن سوى بداية فصل جديد من المتعة القادمة. الهواء كان ثقيلاً، مشبعًا برائحة الدم والصقيع، بينما وقف هيونغ وسط الساحة التي كانت قبل لحظات ميدانًا للذبح. كان كل شيء حوله ساكنًا، كأن العالم نفسه قد توقف ليشهد هيبته المطلقة. الجثث متناثرة، والدماء ترسم خطوطًا سوداء على الجليد المتصدع، بينما الظلال التي استدعاها اختفت كما جاءت، كأنها لم تكن سوى كابوس مرعب انتهى فجأة.
وسط هذا الصمت، كان الألف يراقبون، أنفاسهم متقطعة، أعينهم معلقة بذلك الرجل الذي بدا وكأنه ليس بشريًا، بل تجسيدًا للدمار ذاته. فوق وجهه لم تكن هناك أي مشاعر، لا غضب، لا شفقة، فقط هدوء قاتل… هدوء مفترس يسبق الضربة الأخيرة.
رفع منجله ببطء، انزلق الدم المتجمد عن حدّه الحاد، وعيناه الداكنتان ثبتتا على الشيخ الذي لم يكن قادرًا على إخفاء ارتجافه. كان يعلم أن ملكة الجليد لن تترك هذا الفعل يمرّ دون ردّ، وكان يعلم أيضًا أن القرية لن تصمد أمام انتقامها.
لكن هيونغ؟
كان مجرد واقفًا هناك، ينظر إلى المذبحة كأنها لم تكن سوى مشهد مسلٍّ. ثم رفع رأسه، نظر إلى الأفق حيث هرب القائد الثاني حاملاً رأس رفيقه، وابتسامة هادئة تشكّلت على زاوية شفتيه.
"انتظار؟" قال بصوت هادئ، لكنه حمل داخله شيئًا أشبه بصوت العاصفة قبل أن تضرب الأرض. التفت نحو الشيخ، خطواته كانت بطيئة لكن كل واحدة منها حملت وزنًا لا يُقارن، كأن الأرض نفسها تنحني تحت وطأته.
توقف أمامه، وأمال رأسه قليلاً، كأنه يسخر من خوفه المكشوف. "أو ربما..." رفع منجله قليلًا، وأكمل بصوت مغمور بالتهديد واليقين القاتل: "يجب أن أذهب لزيارتها في قصرها، لأرى إن كانت هديتي قد أعجبتها؟"
كان الشيخ على وشك أن يرد، لكن فجأة، رفع هيونغ يده وأمر بعودة ظلاله. في لحظة، اختفت الكيانات المظلمة، وكأنها لم تكن سوى أوهام، تاركة خلفها ساحة معركة صامتة، مغطاة بجثث الوحوش.
وبلا تردد، استدار هيونغ ببطء نحو أحد الألف، شابًا كان يقف مرتجفًا، وجهه شاحب كالأموات. تقدم نحوه، صوته كان مثل الوعد بالموت ذاته:
"من أين الطريق إلى قصر ملكة الجليد؟"
تسارعت أنفاس الشاب، وكأن الهواء قد أصبح ثقيلاً في رئتيه. لم يستطع حتى التراجع، كان الشعور الذي يحيط به هيونغ كفيلًا بشلّ أي إرادة للهروب.
لكن الجميع فهم شيئًا واحدًا…
العاصفة لن تأتي إلى هيونغ. بل هو من سيذهب ليشعلها بنفسه.
كان الصمت يلفّ المكان، لم يكن هناك سوى صوت خطوات بطيئة تخترق الثلج المتراكم على الأرض. كان هيونغ يسير عبر الغابة، منجله يستريح على كتفه، يتأرجح مع كل خطوة بثقل مخيف، وكأن الدماء التي شربها لا تزال تحكي قصص أصحابها.
رفع رأسه قليلًا، عينيه تلمعان بوهج بارد، وابتسامة خافتة شُكّلت على شفتيه بينما تمتم لنفسه بصوت بالكاد يُسمع:
"تُرى… هل أعجبتها هديتي؟"
ضحك بخفّة، لم يكن ضحكًا صاخبًا، بل كان أشبه بصوت الرياح التي تمرّ بين الأشجار، خفيفًا لكنه يحمل في طياته تهديدًا ضمنيًا. لم يكن يسأل نفسه بجدية، بل كان يسخر من الفكرة نفسها. ملكة الجليد… كيف ستتفاعل مع رأس أحد قادتها مرسلاً إليها بهذه الطريقة؟ هل ستشعر بالغضب؟ بالرهبة؟ أم أنها ستكون ممتنة لحصولها على سبب لقتاله؟
بينما كان يغوص أكثر في أفكاره، كانت أنظاره تتنقل بين ظلال الأشجار التي أحاطت به، كأنها جدران صامتة تراقب اقترابه. الهواء أصبح أكثر برودة، وكأن المكان بأسره بدأ يشعر بقدومه، يحاول أن يمنعه أو ربما… يُحذّره؟
لكن هيونغ لم يكن ممن يأبهون للتحذيرات.
في المقابل، كانت قرية الألف لا تزال تحت وقع الصدمة، خاصة شيخهم الذي ظلّ يحدّق في الاتجاه الذي رحل منه ذلك الرجل. عيناه المرتعشتان لم تستطع إخفاء الذهول الذي ملأه، كان قد عاش قرونًا طويلة، ورأى محاربين لا حصر لهم، لكن ما رآه اليوم… شيء لم يكن طبيعيًا.
"هذا الجنون… لا، هذا أبعد من الجنون…" تمتم الشيخ بصوت مبحوح، بينما نظر بقية الألف إليه متسائلين. أحدهم اقترب منه وسأله: "ماذا سنفعل الآن؟"
لكن الشيخ لم يملك إجابة.
لأول مرة في حياته الطويلة، لم يكن يعلم أيّ شيء عن المستقبل.
الوحيدة التي قد تعرف… هي ملكة الجليد نفسها.
لكن السؤال الحقيقي لم يكن كيف ستردّ، بل هل ستصمد أمام ما هو قادم؟