[منظور إيثان سكارليث]
ركضتُ…
ركضتُ بكل ما أوتيت من قوة، قدماي تضربان الأرض بسرعة جنونية، أنفاسي تتسارع، وقلبـي يكاد ينفجر داخل صدري. لم أجرؤ على الالتفات خلفي، لم أكن بحاجةٍ إلى ذلك… كنتُ أعلم أن الموت كان يلاحقني من كل اتجاه.
الأشجار تمر بجانبي كظلالٍ مشوهة، الأرض غير مستوية، أغصانٌ تتشابك في طريقي، لكنني لم أتوقف. لم يكن هناك وقتٌ للتردد، أي تباطؤ، أي زلة قدم… تعني نهايتي.
استمريتُ في الركض، الهواء البارد يلسع وجهي، أصوات الغابة كانت مكتومة، كأنها تحبس أنفاسها معي، وكأنها تدرك أنني في سباقٍ يائس ضد شيءٍ لا يمكن الهرب منه.
لا أعلم كم استمر هذا… دقائق؟ ساعات؟ لم يكن لديّ أي فكرة، لم يكن هناك أي إحساسٍ بالزمن، فقط قدماي اللتان تتحركان دون توقف، ودقات قلبي التي تصرخ في أذني.
ثم… أخيرًا… توقفتُ.
لم يكن بإرادتي، جسدي ببساطة لم يعد قادرًا على التحمل.
سقطتُ على الأرض، مستنزفًا تمامًا.
لهاثي كان خشنًا، رئتاي تحترقان، وكل عضلةٍ في جسدي ترتجف من الإرهاق.
لكنني كنتُ على قيد الحياة.
لم أكن أعلم إن كنتُ قد هربتُ حقًا… أم أن الموت تأخر فقط.
لكنني لم أستطع التفكير في ذلك الآن.
أغمضتُ عينيّ للحظات، حاولتُ تهدئة أنفاسي، حتى لا أختنق من شدتها.
ثم، بحركةٍ بطيئة، سحبتُ زجاجة الماء من خاتم الظلال، ورفعتها إلى شفتيّ المرتجفتين.
الماء…
تدفق داخل فمي، باردًا، منعشًا… شعرتُ وكأنني أستعيد جزءًا من حياتي مع كل رشفةٍ منه.
لم يكن هذا ماءً عاديًا… كان لا نهائيًا.
ابتلعتُ جرعةً أخرى، ثم أنزلتُ الزجاجة، وأنا أشعر بأنني بدأتُ أستعيد شيئًا من قوتي.
لكن ذلك لم يكن كافيًا.
لم يكن أيٌّ من هذا كافيًا.
أدرتُ نظري ببطء، محاولًا استيعاب المكان من حولي. الأشجار كانت كثيفةً كما كانت دائمًا، كل شيء لا يزال مشبعًا بذلك الجو المخيف… لكنني لم أرَ أي شيءٍ يتحرك.
هل يعني ذلك أنني نجوت؟
أم أنني فقط… مؤجل؟
لا أعلم، ولا أريد أن أعلم.
لكنني كنتُ أعلم شيئًا واحدًا…
إذا كنتُ حقًا في هذا المكان… فإن فرص نجاتي شبه معدومة.
"غابة كاليدون…"
بمجرد أن خطرت الفكرة في ذهني، شعرتُ بقشعريرةٍ تتسلل إلى جسدي.
لم يكن من المفترض أن أكون هنا.
هذه الغابة لم تكن مجرد مكانٍ عادي، لم تكن مجرد أرضٍ خطيرة يسكنها وحوشٌ قوية…
كانت كابوسًا.
غابة الكابوس، كما يسمّيها الجميع… أو بالأحرى، كما يتهامسون عنها بخوف.
لم يكن هناك من استطاع استكشاف حتى خمسة بالمئة منها، لم يكن هناك من دخل إلى أعماقها وعاد ليخبر الآخرين بما رآه.
إن كنتُ قد وصلتُ إلى هنا حقًا، فهذا يعني شيئًا واحدًا…
أنا بعيدٌ جدًا. بعيدٌ عن كل شيءٍ عرفته يومًا.
بعيدٌ عن إمبراطورية سكارليث.
شعرتُ بشيءٍ غريب يتسلل إلى داخلي، إحساسٌ متناقض…
الخوف؟ نعم، بالتأكيد.
لكن إلى جانب الخوف، كان هناك شعورٌ آخر، شعورٌ لم أتوقع أن أشعر به أبدًا.
الارتياح.
رغم أنني كنتُ في أكثر الأماكن رعبًا في العالم… رغم أنني كنتُ محاصرًا بين مخلوقاتٍ لا يمكنني حتى فهم طبيعتها…
إلا أنني، بطريقةٍ غريبة، كنتُ أفضل حالًا مما كنتُ عليه في سكارليث.
ذلك المكان لم يكن منزلي أبدًا.
عائلتي؟ لا، لم يكن هناك شيءٌ يدعى "عائلتي".
كلهم كانوا يكرهونني، كانوا يتمنّون موتي، كانوا ينظرون إليّ كما لو أنني شيءٌ يجب التخلص منه، لا شخصًا يحمل دمهم.
كل هذا بسبب عيبي التشوّية الذي وُلدتُ به.
لم يهم ما كنتُ قادرًا عليه، لم يهم أنني كنتُ أقوى مما اعتقدوا، أنهم لم يعرفوا شيئًا عني… كل ذلك كان بسبب التشوية اللعين، وكل ما أرادوه كان اختفائي من وجودهم.
ورغم كل ذلك…
سكارليث كانت أرحم من هذه الغابة.
على الأقل، في الإمبراطورية، كنتُ أعلم ما يجب أن أخشاه. كنتُ أعلم من هم أعدائي.
لكن هنا؟
هنا، لم يكن هناك قانون، لم يكن هناك شيءٌ يمكن توقعه.
كل شيءٍ قد يكون قاتلًا، كل شيءٍ قد يكون أكثر رعبًا مما أستطيع تخيّله.
ولا أحد يعلم حتى حقيقة هذه الغابة… لأن من دخلها لم يعد أبدًا.
شعرتُ بثقلٍ رهيبٍ يطبق على صدري، وكأنني كنتُ محاصرًا داخل متاهةٍ لا أمل للخروج منها.
لكنني كنتُ لا أزال حيًا.
وربما… فقط ربما…
هذا يعني أنني لا زلتُ أملك فرصة.
لا زلتُ أملك شيئًا واحدًا.
"البقاء."
هذا هو كل ما كان يهمني الآن.
لا عائلة، لا إمبراطورية، لا ماضٍ، ولا مستقبل.
فقط… البقاء.
"عليّ أن أبقى حيًا… بأي ثمن."
...
...
...
ركضتُ بأقصى سرعتي، أشعر بأنفاسي تحترق في صدري، وقلبي يكاد ينفجر من شدة الإرهاق. الأشجار من حولي تتلاشى بسرعة، الأرض تحت قدمي تتحول من تربة رخوة إلى صخور خشنة، والهواء أصبح مشبعًا برائحة غريبة… رائحة البحر؟
"البحر؟"
حدّقتُ إلى الأمام، وعيناي اتسعتا.
لم تكن هناك أشجار بعد الآن. لم يكن هناك ضباب.
لقد وصلتُ إلى نهاية الغابة… أو هذا ما كنتُ أظنه.
لكن ما رأيته أمامي لم يكن الخلاص.
كان بحرًا.
لكن ليس أي بحر.
مياهه لم تكن زرقاء، ولا حتى رمادية.
كانت سوداء.
سوداء كأعمق نقطة في الفراغ، كأنها حفرة بلا قاع تبتلع كل ضوء يحاول لمسها.
السماء فوقه كانت ملبدة بالغيوم الداكنة، لا نجوم، لا قمر، فقط ظلام ينساب في الأفق بلا نهاية.
وقفتُ هناك، عاجزًا عن الحركة، أحدق في هذا الامتداد المرعب.
"البحر الأسود…"
سمعتُ بهذا المكان.
لكن حتى أقوى المغامرين، حتى أعظم ملوك الإمبراطوريات، لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، ولم يحاول أحد اكتشاف حتى واحد بالمئة من أسراره.
لأن أي شخص وطأت قدمه هذه المياه… لم يُرَ مجددًا.
شعرتُ بقشعريرة تجتاح جسدي.
كان يجب أن أشعر بالراحة لخروجي من الغابة. كان يجب أن أشعر بالأمان.
لكنني كنتُ الآن أمام شيء ربما يكون أسوأ.
شيء لا حدود له.
شيء… ينتظر.
وفي تلك اللحظة، رأيتُه.
من قلب المياه السوداء، شيء بدأ يتحرك.
دوائر تموجت على السطح الهادئ، كأن البحر استيقظ من سباته.
ثم… ظهرت يد.
يد سوداء، ضخمة، لكن مختلفة عن تلك التي رأيتها في الغابة.
كانت أطول، أنحف، أصابعها تبدو وكأنها مكونة من ظلال حيّة، تتلوى ببطء، وكأنها تتذوق الهواء.
شعرتُ بالدم يهرب من وجهي.
ثم ظهر رأس.
رأس بلا ملامح، مائل قليلًا إلى الجانب، كما لو أنه يراقبني بصمت.
لا. ليس كما لو… بل هو يراقبني فعلًا.
كان ذلك الشيء… يراني.
وفي اللحظة التي أدركتُ فيها ذلك، شعرتُ بأنفاسي تتقطع.
لقد هربتُ من وحوش الغابة، تفاديتُ المخلوق العملاق، ابتعدتُ عن الضباب القاتل…
لكن الآن، كنتُ أمام شيء مختلف تمامًا.
شيء… لا ينتمي إلى هذا العالم.
قدماي لم تعد تتحرك.
كان عقلي يصرخ بي، جسدي يطلب مني الهرب، لكنني لم أستطع.
لأنني عرفتُ الحقيقة.
لا يوجد مكان للهرب إليه.
البحر الأسود أمامي.
الغابة خلفي.
وكلاهما… كانا ينتظرانني.
...
...
...
لم أستطع تحريك قدمي.
كل غريزة في داخلي كانت تصرخ، تحثني على الهروب، لكن جسدي كان متجمداً.
الهواء من حولي أصبح أثقل، وكأن البحر الأسود نفسه يزحف نحوي، يبتلعني حتى قبل أن ألمسه.
ذلك المخلوق… لم يتحرك.
كان رأسه مائلاً قليلاً، كما لو أنه يتأملني.
لم يكن له ملامح، فقط سطح أسود كأنه ظل متجسد.
لكن فجأة… شيء ما تغير.
بدأت ثقوب سوداء صغيرة تظهر في مكان عينيه، تزداد قتامة… تدور ببطء كأنها دوامات تمتص كل ضوء يقع عليها.
شعرتُ بضغط هائل يحيط بي، كما لو أن الهواء نفسه يُسحب نحو تلك العيون.
ثم، بدأ فمه يتشكل.
خط أسود رفيع امتد عبر وجهه… ثم اتسع ببطء.
أوسع… وأوسع…
حتى تشكل فم مرعب، غير بشري، كأنه تمزق في نسيج الواقع نفسه.
كان ابتسامة… لكن لم تكن مجرد ابتسامة عادية.
كانت عريضة بشكل غير طبيعي، تمتد حتى تكاد تلتهم وجهه بالكامل، تظهر أسنانًا طويلة، حادة، كأنها أنصال مغموسة في ظلام لا قاع له.
شعرتُ بحرارة باردة تسري في عمودي الفقري، وكأنني ألقيتُ في أعماق الجحيم دون أن أتحرك.
لم يصدر أي صوت.
لم يكن هناك هدير، لم يكن هناك صراخ، فقط صمت مخيف يلف المكان.
لكنه كان أسوأ من أي صوت سمعته في حياتي.
ثم…
حدث ما لم أستطع حتى استيعابه.
في لحظة، قبل أن أتمكن حتى من التفكير…
لم أعد على الأرض.
لم أعد أقف أمام البحر.
شعرتُ بضغط ساحق يلتف حولي، برد قارس يضرب جسدي.
استغرق الأمر ثانية… ثانيتين… قبل أن يدرك عقلي ما حدث.
لقد أُمسكت.
ذلك المخلوق… أمسك بي.
لكنني لم أره يتحرك.
لم ألحظ يده تمتد.
لم يكن هناك أي وقت للهرب.
إنه لم يتحرك بسرعة تفوق الإدراك فحسب…
بل كأن الزمن نفسه لم يستطع مجاراته.
عيناي تحركتا ببطء، نزلتا إلى الأسفل…
فرأيت أصابعه.
طويلة، نحيلة، تلتف حول جسدي كما لو أنني مجرد دمية قماشية بين يديه.
لم يكن هناك ضغط كبير، لم يكن يحاول تحطيمي، لكنه لم يكن بحاجة إلى ذلك.
وجوده وحده كان كافياً لجعلني أشعر بأنني لا شيء.
بدأ الظلام يزحف إلى أطراف رؤيتي.
"هذا… ليس حقيقيًا…"
حاولتُ التفكير. حاولتُ المقاومة.
لكن لا شيء استجاب.
كانت أنفاسي تتباطأ، جفوني تثقل.
الظلام كان يبتلعني.
كان هذا…
نهايتي؟
…
ثم اختفى كل شيء.
----
---
ملاحظة المؤلف:انتهينا من الآرك الأول المستيقظ. ومن الفصل القادم، سيبدأ آرك جديد: آرك الحرب الباردة.
ستفتقدون إيثان كثيرًا في المستقبل.