عاد هيونغ عبر السهول البيضاء التي كانت ذات يوم جزءًا من مملكة ملكة الجليد. كانت آثار الدمار تحيط به، والجليد الملطخ بالدماء يروي قصة الانتصار المرير. كل خطوة كان يخوضها وسط الرياح القطبية لم تكن تعبّر فقط عن رحلة جسدية، بل عن انتصار ساحق خطّته يديه.

حين اقترب من الحدود الفاصلة بين أرض الجليد والغابات القديمة، بدأت حرارة خفيفة تخترق الصقيع. على مدى الأفق، ارتفعت الشجرة العملاقة، معلم الألف المقدس، شامخة بين الضباب. كانت جذوعها تتشابك مع السماء كأنها أذرع آلهة نائمة، وأوراقها الفضية تلمع تحت نور القمر.

لم يكن دخوله إلى المستوطنة عادياً. الألف، بأجسادهم النحيلة وأعينهم المتوهجة، كانوا ينتظرونه عند المدخل الحجري المنحوت في جذع الشجرة. همسوا فيما بينهم، مزيج من الخوف والانبهار، فمنذ خروجه لم يكن أحد يعتقد أنه سيعود، ناهيك عن أن يعود بعد أن محا مملكة كاملة. كانت قاعة الشجرة العظمى تعج بالأنفاس المحبوسة، سقفها الممتد إلى السماء يعكس الضوء المتراقص المنبعث من الفوانيس الكهرمانية. الجدران العريقة، المنحوتة بأنماط قديمة تحمل أسرار الألف، بدت وكأنها تراقب اللحظة بترقب. وفي قلب هذا الصرح المقدس، شيوخ القبيلة جلسوا متراصّين، محاطين بهالة الحكمة التي لم تزل مشوبة بالخوف هذه الليلة.

ثم خطا هيونغ إلى الداخل.

هدأت الأصوات تمامًا، وكأن الهواء نفسه توقف عن الحركة. كان ظهوره أشبه بمجيء إعصار صامت، قوة خفية تتغلغل في المكان دون حاجة للكلمات. قامته المنتصبة، كتفيه العريضين، عينيه السوداوين اللتين لا تعكسان أي أثر للإنسانية المعتادة… كان كيانًا تجاوز حدود البشر، روحًا عبرت بوابات الموت والدمار وعادت دون أن تنكسر.

تقدم ببطء، خطواته الثقيلة تقطع الصمت بثقل رهيب. وعندما بلغ وسط القاعة، وقف بلا تردد، ثم رفع يده وألقى بقطعة قماش سوداء دامية على الأرض المقدسة.

ارتطم الرأس بشدة، ليتدحرج قليلاً قبل أن يستقر أمام مجلس الشيوخ.

رأس ملكة الجليد.

خصلات شعرها الفضي المضيء امتزجت ببقع من الدماء الداكنة، وعيناها الزرقاوان الشاحبتان تحدّقان في الفراغ، خاليتان من الحياة التي كانت تنضح بها يومًا. شفتيها اللتين اعتادتا التفوّه بلعنات باردة، صارتا مجرد بقايا لجثة صامتة.

ساد الصمت المطلق.

لم يتحرك أحد. حتى أقدم الحكماء الذين عاصروا العصور لم يجرؤوا على كسر الرهبة التي غلّفت اللحظة. بعضهم ابتلع ريقه بصعوبة، والبعض الآخر لم يستطع حتى تحريك أصابعه المتشابكة فوق ركبتيه.

كان هيونغ صامتًا، لكنه لم يكن بحاجة للكلام. كان كيانُه وحده كافيًا لزرع الرهبة في القلوب. لكنّ إلثيريون، شيخ الألف الأكبر، كان الوحيد الذي لم يشيح بنظره عن المشهد. جلس هناك، متكئًا على عصاه المنحوتة من خشب الشجرة المقدسة، وحدق في هيونغ طويلًا قبل أن يتحدث بصوت هادئ لكنه مشحون بالثقل:

"إذًا… فعلتها."

لم يرمش هيونغ، لم يظهر عليه أثر للفخر أو الراحة، بل ظلّ وجهه منحوتًا كصخرة صلبة، باردة، قاسية.

"انتهت." قال بصوت منخفض، لكنه حاد كسيف يمر على العنق.

أحد الشيوخ تمتم، بالكاد يجد صوته وسط الاضطراب الذي اجتاح وجدانه: "لكن… كيف؟ كيف استطعت القضاء عليها وأنت وحدك؟"

تحرك إلثيريون، عينيه مثبتتين على هيونغ وهو يسأل بصوت ثابت، لكنه لم يخلُ من الحذر: "ملكة الجليد لم تكن مجرد ساحرة… بل قوة خالدة. فكيف يسقط الخالد؟"

هنا، ارتفع طرف شفتي هيونغ بابتسامة خافتة، لكنّها كانت باردة، بعيدة عن أي شعور بشري. لم يكن هذا تعبير انتصار، بل كان أقرب لذكرى مريرة لا يستطيع محوها.

"لم أسقط جسدها فقط." قال بصوت قاتم، وواصل بعد لحظة صمت زادت من وطأة كلماته: "بل أزلت جوهرها، دمرت قلبها الحقيقي، حيث كان نابضًا تحت الجليد الأبدي، بعيدًا عن جسدها الذي لم يكن سوى غطاء مؤقت."

تجمدت أنفاس البعض، بينما ضاقت عينا إلثيريون. "القلب الحقيقي؟"

أومأ هيونغ ببطء، ثم أضاف: "هي لم تكن حيةً كما اعتقدتم… كانت مجرد لعنة متجسدة. قلبها، مصدر طاقتها، كان مختبئًا بعيدًا في أعماق قصرها الجليدي، ينبض داخل بلورة أبدية. عندما مزقته… لم تمت على الفور. قاومت، نهضت رغم أن جسدها كان يتآكل… لكنني لم أترك لها فرصة. ألقيت رماد قلبها في النار السوداء، حيث لا تعود الأرواح."

هنا، ارتجف أحد الشيوخ، وكأن بردًا اجتاح جسده. كان ما وصفه هيونغ إبادة مطلقة، طمسًا لكيان لم يكن من المفترض أن يختفي من الوجود.

قال إلثيريون ببطء، وعيناه الثاقبتان لم تفارقا هيونغ: "لقد عبرت خطًا لا يمكن الرجوع منه، يا هيونغ. لم تعد مجرد قاتل… بل أصبحت شيئًا آخر. شيئًا قد يخشاه الجميع."

لم يقل هيونغ شيئًا. لم ينكر، لم يعترض، ولم يحاول حتى الدفاع عن نفسه. وقف هناك، كما لو كان جزءًا من الظلام الذي بدأ يتسلل إلى القاعة، كأنه ظلّ محارب تخلى عن كونه بشرًا.

وحين نظر الجميع إلى رأس ملكة الجليد الملقى أمامهم، لم يروا مجرد رمز للنصر. بل أدركوا أن الشخص الواقف أمامهم… لم يعد رجلاً عاديًا بعد الآن. كانت القاعة لا تزال مغمورة بصمت ثقيل، لكن هذه المرة لم يكن الصمت ناشئًا عن الرهبة فقط، بل عن الذكريات التي أعادتها كلمات هيونغ إلى الأذهان. جلس إلثيريون، شيخ الألف الأكبر، في مكانه العالي، بينما ألقى بنظراته نحو الرأس المقطوع الذي ما زال يقطر بقايا من الدم البارد.

ثم رفع بصره إلى هيونغ، ذلك الرجل الذي جلب لهم ما لم يتمكنوا من تحقيقه منذ قرون.

"إن كنت تعتقد أنك أزلت مجرد ساحرة، فأنت مخطئ،" قال بصوت منخفض لكنه مشحون بالثقل، "لقد انتزعت كابوسًا من لحم ودم، أزلت ظلًّا جثم على صدورنا لعصور."

لم يرد هيونغ، بل اكتفى بالتحديق فيه بصمته المعتاد، ذلك الصمت الذي بدا وكأنه يزن كل كلمة يسمعها.

إلثيريون تنهد، ثم تابع، وعيناه تحملان ثقل الحكاية التي لم يكن يريد استرجاعها:

"لم نكن دومًا أمة مسحوقة. كنا في أوج ازدهارنا عندما جاءت… عندما ولدت ملكة الجليد."**

حركة خفيفة بين الشيوخ دلت على التوتر. بعضهم خفض بصره كما لو أن الكلمات تجرح ذاكرته.

"لم تأتِ من العدم،" واصل إلثيريون، "بل ولدت من رحم الحرب نفسها. كانت مجرد طفلة حينها، واحدة منا… لكنها لم تكن كالبقية. شيء في دمها كان مختلفًا، وكأنها لم تكن ابنة هذا العالم."

نظر هيونغ نظرة حادة، لكنه لم يقاطع.

"حين بلغت، كانت موهوبة، قوية، طموحها لم يكن له حد. لكنها أرادت أكثر… أرادت القوة المطلقة. سافرت إلى الشمال، حيث وجدناها بعد سنوات وقد تغيرت تمامًا. كانت عائدة ككيان آخر، مخلوق لا يعرف الرحمة. لم تكن مجرد ساحرة، بل تجسيدًا للجليد ذاته، شيطانًا في جسد امرأة."

كان صوت إلثيريون مثقلًا بالغضب المكتوم، كأنه لا يزال يسمع صدى الماضي يتردد في أذنيه.

"وفي الليلة التي عادت فيها… نزل الجليد الأسود لأول مرة."

تجمدت الأجواء أكثر، وكأن القاعة نفسها استجابت لذكرى تلك الليلة.

"جاءت على ظهر عاصفة، ومعها كائنات لم نرَ مثلها من قبل، وحوشٌ من الجليد، أرواح متجمدة لا تموت. لم تهاجمنا فورًا، بل أظهرت لنا قوتها أولًا. حولت أراضينا الخصبة إلى صحراء بيضاء، جمدت ينابيعنا المقدسة، جعلت السماء تمطر رمادًا بدلًا من الماء."

صمت قليلًا، وكأنه كان يسمع صرخات الماضي تتردد بين جدران القاعة.

"ثم بدأت الحرب."

أغمض أحد الشيوخ عينيه، بينما ازداد التوتر في القاعة.

"ظننا أننا قادرون على مقاومتها… لكننا لم نكن مستعدين لما واجهناه. جيوشنا ذابت أمامها كما يذوب الجليد في وهج الشمس. لم يكن سلاحنا قادرًا على لمسها، ولم يكن سحرنا سوى نكتة أمام جبروتها. كل من وقف ضدها، تحول إلى تمثال جليدي، بعضهم تحطم، وبعضهم لا يزال واقفًا في سهول الشمال، صامتًا، محبوسًا في ذلك الجحيم الأبدي."

التفت إلثيريون إلى هيونغ، عينيه مليئتان بشيء بين الألم والغضب.

"لم تكن حربًا، بل كانت مذبحة. وخلال أيام، خسرنا أرضنا المقدسة، شجرتنا الأم كادت تموت، وشعبنا تم نفيه، مشتتين مثل رماد الرياح."

توقف قليلًا، ثم أضاف بصوت خافت لكنه قاتم:

"وكل هذا… من أجل ماذا؟"

ارتفع صوته فجأة، كأنه ينفجر بغضب سنوات طويلة:

"من أجل أن تبني قصرها الجليدي على عظام أجدادنا؟ من أجل أن تجلس على عرشٍ من الجليد فوق أنقاض مدينتنا؟!"

ضرب بعصاه الأرض، فتردد الصدى في القاعة.

"لقد مزقتنا، جرّدتنا من تاريخنا، جعلتنا شعبًا لاجئًا في ظلال الأشجار، نخشى حتى النظر إلى الشمال!"

ثم نظر إلى هيونغ مباشرة، كأنه يريد قراءة روحه:

"ثم أتيت أنت… وقطفت رأسها كما لو كانت مجرد فريسة."

ساد الصمت للحظة، ثم قال بصوت منخفض لكنه ثقيل بالحيرة:

"كيف؟"

أجاب هيونغ، بصوته البارد الخالي من أي شعور:

"لأنني لم أحمل عبء الماضي مثلكم."

التوتر تصاعد، بعض الشيوخ حدقوا فيه بدهشة، لكن هيونغ واصل، نبرته ثابتة كحد السيف:

"أنتم خسرتم لأنكم قاتلتمها على أنها ملكة، على أنها لعنة يجب دفعها إلى الوراء. لكنني لم أراها كملكة، لم أراها كوحش. رأيتها كهدف، كشيء يجب أن يزول. لم أكن مكبلًا بالذكريات، لم أخف منها كما خفتم. ولهذا السبب… سقطت أمامي."

كان حديثه باردًا، كأنه لم يكن عن حرب، بل عن شيء عادي، شيء لم يكن يستحق الانفعال.

إلثيريون صمت، يحدق في هيونغ، ثم قال بهدوء عميق:

"إذن أنت لم تحاربها كعدو… بل كصياد."

أومأ هيونغ. "تمامًا."

هنا، استلقى إلثيريون على مقعده، يحدق في السقف العتيق. ثم بعد لحظة طويلة، تنهد قائلاً:

"ربما… كان هذا هو الخطأ الذي وقعنا فيه." ساد صمت مميت في القاعة، كأن الزمن نفسه توقف. الهواء كان ثقيلاً، وكأن المكان امتلأ بجليد غير مرئي، جليد لم يكن مصدره الشتاء، بل كيانًا آخر… كيانًا لا ينتمي لهذا العالم بعد الآن.

كانت هناك.

وسط القاعة، حيث لا ينبغي لأي كائن أن يكون، وقفت فريا. لكنها لم تكن تلك المرأة المتعجرفة التي حكمت الشمال بقبضة من جليد. لم تكن سوى ظل، شبحًا تشكّل من بقايا وجودها، من غضبها، من اللعنة التي تركتها وراءها.

كان جسدها شفافًا، وكأنه مزيج بين الدخان والجليد، عيناها متوهجتان بضوء أزرق باهت، وهالتها باردة لدرجة جعلت الجدران العتيقة للقصر تتغطى بطبقة رقيقة من الصقيع. الهواء نفسه أصبح خانقًا، كأن كل أنفاس الموجودين تجمدت في حناجرهم.

ارتجفت أيدي بعض الشيوخ. آخرون لم يجرؤوا على رفع أنظارهم نحوها.

حتى المحاربون الذين واجهوا الحروب لم يستطيعوا كبح الرجفة التي سرت في أجسادهم، فهذه لم تكن مجرد طيف… بل بقايا غضب ملكة لم تعرف الهزيمة إلا بعد فوات الأوان.

لكن وسط هذا الرعب، لم يكن هناك سوى شخص واحد ظل ثابتًا، غير مبالٍ بوجودها… بل متحكمًا به.

هيونغ.

وقف أمامها، عيناه السوداوان تحدقان في طيفها كأنها لا تعني شيئًا أكثر من ظل عابر. لم يرتجف، لم يبدُ عليه حتى أدنى علامة من القلق أو التوتر.

رفع يده ببطء، ثم أشار بإصبعه نحو الباب الكبير للقاعة.

"اخرجي من هذه الأرض."

صوته لم يكن مرتفعًا، لكنه كان يحمل قوة لا تقبل الجدل. كان أشبه بأمر حتمي، قانونًا جديدًا يُفرض على هذا الظل الهائم.

فريا لم تتحرك.

لكن الهواء أصبح أكثر برودة، والجدران أصدرت طقطقة خفيفة، وكأن القصر نفسه يتفاعل مع غضبها الصامت. في زوايا القاعة، بدأ الضباب الجليدي يزحف ببطء، يلتف حول الأعمدة الحجرية ويرتفع مثل أشباح حاقدة.

أحد الشيوخ همس، صوته بالكاد يُسمع: "إنها… ترفض."

لم يكن هيونغ بحاجة إلى من يخبره بذلك.

خفض إصبعه، ثم تقدم خطوة واحدة.

مجرد خطوة… لكنها زلزلت القاعة بأكملها.

اهتزت الأرض تحت قدميه، وانتشرت تموجات خفية، كما لو أن روحه نفسها كانت تبث موجات من القوة المطلقة. الصقيع الذي غطى الجدران بدأ يتراجع، والضباب الجليدي انحسر وكأنه يخشى الاقتراب منه.

ثم قال، بصوت أكثر برودًا من الجليد نفسه:

"اركعي."

هذه المرة، لم يكن طلبًا.

كان أمراً.

جميع من في القاعة تسمروا في أماكنهم، أنفاسهم محبوسة. لم يجرؤ أحد من الألف على مجرد تخيل هذا المشهد… ملكة الجليد، حتى في ظلها، حتى بعد موتها، تُؤمر بالركوع؟

لكن المستحيل حدث.

جسد فريا بدأ يهتز.

رُكبتاها ارتجفتا، وكأن قوةً غير مرئية تجبرها على السقوط. شفاهها انفتحت، وكأنها تريد الصراخ، لكن لم يصدر منها أي صوت. الهالة الباردة التي أحاطت بها بدأت تنهار ببطء، تتكسر كما يتكسر الجليد تحت وطأة جبل.

ثم، أمام الجميع… سقطت على ركبتيها.

عيناها كانتا مشتعلة بالغضب، شفتيها ارتجفتا في محاولة أخيرة للمقاومة، لكن لم يكن هناك جدوى. قوة هيونغ لم تكن شيئًا تستطيع كسرها، حتى وهي في هيئة ظل، حتى وهي مجرد بقايا من لعناتها.

وقف هيونغ أمامها، يحدق بها من الأعلى، بلا شفقة، بلا رحمة.

"أنتِ مجرد ظل، فريا. مجرد بقايا."

كلماته اخترقت كيانها كما يخترق السيف الجليد الهش.

ثم انحنى قليلًا نحوها، وهمس بصوت بالكاد سُمع:

"حتى في الموت، لا تملكين القوة لرفع رأسك أمامي."

ظل الملكة ارتجف… ثم بدأ يتلاشى.

لم تصرخ، لم تتوسل. فقط اختفت كما يختفي الجليد تحت شمسٍ لا ترحم.

عندما انتهى الأمر، عندما زال أثرها تمامًا، لم يجرؤ أحد في القاعة على التحدث.

لكن الجميع، في أعماق قلوبهم، أدركوا شيئًا واحدًا:

هيونغ لم يهزم ملكة الجليد فقط. لقد كسر إرادتها حتى بعد موتها. بعد أن تلاشى ظل فريا بالكامل، خيّم صمت ثقيل على القاعة. لم يكن الصمت المعتاد الذي يلي المحادثات، بل كان صمتًا يحمل ثقل قرون من العذاب الذي انتهى أخيرًا. الجميع ما زالوا مذهولين مما حدث، وعجزوا عن استيعاب القوة التي تجسدت أمامهم.

كان هيونغ واقفًا بثبات، كأن ما فعله لم يكن سوى أمر تافه لا يستحق الذكر. لم تظهر عليه أي علامات التعب، كأن إرغام ظل ملكة الجليد على الركوع كان مجرد فعل اعتيادي بالنسبة له.

حينها، تحرك شيخ الألف الأكبر، رجل متقدم في السن، حكمته منقوشة في ملامحه، وعيناه العتيقتان تحملان وزن العصور التي عاصرها. كان يجلس على عرش من خشب الشجرة العريقة، رمزًا لقوة قبيلته واستمراريتها، لكنه نهض الآن، وقلبه مثقل بالامتنان الذي لم يستطع أن يضعه في كلمات.

"هيونغ، يا من أسقطت الطغيان الذي جثم على صدورنا لأجيال، لا أجد كلمات تعبر عن شكرنا."

كان صوته هادئًا، لكنه حمل صدى التأثر الذي شعر به الجميع.

رفع يده ببطء، وأشار نحو الجدران التي تآكلها الزمن، نحو الأرض التي طالما شهدت حروبهم ضد فريا، ونحو السقف العتيق الذي صمد أمام العواصف والثلوج والجحيم الجليدي.

"منذ أن جاءت فريا إلى أراضينا، لم نعرف سوى الحرب والخوف. قرانا أُحرقت، محاربونا قُتلوا، وأطفالنا لم يعرفوا دفء الشمس إلا كحلم بعيد. ملكة الجليد لم تكن مجرد عدو، بل لعنة نزلت علينا."

توقف للحظة، وكأنه يستعيد ذكرى قديمة، ذكرى الدم والثلوج والظلام الذي أحاط بهم لأجيال. ثم نظر مباشرة إلى هيونغ، ناظريه مليئين بالامتنان والذهول في آنٍ واحد.

"ولكنك، وحدك، وضعت حدًا لهذا الكابوس."

هيونغ لم يُظهر أي تعبير. فقط حدّق في الشيخ بصمت، كأنه لم يهتم بهذا الثناء.

لكن الشيخ الأكبر لم يتوقف.

"قل لي، ما الذي يمكننا أن نقدمه لك؟ لا يوجد شيء يوازي ما فعلته لنا، ولكن شرف قبيلتنا لا يسمح لنا بأن نأخذ دون أن نرد الجميل. قل ما تريد، وسيكون لك."

عند هذه الكلمات، التفت كل الحاضرين نحو هيونغ، أنظارهم مليئة بالخوف والفضول. هذا الرجل، الذي تحدى ملكة الجليد وأسقطها، ماذا يمكن أن يرغب به؟ هل سيريد ثروتهم؟ أرضهم؟ أم أنه سيطلب شيئًا أغرب، شيئًا لا يمكنهم حتى تصوره؟

لكن هيونغ، كالعادة، لم يكن كغيره من الرجال.

رفع عينيه ببطء، وقابل نظرات الشيخ الأكبر ببرود لا يتزعزع. ثم قال بصوت منخفض، لكنه اخترق صمت القاعة كالسيف:

"لست بحاجة إلى شيء منكم."

صُدمت القاعة. حتى الشيخ الأكبر بدا متفاجئًا للحظة، لكنه استعاد هدوءه بسرعة.

"لا شيء؟ بعد كل ما فعلته، لا تطلب شيئًا؟"

أجاب هيونغ، بنفس الهدوء القاتل:

"لم أفعل هذا لأجلكم."

كلماته كانت صاعقة، لكنها كانت صادقة. لم يكن يسعى وراء المجد، ولا وراء الذهب، ولا حتى الامتنان. كان يسير وفق إرادته الخاصة، طريقه لم يكن طريق الأبطال، بل طريق شخص لا يرى أي شيء يستحق العناء سوى الهدف الذي وضعه لنفسه.

الشيخ الأكبر حدّق فيه طويلًا، ثم ابتسم، ولكنها لم تكن ابتسامة فرح، بل ابتسامة رجل أدرك أنه يقف أمام قوة أكبر مما تخيله.

"إذن، هذا هو قدرك… رجل لا يطلب شيئًا، لكنه يأخذ كل شيء."

لم يرد هيونغ. فقط استدار، متوجهًا نحو باب القاعة العملاق.

لكن قبل أن يخرج، قال الشيخ بصوت هادئ، يكاد يكون همسًا:

"رغم ذلك، ستظل قبيلتنا تدين لك، سواء قبلت ذلك أم لا. وإذا احتجت إلينا يومًا، ستجدنا بجانبك."

لم يلتفت هيونغ. فقط تابع طريقه، تاركًا وراءه قاعة مليئة بالذهول، والخوف… والاحترام الذي لا يمكن أن يُكسب بالقوة وحدها، بل بالهيبة المطلقة. جلس هيونغ فوق غصن الشجرة العملاقة، ساقاه تتدليان في الفراغ، بينما كان القمر الأزرق الهائل يعلو السماء، كعين إله يراقب هذا العالم بصمت. تحت قدميه، امتدت الغابة الهائلة للطابق الثاني، أشجارها العملاقة تنتصب كأعمدة تدعم السماء، وأوراقها تتمايل كأنها أرواح هامسة في الظلام. كان المكان ساكنًا، لكنه لم يكن خاليًا من الحياة.

[تنغ!]

ظهرت شاشة سوداء أمامه، حروفها الفضية تتوهج في الليل.

[تهانينا على إكمال الطابق الثاني.]

نظر إليها بصمت، لم يرف له جفن. لم يكن هذا سوى انتصار آخر في سلسلة طويلة من المعارك، لكنه لم يكن النهاية. كان الطريق أمامه أطول وأقسى.

ثم، كما لو أن العالم نفسه استجاب لأفكاره، ظهرت شاشة أخرى بجوارها.

[هل ترغب في العودة إلى الطابق الأول؟] [نعم] – [لا]

حدق في الشاشة، وعيناه انعكست فيهما أنوارها الخافتة. لم يتحرك، لم يمد يده لاختيار أي من الخيارين.

عاد عقله إلى الماضي، إلى مكان لم يعد موجودًا في هذا العالم القاسي.

"هل أعود...؟"

همس بالكلمات لنفسه، كأنها فكرة خطيرة لم يكن عليه التفكير بها.

تذكر أخته… رائحة الطعام التي كانت تملأ البيت، دفء المنزل، صوتها وهي تتذمر منه بمرح. أشياء ظن أنها لن تعني له شيئًا، لكنها الآن… كانت تزن ثقلاً على قلبه أكثر من أي معركة خاضها.

أغمض عينيه للحظة، مستمتعًا بذكرى عابرة، قبل أن يفتحها مجددًا.

لكن…

نظر نحو الغابة المجهولة تحته، نحو الطابق الذي لم يُكتشف بالكامل بعد.

"هل هذا هو الوقت المناسب؟"

كان يعلم أن العودة ليست سوى مسألة وقت، لكن كان هناك شيء ما في داخله، شيء يصرخ في وجهه، يحثه على المضي قدمًا، على البقاء، على مواصلة القتال. هل سيتغير لو عاد؟ هل سيفقد حدته؟

الشاشة لا تزال تلمع أمامه.

[نعم] – [لا]

أخذ نفسًا عميقًا.

"لا وقت للتردد."

رفع يده… وبحركة حاسمة ضغط على [نعم].

[تنغ!]

اهتز العالم من حوله، وساد الظلام. فتح هيونغ عينيه، ليجد نفسه وسط عالم لم يعد كما كان. الطابق الأول… لكنه لم يكن المكان الذي غادره سابقًا.

كانت المدينة التي كانت تُعرف بـ "مدينة الجحيم" قد تحولت إلى شيء آخر تمامًا. شوارعها المليئة بالأنقاض تحولت إلى طرق ممهدة من الحجارة السوداء، وأبنيتها المحطمة نمت من رمادها كأبراج داكنة تنبض بطاقة غريبة. المشاعل الأرجوانية أضاءت الطرقات، بينما كانت أشكال الظلال تتحرك بين الأزقة، كأن المدينة بأكملها قد أصبحت كائناً حياً يتنفس.

"ماذا...؟"

لم يكن هذا ما تركه وراءه. كانت المدينة سابقًا خرابًا يعج بالموت، مدينة أُبتليت بالدماء والدمار. لكنه الآن كان يقف في قلب "مدينة شياطين عامرة".

خطواته الرتيبة تدوي على الأحجار السوداء بينما يراقب المشهد من حوله. الكائنات التي كانت مختبئة سابقًا في الظلال الآن تسير علانية، بعضها يركع احترامًا عند مروره، وبعضها ينظر إليه بعيون متوهجة بالخوف أو الاحترام.

وفجأة، قُطع صمته بصوت مألوف.

"سيد هيونغ! هل… هل عدت؟!"

استدار بسرعة، ليجد الأميرة إليانا واقفة على بعد أمتار، فستانها الأسود المطرز بخيوط فضية يتماوج في الهواء، وعيناها المتوهجتان باللون القرمزي تعكسان الدهشة، والخوف… والاحترام المطلق.

كان الهواء مشحونًا بينهما، لحظة صامتة عبرت بين النظرات، قبل أن تخفض رأسها قليلاً وتنحني احترامًا.

"لم أكن أعتقد أنك ستعود بهذه السرعة…"

نظر إليها هيونغ بصمت، ثم إلى المدينة من حوله، قبل أن يتحدث بصوت منخفض، لكنه حمل معه الهيبة التي صُنعت عبر الدم والنار.

"ما الذي حدث هنا؟" وقفت الأميرة إليانا أمام هيونغ، عيناها القرمزيتان تلمعان تحت ضوء المشاعل الأرجوانية، وهي تحاول استيعاب حقيقة عودته. كانت تعلم أنه سيعود يومًا ما، لكنها لم تتوقع أن يحدث ذلك بهذه السرعة.

تنهدت، ثم قالت بصوت هادئ لكنه محمل بالمشاعر:

"لقد مرت خمسة أشهر، سيد هيونغ."

حدّق بها هيونغ للحظة قبل أن يرد، نبرته لم تتغير: "خمسة أشهر؟"

أومأت إليانا برأسها، وأكملت: "عندما غادرت إلى الطابق الثاني، كنا لا نزال نحاول جمع أنقاض المدينة، لكننا لم نتوقف. الشياطين هنا… لم يرغبوا في أن تبقى مدينة الجحيم على حالها. أرادوا أن تكون جديرة باسمها الجديد، مدينة الشياطين."

نظر هيونغ حوله، إلى الشوارع المعبدة والأبنية التي نهضت من الدمار، إلى المشاعل التي تحرق بطاقة داكنة، والأرواح الشيطانية التي تتحرك بانضباط بين الأزقة.

"عملوا بجد، إذاً."

ابتسمت إليانا، لكن في عينيها كان هناك أثر لفخر خفي. "لقد فعلوا. لقد كانوا يؤمنون أنك ستعود، وأنهم لا يمكن أن يستقبلك بالدمار والخراب."

ألقى هيونغ نظرة طويلة على الأفق، حيث كانت أبراج المدينة السوداء تعانق السماء الملبدة بالغيوم الداكنة.

خمسة أشهر…

بالنسبة له، في الطابق الثاني، لم يشعر بمرور كل هذا الوقت. كان غارقًا في معاركه ضد ملكة الجليد، في مواجهاته التي تحدّت حدود قوته. لكن هنا… الزمن لم يتوقف.

أعاد نظره إلى إليانا وسألها بصوت هادئ، لكنه حمل داخله ثقل إدراكه الجديد:

"إذن، ماذا حدث خلال هذه الأشهر غير إعادة الإعمار؟" وقفت إليانا تنظر إلى هيونغ بعينين مليئتين بالإعجاب والاحترام، قبل أن تجيب بصوت هادئ:

"لم يحدث شيء آخر يُذكر… فقط الشياطين اجتمعوا وقرروا أنهم يريدونك ملكًا عليهم."

ظل هيونغ صامتًا للحظات، ناظرًا إليها وكأنه يحاول استيعاب كلماتها. لم يكن هذا ما توقع سماعه بعد عودته. رفع عينيه لينظر إلى السماء المظلمة، حيث القمر الدموي كان معلقًا في الأعالي، يشع بضوء شيطاني خافت.

ثم ضحك ضحكة قصيرة، لكنها كانت خالية من أي سعادة. "ملِك الشياطين؟ هل هذا ما يظنونه عني؟"

أخفضت إليانا رأسها قليلًا، ثم رفعت نظرها بثقة وقالت: "بالنسبة لهم، أنت أقوى من حكم هذا المكان. لقد قادهم ملوك ضعفاء لقرون، لكنك… أثبت أنك مختلف. لا يوجد أحد هنا أقوى منك."

نظر إليها هيونغ مباشرة، وعيناه الباردتان عكستا هالة من الجليد القاتل. "لست مهتمًا بالعرش. الحُكم؟ لا يناسبني. إن أرادوا ملكًا، فليبحثوا عن غيري."

ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي إليانا، لكنها كانت تتوقع إجابته. "لهذا السبب اخترتك."

رفع حاجبه، فأكملت: "إن كنت ترفض، فلا يوجد شخص آخر يستطيع حكمهم… إلا أنا."

نظر إليها طويلاً قبل أن يقول بصوت حاسم، لكنه حمل نوعًا من السخرية: "إذن، فلتصبحي أنت ملكتهم."

كان في كلماته ثقل الاعتراف، لكنه لم يكن مجرد قرار عشوائي، بل كان اختبارًا لها.

لم تتردد إليانا، بل أومأت برأسها بهدوء، وعيناها تتوهجان بحزم نادر. "سأكون."

توقف الزمن للحظة، وكأن المدينة بأكملها انتظرت تلك الجملة، انتظرت هذا القرار الذي سيغير مصيرها.

وهكذا، في تلك الليلة التي أضاءها القمر الدموي، تم تتويج إليانا ملكة الشياطين، بينما بقي هيونغ… الظل الذي يخشاه الجميع، لكنه لا يسعى وراء العرش. خرج هيونغ من البوابة بخطوات ثابتة، والهواء البارد من العوالم التي عبرها ما زال يلف عباءته. عندما رفع رأسه، رأى مدينته أمامه، حيث الأضواء الدافئة تملأ الشوارع، والناس يمشون في هدوء، على عكس العوالم التي تركها وراءه.

لم يكن هذا المكان مليئًا بالحروب أو الوحوش أو الشياطين… بل كان منزله.

بسلاسة، تحرك عبر الشوارع حتى وقف أمام الباب الذي يعرفه جيدًا. طرق الباب بلطف، وما إن فُتح حتى ظهرت أخته الصغيرة بعينين واسعتين، قبل أن تهتف بدهشة: "أخي! لقد عدت!"

قبل أن يتمكن حتى من الرد، ألقت بنفسها عليه بعناق قوي، جعل شيئًا دافئًا يتسلل إلى قلبه المرهق. في الداخل، كانت والدته تقف عند المطبخ، وعندما رأته، تنهدت براحة قبل أن تقول بصوت مشوب بالعاطفة: "لقد تأخرت كثيرًا هذه المرة."

جلس معهم حول مائدة العشاء، حيث كان الطعام منزليًا، بسيطًا لكنه يحمل نكهة الذكريات والحنين.

"كيف كان يومكِ؟" سأل هيونغ أخته، التي بدأت بسرد أحداث يومها بحماس، بينما كانت والدته تتابعه بنظرة مطمئنة، وكأنها تريد التأكد من أنه بخير حقًا، وليس فقط جسديًا.

بعد العشاء، عاد إلى غرفته، حيث جلس على سريره، متكئًا على الجدار، قبل أن تظهر أمامه الشاشة السوداء التي كانت تنتظره بصمت.

— "تهانينا! لقد حصلت على عنصر من رتبة S!"

ظهر أمامه سيف من الجليد المظلم، ينبعث منه ضوء بارد، يشبه جليدًا قد تجمد لآلاف السنين في أعماق الظلام. عندما لامس مقبضه، شعر ببرودة حادة، لكنها لم تكن مؤلمة، بل كانت… ساحرة.

لم يستطع منع نفسه من الابتسام بخفة. "سيف جليدي من الظلام… كم هو مناسب لي."

2025/02/23 · 11 مشاهدة · 3644 كلمة
Aymen
نادي الروايات - 2025