في تلك الليلة , لم أستطع أن أنام , أعاد إلي ظهور المبدعين نفس الاحساس قبل 8 أشهر , أحسست بأني عدت للحياة بعض شهور أمضيتها في سبات .
عدت لتأملاتي , ربما أكون الشخص الوحيد من السماة الذي اندهش من قرار المؤسس . قصدي أنه نحن السماة , و هذا اسم آخر اختاره المبدع 18 فيما بعد , نجسد الكمال المطلق , فلماذا الحاجة إلى بشر من العرق صفر أدنى منا في كل شيء ؟
لكن لم أكن لأعترض , فلقد كنت أتحرق شوقا للقائهم من جديد , و أن تتاح لي فرصة مراقبتهم و التعرف على كل واحد منهم.
بحثت في ملف المبدع 18 , كان شبه فارغ , مثله مثل ملفات المبدعين الآخرين , لم تكن فيه أي معلومات عن هويته , من أين جاء أو انجازاته , كل ما كان فيه صورة له , رقم تسلسلي يشكل عنوانه , و ذكر وجيز لمؤهلاته .
ما أدهشني أكثر هو نسبة ذكائه , كانت أعلى بقليل من الشخص العادي , لكنها أقل من نصف نسبة ذكاء أحد من السماة . ربما ستسمح له بحل بعد المعادلات التفاضلية البسيطة , لكنه سيقف عاجزا أمام أول معادلة لا خطية تواجهه , لم يكن حتى الأذكى بين المبدعين , أغلبهم كانوا يفوقونه بمراحل .
في تلك الليلة كذلك , كان من الممكن أن أتعرف على مهامنا الجديدة التي سنوكل بها في الغد , و كذلك فريق العمل , لكنني حاولت تجاهل هذه الفكرة و شغلت نفسي بالبحث في ملفات المبدعين . فشعور الدهشة منعش في الصباح .
القاسم المشترك الوحيد بين المبدعين هو أنهم بعمر الثمانية عشر مع اختلافات طفيفة , و كانوا 21 شابا و 9 فتيات , تقريبا كل واحد منهم تكلم لغة مختلفة , لذلك افترضت بأنهم ينحدرون من أصول مختلفة .
المبدع 18 هو الوحيد الذي تحدث العربية , أربعة آخرون تحدثوا الانجليزية , اثنان الفرنسية , لكن مع فروق واضحة في النطق .
في اليوم التالي , توجهت إلى المختبر , دخلت في نفس الوقت مع تسعة عشر فردا من إخوتي , أخذنا مكاننا , و بعد لحظات دخل المؤسس , يتبعه المبدع 18 .
خيل إلي أن المؤسس ما إن دخل حتى نظر مباشرة نحوي , كأنه كان يترقب ردة فعلي .
لم يدهشني انضمام المبدع 18 من بين المبدعين إلى الفريق الذي أنتمي إليه , ففي نفسي أخذته أمرا مسلما بعد كلماته : أتمنى أن نلتقي مجددا .
ثم الأمر ليس مدهشا إطلاقا إن احتسبنا الاحتمالات , فاحتمال أن يكون في فريقي هو واحد من 30 و الذي لا يعتبر أمرا نادرا حدوثه .
لكن أقلقني التغير البادي عليه . لقد اختفت الابتسامة البادية على محياه , و الآن تعلوه تلك النظرة ال... لا أجد نعتا مناسبا لوصفها , بدا مرتبكا , لم يرفع حتى عينيه عن الأرض .
بإشارة من المؤسس انطلق ليأخذ مكانه .
تملكني القلق . هل يمكن أن المؤسس قد عرف عن تواصلنا أو عن أبحاثي ؟ لا توجد قوانين تمنع البحث في ملفات المبدعين , لكنني شعرت بالذنب , كأنني ارتكبت خطيئة لا تغتفر . و أزعجتني فكرة أن المؤسس في تلك اللحظة , و هو يرمقني بنظراته , كان قريبا من أن يسألني عن السبب , بماذا كنت سأجيب ؟
ضرب المؤسس بكلتا يديه , ثم قال بصوت أحادي النبرة , و بلغة عربية , و كأنه يوجه كلامه للمبدع 18 فقط :
- أول مهمة لكم , ستشكل تحديا , ستحتاج منكم , العمل الجاد , الصبر و الابتكار . ستقومون بحل مشكلة الطاقة التي تزود الحاسوب المركزي بشكل خاص و المركز بشكل عام , و تطوير نظام التخزين , فحظا موفقا .
ثم غادر بسرعة . التفت إلى المبدع 18 , فوجدته على حالته , جالس في مكانه , حان رأسه , غارق في تأملاته . ربما كان جسده هناك لكن من يدري أين كان عقله , و الله أعلم ما أو من بدله بين ليلة و ضحاها .
بدأنا بمناقشة المشروع , تقديم الاقتراحات , و وضع برنامج للعمل , الكل شارك إلا هو فقد بقي في مكانه , في نفس الوضعية , بلا حراك , و عليها بقي لأربع ساعات التالية .
في وقت الغذاء , كان المكان صاخبا , و لم يكن السبب الستة مئة شخص من السماة و لكن المبدعون الثلاثون .
كانت أصواتهم مرتفعة , يأكلون و يضحكون , كان المبدع 18 يجلس بينهم , و كان واضحا على وجهه التوتر , و تكلف الضحك .
كانوا يجلسون في مجموعات , و البعض فرادى مثل المبدع 7 , شاب بملامح أسيوية , جلس بعيدا عنهم , كان سلوكه الأقرب لسلوك السماة .
الأكثر إزعاجا بينهم كان المبدع 1 , شاب طويل , قوي البنية , بوجه مستدير و وجنتين ورديتين . كان متبجحا و يتكلم بلغة فرنسية متكبرة , بصوت عال , مع كثير من المقاطع الغير مفهومة , و الذي كان بعض المبدعين ينهارون ضاحكين عليها .
حين سألت المبدع 18 بماهية تلك المقاطع , أخبرني بأنه يلعن النظام التعليمي الذي فرض عليه تعلم الفرنسية في كل مرة يفتح فيها المبدع 1 فمه . شرح لي بأن المقاطع كانت عبارة عن كلمات بذيئة , و لحسن حظنا لا يترجمها الحاسوب المركزي .
كان واضحا انتمائه لأحد الأسر البورجوازية التي بالغت في تدليله , حتى صار يعتقد بأن الكون لن يدور بدونه . وصلت به الوقاحة أن يسخر من المؤسس AE .
بعد الغذاء , عدنا لإكمال المشاريع . الفترة المسائية مخصصة للتجارب , بعدها حضرنا محاضرة .
المحاضرة الأولى قدمها المؤسس 1-15 بنفسه , تحدث فيها عن المشاريع , و شرح فيها النظام المتبع داخل المركز .
اليوم التالي بدأ بالتمارين الرياضية في الصالة , بعدها مناقشة المشروع , دون أي تغيير في حالة المبدع 18 , ثم الغذاء و نفس الضجيج , بعدها عدنا للعمل , ثم المحاضرة , التي ألقاها هذه المرة المبدع 1 , الذي تحدث بتعال , و نسب جميع الأفكار الجيدة لنفسه دون استحياء , كأنه الوحيد في الفريق .
كان مشروعهم حول إتمام العمل بمفاعل اندماج نووي , بدأ عليه العمل منذ فترة المؤسس 1-15 , و هو الآن في مرحلته النهائية .
في اليوم الرابع , كان التحسن الوحيد في حالة المبدع 18 , أنه على الأقل صار يتابعنا بنظراته , ينظر بنصف عين إلى كل متدخل منا , لكنه لم يتجاوب مع المشروع إطلاقا .
في الأيام التي تلت لم يحدث تغير كبير , غير أني , ليس لمرة , لاحظت تحركات المبدع 18 , كان كأنه يحاول أن يتدخل , لكن في كل مرة يتراجع , أردت أن أساعده , لكني لم أعرف كيف .
لكن في اليوم 17 , حدث تغير مهم . في منتصف الفترة الصباحية انحنى المبدع 18 على الشاشة اللمسية أمامه , و بدأ يحرك أصابعه عليها , كأنه يلعب , راقبته ثم نظرت للشاشة أمامي وجدت عليها هذه الأرقام : 384838098788 . سلسلة من الأرقام ظننتها عشوائية , نظرت إليه , و بدون أن يرفع عينيه عن الشاشة , ابتسم , نفس الابتسامة التي أبصرتها في حفل البلوغ .
أدركت حينها أنها شيفرة من نوع ما , رسالة أو ربما مفتاح أو حتى إحداثيات .
جربت جميع الاحتمالات , أولا بحث في السجلات , ثم قمت بفك الرقم لعوامل أولية و قمت بتحليلها , لكن بلا جدوى , ثم فكرت بأن الأرقام ربما تعود على أحرف , و من المرجح أن تكون عربية , جربت شتى الاحتمالات , بعضها أعطى نتائج مقبولة , لكنها بدون معنى في سياقنا .
في المساء , جلست أفكر فيها , و أكرر هذه السلسة مرارا و تكرارا , ثم لمعت في ذهني فكرة .
تذكرت كلماته . السلام عليكم هي المفتاح .
عدد الأحرف , باحتساب المساحة , هو نفسه عدد الأرقام . ربطت بين الأرقام و الحروف , ثم تذكرت الجهاز من ذكرياته الذي بقي شكله البدائي عالقا بذاكرتي . تطلب مني بضع لحظات لكي أفهم الشيفرة كاملة , بقيت لمدة أتساءل إن كان علي أن أرسل رسالة إليه باستعمال الشيفرة أو أنتظر حتى الغد , ثم وردتني رسالة منه فيها : 9809482803854382 , و تعني : هل وصلتك الرسالة .
أجبت 368 : أجل .
رد 88235 : ممتاز .
و دار بيننا الحوار التالي , و الذي رغم قصره , استغرق منا الكثير من الوقت و الجهد .
يسهل تشفير رسالة باستعمال هذه الشيفرة , لكن فك التشفير يستغرق الكثير من الوقت , كما أن كل كلمة يمكن تشفيرها بطريقة واحدة تحتمل عددا كبيرا من التفسيرات .
سألته :
- من أنت ؟ من أين جئت ؟ ما اسمك ؟
لسبب أجهله فقد أرقتني هذه الأسئلة رغم علمي أن معرفة الجواب عنها لن ينفعني في شيء .
- لا تستعجلي ... أنا كذلك لدي الكثير من الأسئلة , كما أن اليوم هو فقط لاختبار الشيفرة .
- قل لي فقط ما اسمك ؟
- حسنا , حسنا ... اسمي 8685 أنا من بلد يدعا 388952 .
المشكلة في هذه اللغة هي أنها تعطي العديد من الاحتمالات لكلمة واحدة , ف 8685 يمكن تفسيرها ب : لحمر , مخلد , كجلر ... و بما أن أسماء الأعلام بلا معاني عادة لم أستطع أن أحدد اسمه , كذلك اسم البلد .
كان الحوار في البداية صعبا يتطلب استعمال عبارات محددة وأن تكون أبسط ما يكون , لكن سرعان ما كونا دون أن ندري قاموسا من المفردات خاصا بنا .
إن قوة هذه الشفرة لا تتمثل في طريقة التشفير , و حتى مع معرفتها من الصعب فك شيفرة رسالة , فمفتاح شفرة معينة عادة ما يكون كلمة أو جملة أو مجموعة من الرموز , لكن هذه الشيفرة تتميز بأن المفتاح هو ذلك القاموس الذي يتشكل بطريقة فريدة بين كل شخصين يستعملانها .
بداية تطلب منا تكرير الخطاب عدة مرات , إعادة صياغته في كل مرة حتى يفهمه الطرف الثاني , لتجنب أي سوء فهم . لذلك سيكون مكلفا أن أنقل ما دار بيننا كما كان , لذلك سأحاول تلخيصه في بضعة أسطر :
أخبرني بأن المؤسس بعد حفل البلوغ لسبب يجهله منعه من التحدث إلي و مع ذلك , لسخرية القدر , وضعنا في نفس الفريق .
سألته إن كان هذا السبب الذي منعه من أن يشارك في النقاش و نبهته بأنه بقي يوم على دوره في إلقاء المحاضرة , جاء جوابه مضطربا و قال بأن لديه فكرة يمكن أن تفي بالغرض , سألته عنها لكنه أجاب بأنه يصعب عليه تفسيرها باستعمال الشيفرة .
استمر الحديث حتى وقت متأخر , و أنا أعاند النعاس , رغم ذلك لم نتبادل سوى بضع جمل , لكني لم أكن لأشتكي من شيء , فلقد صار عندنا قناة للتواصل , و صرت أحلم في تلك الليلة بكل سذاجة بأن هذه القناة ستمتد لتشمل آخرين .