[منظور إيثان سكارليث]

كانت الغابة تمتد في كل الاتجاهات، كثيفة، خانقة، تنبض بشيء لا يُشبه الحياة… بل شيئًا آخر. شيءٌ يهمس من بين الأشجار، ويتنفس من تحت الأرض، شيءٌ يُشبه الموت، لكنه أعمق، أبطأ… وأكثر إدراكًا.

"غابة الكابوس كالديون"… هذا ما سمعته عنها في أحد تقارير المهام القديمة… لكن لا شيء كان يُشبه هذا. لا الخرائط، ولا التحذيرات، ولا حتى صرخات من حاولوا دخولها ثم اختفوا بعدها للأبد… لا شيء يُمكن أن يُعدّك لما شعرتُ به هنا.

أنفاسي كانت مقطعة، ملتصقة بأضلعي كأن الهواء نفسه يرفض الدخول، عضلاتي متوترة، والدم يسيل من فخذي الأيسر ببطء.

الوحش الأخير… كان من رتبة "مستذئب ".

وقد تركني نصفَ ميت.

لكنني لم أمت.

وصلتُ أخيرًا إلى جذع شجرة… لا، ليس مجرد جذع… شجرة كالديون العملاقة، كانت ضخمة لدرجة أنها حجبت السماء فوق رأسي، أوراقها مثل خناجر سوداء تلمع في الضوء الأحمر المائل للغروب.

صعدتُ بيديّ المرتجفتين، ساقاي ترتجفان مع كل خطوة على الجذع الصلب المليء بالطحالب السامة. الدم اختلط بعرقي… لكنني صعدت.

وحين جلستُ أخيرًا على أحد الأغصان العملاقة… شعرتُ بشيء يُشبه الهدوء.

… حتى رفعتُ رأسي.

ظننت في البداية أنه ظل غيمة سوداء، لكن لا…

الشيء فوقي… طائر.

لكن ليس كأي طائر.

جناحاه كأنهما ممتدان من أعماق الجحيم… الريش أسود تمامًا، لكن بداخله خطوط حمراء متوهجة، تتحرك وكأنها عروق تنبض بطاقة لا تنتمي لهذا العالم. منقاره كالسيف، وعيناه…

كانت هناك عيون كثيرة.

أكثر من عينين.

كلها مفتوحة… وكلها كانت تنظر لي.

[الرتبة: جبار]

أطلقتُ شهقة مكتومة.

حتى في أسوأ كوابيسي، لم أتخيل أنني سأواجه كائنًا من هذه المرتبة في هذا المكان…

ولم يكن ذلك أكثر شيء مرعب.

بل كان… من وقفت فوقه.

نظرتُ إلى ظهر الطائر… وهناك، بكل هدوء، بكل سخرية من كل القوانين، كانت تقف.

هي.

قدماها لم تهتزّا رغم اهتزاز ريش الطائر، وقفت بثبات… وثقة.

شعرها الأبيض الطويل ينساب مع الريح كأنه نهر فضيّ، يلمع تحت نور غير مرئي…

عيناها… حمراء متوهجة، مثل جمرتين متقدتين في ليل لا نهاية له.

لكن ما لفتني حقًا… كان قرناها.

قرون منحنية، داكنة… لكنها تتوهج من الأطراف بتدرجات حمراء كأنها مشبعة بسحر من نوع لا أفهمه… بل لا أريد أن أفهمه.

زيّها الداكن كان مصممًا بطريقة دقيقة للغاية، رموز محفورة في القماش نفسه، تتوهج بخفوت، وكأنها تتحرك حين لا أنظر إليها مباشرة.

وفي يدها… كان السيف.

طوله يقترب من طول جسدها، لكنه لم يُثقلها. بدا وكأنه امتداد لجسدها.

كان سيفًا حيًا… ينبض… يهمس.

أحجاره الحمراء توهجت فجأة، وكأنها علمت أنني أنظر.

لكن الأغرب من كل ذلك…

أنها لم تنظر نحوي.

لم تراني.

كأن وجودي لم يكن مهمًا…

كأنني لا أُحسب.

خطت خطوة على ظهر الطائر، ثم أخرى…

ثم قفزت.

لكنها لم تسقط.

بل مشت على الهواء… مشية مستقيمة، خفيفة، وكأنها تعيش في بُعد موازٍ، لا يخضع لجاذبية هذا العالم.

كل شيء فيها… كان لا يُصدق.

وحين همست الرياح باسمها…

[؟؟؟:؟؟؟]

[الرتبة: ؟؟؟]

تجمّدت عين البصيرة داخلي.

صرخت.

بشكل حرفي.

بدأت ترفرف بلا معنى، الرموز تتحطم، الألوان تتبخر، ثم…

اختفت.

ولأول مرة منذ امتلاكي لتلك العين…

لم أستطع أن أراها.

كل ما استطعت فعله…

هو أن أنظر إلى الفراغ الذي تركته ورحلت فيه.

دقّات قلبي كانت غير منتظمة، يداي ترتجفان، لكن ليس من الخوف فقط…

بل من الإهانة.

أنا… لم أُحتَسَب. لم أُرَ.

كأن وجودي لا يعني شيئًا.

جلستُ على غصن الشجرة، أتنفس ببطء، محاولًا فهم ما حدث… لكن كل ما شعرتُ به… كان الظلمة.

الليل حلّ.

والغابة أصبحت أكثر صمتًا.

لكن داخلي… كان يصرخ.

من هي؟

ولماذا بدت وكأنها تتحكم بكائن من رتبة "جبار" كما لو كان طائرًا أليفًا؟

لماذا لم ترني؟ أو… لماذا تجاهلتني؟

وماذا لو كانت قد رأتني، لكنها فقط لم تهتم؟

بدأت الدموع تنزل من عيني. ليس لأنني كنت خائفًا… بل لأنني شعرت بشيء أكبر بكثير من الخوف.

شعرت بالعجز.

كأنني كنت نملة… أمام كابوس لا يُسمّى.

غفوت.

والكابوس… لم يبتعد.

...

...

لم أعرف متى غفوت…

لكنني عرفت تمامًا متى بدأ الكابوس.

الظلام كان كثيفًا، ساكنًا… لكن ليس ميتًا.

شيء ما فيه كان حيًا، يراقب، يتنفس، ويبتسم بسخرية.

لم تكن ابتسامة رحمة… بل ابتسامة مَن يعلم مصيرك… ويستمتع بتأخيره.

كنت ما أزال على غصن الشجرة، أو هكذا ظننت. لكن كل شيء حولي كان مختلفًا.

الغابة اختفت. أو بالأحرى… تلاشت، كأنها لم تكن سوى قناع… قشر سقط فجأة.

الهواء تغيّر.

رائحته… لم تكن طبيعية.

مزيج من الدم الفاسد، والعظام المحترقة، والرماد المبلل بالماء الأسود.

وضعت يدي على صدري…

لكن قلبي لم يكن ينبض.

أين أنا؟

ثم رأيت الضوء.

بعيدًا… في أقصى الأفق… كان هناك ضوء واحد… واحد فقط، يخترق هذا الظلام الغارق.

لم يكن كضوء القمر المعتاد… لا فضي، ولا أبيض… بل قرمزي.

قمر قرمزي

هائل الحجم… يملأ السماء.

كأنه عين حاكم قديم، فُتحت بعد نوم أبديّ.

ينظر إليّ وحدي.

ولا يرمش.

وتحت ذلك الضوء… كانت هناك الأرض.

أرض جرداء، لا نبات فيها ولا صخر… فقط تراب داكن، يتبخر كل شيء عليه ما إن يلمسه الضوء.

رأيت أشجارًا في البعد، لكنها لم تصمد…

بمجرد ما لامسها الضوء…

تفكّكت.

كما لو كانت خيالًا، حلمًا، كذبة في عالم لا يسمح بالكذب.

رأيت كائنات… تمشي، تزحف، تهرب.

كانت تصرخ، لكن الصرخات لا تصل.

وحين وصل الضوء إليهم…

ذابوا.

جلودهم أولًا، ثم عظامهم، ثم حتى أصواتهم…

كأن وجودهم نفسه كان جريمة يعاقب عليها القمر.

ابتلعتُ ريقي، رغم أنه كان جافًا.

نظرتُ لأسفل قدمي… كنت ما أزال على غصن… لكنه لم يكن شجرة.

كان شيء يتنفس تحت قدمي.

صعدتُ عليه ولم أعلم، لكن الآن…

النبض تحتي… كان كقلب عملاق.

تحركت الأرض من تحتي، وسقطت.

بدأت أركض… لا أعرف إلى أين، فقط بعيدًا عن الضوء.

لكن الفضول… أقوى من الخوف أحيانًا.

توقفت… ونظرت للضوء القرمزي.

لم أره هكذا من قبل.

كان يلمع… لا، يتنفس.

كل ومضة… كأنها نبضة قلب عملاق.

وفي كل ومضة… كنت أراه يقترب.

ليس القمر… بل ما فيه.

كان هناك ظلٌ داخله.

ضخم… بملامح غير واضحة.

ينظر إلى الأرض… كأنها لا تستحق أن تكون.

وكنت بعيدًا… بعيدًا عنه.

لكني أردت الاقتراب.

خطوت.

لم يحدث شيء.

خطوت أخرى.

بدأ الهواء يسخن.

ثم ثالثة.

أنفاسي بدأت تحترق في صدري.

العرق صار يغلي على جلدي.

عروقي… شعرتُ بها تحترق من الداخل، وكأن شيئًا ما يغلي في دمي.

اقتربت أكثر…

كنت على وشك أن تطأ قدمي أول بقعة مضيئة من ضوء القمر.

نصف أصبع فقط…

لكن فجأة…

انفجر الضوء أمامي.

ليس بصوت… بل بإحساس.

شعرت أن جلدي كله احترق.

كل الذكريات اشتعلت.

كل الوجوه التي رأيتها في حياتي… ذابت.

كل الأصوات… تحولت لصراخ.

كل شيء كنت أعرفه، أو أحبه، أو أكرهه… تلاشى.

وشعرت أني… لم أكن موجودًا.

و…

استيقظت.

بجسدي المبلل بالعرق…

على نفس غصن الشجرة.

لكن الليل كان قد اختفى.

وكان هناك نور أحمر في السماء… خافت…

وكأن شيئًا ما كان هناك…

ورحل.

لكن آثاره لم تختفِ.

نظرت إلى السماء…

وللحظة قصيرة جدًا…

ظننت أنني رأيت ظل القمر القرمزي

في عالم اليقظة.

...

...

كان العرق لا يزال يقطر من جبيني… رغم أن البرودة الخانقة كانت تحيطني.

نظرت إلى راحة يدي…

كانت ترتجف.

"ما كان ذلك…؟"

همست بصوت بالكاد يُسمع، لكن صدى كلمتي ارتدّ في ذهني مئات المرات.

كأن شيئًا بداخلي… رفض أن ينسى.

هززت رأسي، ثم مددت يدي نحو الخاتم الأسود في إصبعي.

خاتم الظلال.

أغمضت عيني للحظة، فاستجاب.

الفراغ تَشقق في الهواء أمامي، وكأن ستارًا من الليل تمزق ببطء، وخرجت منه الزجاجة السوداء.

زجاجة مصنوعة من عظام ملساء داكنة، تتوهج بخطوط حمراء كأنها تنبض ببطء…

رفعتها بهدوء إلى شفتي…

وما إن لامس الماء لساني… حتى شعرت بكل أعصابي تنكمش، ثم تنفجر بالارتياح.

بردٌ عميقٌ غلّف داخلي، كأن الكوابيس تجمدت… ولو للحظة.

الماء كان باردًا، نقيًا بطريقة غير طبيعية، وكأنه لم يكن مجرد ماء... بل شيء أكثر من ذلك.

أغلقت الزجاجة، وأعدتها داخل الخاتم.

ثم نظرت حولي.

غابة "كالديون" لا ترحم.

صمتها… أشد من الصراخ.

رائحتها… كأن شيئًا يُقتل كل دقيقة في مكان قريب.

والظلال فيها لا تتبع الضوء… بل تتبعك أنت.

لا يمكنني البقاء هنا.

لا أعلم السبب، لكن…

ذلك الحلم القرمزي ترك طعمه في الهواء.

وقفت ببطء، وبحذر.

نظرت أسفل الشجرة العملاقة…

ثم قفزت.

هبطت بلا صوت.

خطوات الظل… إحدى السمات النادرة التي زرعتها بنفسي في هذا الجسد.

بدأت بالتحرك…

الليل كان يرافقني، وأصداء أنفاسي كأنها تتحرك معي، لا ضدي.

خطواتي بلا صوت.

نفَسي محسوب.

نظراتي تتحرك من شجرة إلى صخرة إلى فراغ مظلم…

لكن حينها…

شيء تغيّر.

أرض الغابة… بدأت ترتجف.

مرة.

ثم مرتين.

ثم… ثالثة.

وكأن شيئًا ما… ضخمًا… بطيئًا… جائعًا… بدأ يتحرك.

ثم سمعت الخطوة.

واحدة فقط.

لكنها كانت كافية.

تشققت الأرض.

ليس من تحت قدمي فقط… بل من كل اتجاه.

صوتها كان كصرخة الأرض نفسها وهي تُمزق.

"اللع—"

لم أكمل.

اللحظة التالية…

اختفى كل شيء.

انهارت الأرض كأنها ورق.

لم أستطع حتى استخدام مهارة القفز أو الظلال…

كل شيء انهار تحت قدمي…

وسقطت.

لم تكن مجرد حفرة.

كان نفقًا.

لكن ليس كهفًا عاديًا.

الجدران كانت تتحرك.

كلما سقطت أكثر… شعرت بأن الجدران تتنفّس.

ليست حجرًا… بل لحمٌ حي مغطى بطبقة متحجرة.

وأخيرًا…

ارتطمت بالأرض.

ظلام دامس.

لكن الظلام هنا… له صوت.

نظرت حولي…

الجدران تقطر بسائل أحمر لزج.

الأرض… ليست حجرية، بل تشبه لحمًا متيبسًا.

الهواء لا يُتنفّس… بل يُبلع.

حاولت الوقوف…

لكنني سمعت الهمس.

"جاء…"

"جاء…"

"جاء!"

صدى غريب… قادم من كل اتجاه.

الأصوات كانت كثيرة… مختلفة… بعضها بَشري، بعضها ليس كذلك.

اللعنة…

أين أنا؟

نظرت إلى أعلى… لكن الفتحة التي سقطت منها قد اختفت.

لا طريق للعودة.

مشى ظلّ بجانبي…

لكنه لم يكن ظلي.

رأيت عينين… داخل الجدار.

تراقبني.

لكنها لم تتحرك.

أدركت الحقيقة القاسية…

هذا ليس كهفًا.

هذا فم.

فمٌ لجسد حي، عملاق… نائم منذ قرون.

وقد دخلتُ… إلى أمعائه.

"النفق الملعون…؟"

همست.

أسمع عنه فقط في القصص القديمة…

مكان يبتلع الناس، ثم يلفظ جلودهم بعد أيام.

ابتلعتُ ريقي.

كنت وحدي.

ولا طريق للخروج.

2025/04/24 · 14 مشاهدة · 1516 كلمة
Vicker
نادي الروايات - 2025