سقطتُ على الأرض، مستنزفًا تمامًا.

ما حدث قبل لحظات لم يكن شيئًا يمكن لعقلي تحمله بسهولة. الكائن العملاق، الفئران المتوحشة، الموت الذي كاد يخطفني… كل شيء كان أكثر من اللازم.

كان جسدي يصرخ من الألم، لكن عيناي لم تعودا قادرتين على البقاء مفتوحتين.

النوم اجتاحني بسرعة.

---

وجدتُ نفسي في مكان غريب.

السماء كانت سوداء… لا، لم تكن مجرد سماء، بل فراغ لا نهاية له، وكأن العالم نفسه قد تلاشى.

الأرض تحت قدمي كانت ملساء، سوداء كأنها مصنوعة من زجاج يعكس الظلام من تحتي.

ثم رأيتها.

من وسط الفراغ، كانت تقف هناك.

فتاة… أو بالأحرى، كيانٌ يشبه فتاة.

كانت ترتدي فستانًا أسود طويلًا، يتراقص مع الهواء رغم عدم وجود أي ريح.

شعرها الأبيض انساب على كتفيها، ووجهها كان من الجمال لدرجة أنه بدا غير حقيقي.

لكن ما لفت انتباهي… كان شيئًا آخر.

قرنان.

بارزان بوضوح من رأسها، منحنيان قليلًا نحو الخلف، يشبهان قرون الشياطين في الأساطير القديمة.

لم تتحرك، لم تنطق بكلمة، فقط نظرت إليّ.

وفي اللحظة التي التقت عيناها بعينيّ…

تجمد جسدي بالكامل.

لم أستطع أن أتنفس. لم أستطع أن أتحرك.

لم يكن هذا مجرد خوف… كان شيئًا أقوى.

"ماذا يحدث؟"

حاولتُ الصراخ، لكن صوتي لم يخرج.

ثم، بدأ شيء مريع بالحدوث.

جلدي تحجر.

بدأتُ أرى التشققات تنتشر من أطرافي، جلدي يتحول إلى حجر رمادي قاتم.

"لا… هذا ليس حقيقيًا…!"

حاولتُ المقاومة، حاولتُ تحريك أصابعي، لكن بلا فائدة.

التجمد امتد إلى صدري.

شعرتُ ببطء عظامي تتصلب، وكأنني أصبحتُ تمثالًا حجرًا بلا حياة.

رأيتُ الفتاة ما زالت تنظر إليّ…

ابتسمت.

ابتسامة خفيفة… لكنها لم تكن بشرية أبدًا.

وفي اللحظة التالية، انفجر جسدي إلى قطع متناثرة.

---

شهقتُ واستيقظتُ فجأة.

أنفاسي متسارعة، جسدي كله مغطى بالعرق، وقلبي يضرب صدري بجنون.

"ما هذا؟!"

نظرتُ حولي، كنتُ لا أزال في المكان الذي نمتُ فيه، لم يكن هناك شيء غريب… لا فتاة ذات قرون، لا عالم مظلم.

لكني شعرتُ بشيء عالق في داخلي.

ذلك لم يكن مجرد حلم…

لقد كان أكثر من ذلك.

شعرتُ بقشعريرة تتسلل إلى عمودي الفقري، وكأن شيئًا خفيًا يراقبني حتى بعد استيقاظي.

وضعتُ يدي على وجهي، محاولًا استعادة هدوئي.

"من تكون… تلك الفتاة؟"

استنشقتُ نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة أنفاسي المتسارعة.

رأسي كان مشوشًا، لا أستطيع نسيان ما رأيته في ذلك الحلم… أو الرؤيا.

لكن شيئًا آخر جذب انتباهي.

"الضوء…؟"

رفعتُ رأسي ببطء، وعيناي التقتا بمشهدٍ لم أره منذ قدومي إلى هذا المكان.

الشمس…

كانت مشرقة في السماء، نورها الذهبي ينساب بين الأشجار، مُزيحًا الظلام الذي غلف كل شيء في الليلة الماضية.

لقد حلّ الصباح.

للحظة، بقيتُ جالسًا هناك، أحدق في السماء وكأنني لم أرها من قبل.

كان ذلك الشعور غريبًا… وكأنني كنتُ عالقًا في كابوسٍ لا نهاية له، حتى نسيتُ أن العالم ما زال يدور.

لكن الآن، بعد كل ما مررتُ به، كان طلوع الشمس أشبه بمعجزة.

وقفتُ ببطء، جسدي لا يزال متعبًا، لكن على الأقل لم أمت الليلة الماضية.

"يومٌ آخر… عليّ البقاء حيًا ليومٍ آخر."

بينما كنتُ أحدّق في الشمس، مستمتعًا للحظة بنورها الدافئ بعد ليلةٍ مرعبة، لاحظتُ ظلًّا ضخماً يتحرك عبر السماء.

"ما هذا…؟"

رفعتُ رأسي بسرعة، وعيناي اتسعتا فور رؤيته.

مخلوق عملاق، بجناحين هائلين ينبسطان في الهواء، يحلق فوقي بصمتٍ مهيب.

غريفين.

جسدُ أسد، وأجنحة نسرٍ تمتد كأنها تستطيع احتضان السماء بأكملها، ومخالبه الضخمة تلمع تحت أشعة الشمس، قادرة على تمزيق أي شيء بسهولة.

كان يحلق ببطء فوق الغابة… يبحث عن شيءٍ ما.

شعرتُ بقلبي يتوقف لثانية.

"هل لاحظني؟"

تراجعتُ خطوة للخلف، محاولًا البقاء بلا حراك، كما لو أنني مجرد جزءٍ من الطبيعة حولي.

لكن جسدي كان يرتجف.

إذا رآني هذا الشيء… إن قرر أنني فريسة…

لن يكون هناك أي فرصة للهرب.

حاولتُ تهدئة أنفاسي، وأخذتُ نفسًا عميقًا، أبقيتُ عينيّ عليه، متمنّيًا أن يواصل طريقه دون أن يلتفت للأسفل.

"فقط تابع الطيران… لا تلتفت… لا تلتفت…!"

لم يتحرك الغريفين نحوي.

ظلّ يحلق في السماء، يدور ببطء، ثم بدأ يبتعد شيئًا فشيئًا، جناحاه العملاقان يخفقان بصمتٍ مهيب.

حبستُ أنفاسي، ولم أتحرك حتى أصبح مجرد نقطة بعيدة في الأفق.

"نجوت…"

لكن الشعور بالارتياح لم يدم طويلًا.

بينما كنتُ أراقب الغريفين وهو يبتعد أكثر فأكثر، ظهر شيء لم يكن من المفترض أن يوجد.

يد.

يد عملاقة… سوداء، كأنها منحوتة من الفراغ نفسه.

خرجت من العدم، من بين الظلال التي لم تكن هناك قبل لحظات.

ضخمة بشكل غير طبيعي، أصابعها طويلة ونحيلة كأنها مخالب شيطان، تتحرك ببطء لكنها كانت تحمل إحساسًا مريعًا…

إحساسًا لا ينتمي لهذا العالم.

في لحظة، وقبل أن يدرك الغريفين ما يحدث…

أُمسك به.

تحطمت عظامه بين الأصابع السوداء العملاقة، جناحاه الضخمان انطويا كأنهما ورقة رقيقة، وصوت طقطقة عظامه دوى في الأرجاء.

لم يُتح له حتى الوقت للصراخ.

جسده ارتعش للحظة، ثم…

اختفى.

لم يكن هناك انفجار، لم يكن هناك دم، فقط… اختفى.

كأنه لم يكن موجودًا أبدًا.

لم يتبقَ سوى اليد العملاقة، التي ظلت معلقة في الهواء للحظات، كأنها تتأكد من عدم وجود شيء آخر بحاجة للمحو…

ثم… عادت إلى العدم.

اختفت كما ظهرت، دون أن تترك وراءها أي أثر.

لكنني رأيتُ.

رأيتُ كل شيء.

"ذلك… الشيء."

ذلك المخلوق العملاق، الذي تجاهلني في الليلة الماضية، الذي شعرتُ بنظراته تحرقني رغم أنه بلا ملامح…

كان هو صاحب تلك اليد.

كان قادرًا على سحق مخلوق بحجم الغريفين وكأنه حشرة تافهة…

وكان يعلم أنني هنا.

لكنه ما زال يتجاهلني.

لم يكن ذلك بسبب عطفٍ منه، أو لأنه لم يرني… لا، لقد كنتُ متأكدًا الآن.

إنه فقط لا يرى أي فائدة من قتلي بعد.

سقطتُ على ركبتيّ، يداي ترتجفان، عيناي لا تزالان معلقتين في الفراغ حيث اختفى الغريفين.

"ما الذي دخلتُ فيه…؟"

شعرتُ بجسدي يتجمد...

كل خلية في كياني كانت تصرخ، تدرك الحقيقة المروعة التي نجوتُ منها دون أن أعلم.

كنتُ متجهًا نحو ذلك الشيء…!

لو لم يكن الغريفين هناك… لو لم يطير في ذلك الاتجاه قبلي…

لكنتُ أنا من وقع في قبضته.

شعرتُ برعشة تسري في عمودي الفقري، أنفاسي أصبحت متقطعة، وكأن الهواء نفسه يرفض دخول رئتيّ.

"لقد كنتُ سأموت… لا، الأسوأ من الموت، كنتُ سأُمحى."

لو لم يُشتت الغريفين انتباهه، لو كنتُ قد أكملتُ طريقي…

لما كنتُ موجودًا الآن.

أمسكتُ رأسي بكلتا يديّ، محاولًا استيعاب ذلك الشعور الفظيع.

ما هذا المكان؟ ما هذه المخلوقات؟ لماذا يشعر كل شيء هنا وكأنه يُجردني من معنى الوجود نفسه؟

أجبرتُ نفسي على النهوض، قدماي بالكاد تحملانني، لكنني كنتُ أعلم شيئًا واحدًا…

عليّ تغيير مساري فورًا.

لا يمكنني أن أخطو خطوة واحدة أخرى في ذلك الاتجاه.

استدرتُ بعكس المسار الذي كنتُ أسلكه، لم أعد أهتم إلى أين سيأخذني الطريق الجديد، المهم أن يكون بعيدًا… بعيدًا عن ذلك الشيء.

ما زلتُ على قيد الحياة.

لكن فكرة أنني كنتُ على بعد لحظات من الاختفاء المطلق…

لن تفارق عقلي أبداً...

...

...

خطواتي كانت ثقيلة، جسدي لا يزال يرتجف من الصدمة.

كنتُ أسير دون هدف محدد، فقط أبتعد… أبتعد قدر الإمكان عن ذلك الشيء.

لكن بينما كنتُ أشق طريقي بين الأشجار الملتوية، رأيتُ شيئًا جعلني أتوقف فورًا.

ضباب.

ضباب كثيف يحيط بمنطقة واسعة، يمتد بعيدًا، وكأنه يبتلع كل شيء في طريقه.

الضباب مجددا…

شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي، وكأن الهواء نفسه أصبح أثقل.

هذا المكان… سمعتُ عنه من قبل.

مخلوق الضباب… المكان الذي لم يخرج منه أحد حيًا، لا أحد يعرف ما يوجد بداخله، لأنه لم يكن هناك ناجون ليخبروا قصصهم.

أخذتُ خطوة إلى الخلف، أنفاسي أصبحت غير مستقرة.

ثم أدركتُ شيئًا آخر، شيئًا جعل معدتي تنقبض بقوة.

"هذا المكان… لا يمكن أن يكون إلا…"

غابة كاليدون.

الاسم وحده كان كافيًا لجعل حتى أقوى البشر يتراجعون.

غابة الكابوس.

مكان لم يستطع أحد استكشافه، بالكاد استطاعوا لمس أطرافه، وحتى ذلك لم يكن بلا ثمن.

يُقال إن البشر لم يتمكنوا من كشف حتى خمسة بالمئة من أسراره.

كل من دخل إلى أعماقه… اختفى.

لم يكن هناك جثث، لم يكن هناك أي أثر، فقط… اختفوا.

وإذا كنتُ حقًا داخل غابة كاليدون الآن…

فهذا يعني أن فرصي في البقاء على قيد الحياة… أصبحت شبه معدومة.

حدقتُ في الضباب أمامي، شعورٌ غير مريح بدأ يزحف إلى أعماقي.

كان يبدو كأي ضباب عادي… لكن لا، لم يكن كذلك.

هذا ليس ضبابًا.

إنه شيءٌ آخر، شيءٌ حيّ.

"إنه… مخلوق كابوس."

مجرد فكرة أن الضباب أمامي ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل كيان حيّ يتجول في الغابة، جعلت أطرافي تبرد، وكأن الدم تجمد في عروقي.

لكن الأسوأ من ذلك…

لا أحد يعرف مستواه الحقيقي.

هل كان من المستوى الخامل؟ لا، لا يمكن أن يكون بهذا الضعف وإلا لما ابتلع كل من دخله.

هل كان مستذئبًا؟ طاغوتًا؟ ربما ساقطًا أو فاسدًا؟

لا أحد يعلم.

حتى المستويات الأقوى، عظيم، جبار، كابوس، ملعون، طاغية…

لا أحد يعلم مستواه الحقيقي.

لأنه لم يكن هناك من خرج من ضبابه ليخبرنا.

"هل هذا الشيء… يتجول في الغابة؟"

شعرتُ برأسي يدور. كيف يمكن لمخلوق كهذا أن يكون حرًا؟ كيف يمكن لمكانٍ واحد أن يحوي هذا الكم من الرعب؟

إذا كان هذا الشيء مجرد واحدٍ من مخلوقات غابة كاليدون…

فماذا يوجد في أعماقها؟

تصلب جسدي في مكاني.

الضباب أمامي.

المخلوق عديم الملامح خلفي.

لم يكن هناك مجالٌ للتفكير أو التردد، كنتُ عالقًا بين رعبين لا يمكن تصورهما.

أن أتقدم نحو الضباب يعني أن أواجه مخلوقًا لا أحد يعرف مستواه، لا أحد يعرف حتى إن كان له شكل حقيقي… مخلوق ابتلع مئات الأرواح ولم يُبقِ وراءه أثرًا واحدًا.

وأن أعود أدراجي؟

ذلك المخلوق الآخر كان ينتظرني.

رغم أنه تجاهلني سابقًا، إلا أنني لم أكن واثقًا من أنه سيفعل ذلك مرة أخرى. لا، ليس بعد أن رأيت ما فعل بالغريفين.

"أين أذهب؟"

نظرتُ إلى جانبيّ… كان هناك مساران، واحدٌ إلى اليمين والآخر إلى اليسار.

كلاهما كان مغطى بالأشجار الكثيفة، لم أكن أعلم أيهما أكثر أمانًا.

لكن…

شعرتُ بشيء غريب يسري في جسدي.

حدسي كان يخبرني بشيء.

اليسار.

اليسار هو الخيار الصحيح.

لم أكن أعلم لماذا، لم يكن هناك أي منطق في ذلك، لكنني لم أشك للحظة.

إن لم أتحرك الآن، فسأموت.

شدّدتُ قبضتي على سيفي الأسود، أخذتُ نفسًا عميقًا، ثم…

ركضتُ بكل ما أملك نحو اليسار....

يبتع...

2025/02/16 · 48 مشاهدة · 1542 كلمة
Vicker
نادي الروايات - 2025