في اليوم الثامن عشر , رأيت المبدع 18 يمشي ذهابا و إيابا في صالة الرياضة .
كان هذا دأبه منذ عدة أيام . في الأيام الأولى كان يقوم بالتمارين كما هو مطلوب , لكن بعد أن لاحظ بأن المبدعين الآخرين لا يلقون بالا لها , تركها هو كذلك .
يمشي بخطوات سريعة , ينظر إلى الأرض , غير مبال بما يجري حوله , حتى أنه لم يرى كرة متجهة نحوه , ضربته على كتفه , و جعلته يميل حتى كاد يسقط . جعلني هذا الحادث أدرك مدى وهنه , و ضعف جسده النحيل جدا , الواضح بأنه ليس جسد رياضي .
التقط الكرة , و التفت ليرى من رماها , فوجد جماعة المبدع 1 يضحكون و هم يشيرون إليه بأن يرمي الكرة , ابتسم في وجههم , همهم بكلمات لم يسمعها غيره , ثم مال للوراء و هو يهم بأن يرمي الكرة .
في اللحظة التي فارقت فيها الكرة يده أبصرت الغضب في وجهه , يعض على شفته السفلى , عاقدا حاجبيه و عيناه ترميان شررا .
التقط المبدع 4 الكرة , و رغم أنه التقطها بسهولة , إلا أنه تراجع بحركات مسرحية , كأن زخم الكرة يدفعه للوراء , ثم اصطدم برجل المبدعة 11 و هوى على الأرض .
انفجر المبدعون ضحكا , أما المبدع 18 فعاد إلى تأملاته كأن شيء لم يكن , دون أن يبالي بالشجار الذي تلى تلك الحادثة .
حينها لم أكن مدركتا لما يجري , كنت فقط أراقب المبدعين من مكان مرتفع , من فوق سوري العاجي , إن صح هذا التعبير في هذا السياق , دون أن تحرك في تصرفاتهم شيء , كمن يراقب تصرفات حيوانات أدنى منه شئنا , لا تحرك في أي إحساس غير الفضول و الدهشة أحيانا .
بعدها توجهنا إلى المختبر , بدأنا نناقش المشروع , و قد تناسينا وجود المبدع 18 بيننا , حتى أن لا أحد ذكر المحاضرة .
كنت أراقبه , كان يتحين الفرصة ليشارك , بدى عليه التوتر , و كنت لأقسم بأنني في تلك اللحظة كنت قادرة على سماع دقات قلبه , و ارتجاف ركبتيه .
أردت أن أشجعه فكتبت على اللوحة 842951 و أرسلتها إليه و تقول : مستعد؟ .
نظر في اتجاهي دون أن يرفع رأسه , ابتسم , رددت الابتسامة , لكنه ربما لم يراها لأنه توقف فجأة , ثم بهدوء توجه إلى المنصة و أعين الجميع عليه , رفع عينيه إلى الشاشة أمامه , فبدت عليها خطوط و أشكال عشوائية , أغمض عينيه و أمسك برأسه في وضعية تيسلا في الصور , اسم طريف يحب أن يسميها به , و بدأ يحرك رأسه لأعلى وأسفل كأنه يحاول تذكر شيء نسيه .
استغرق في تأملاته حتى بدت أسنانه الأمامية البارزة بعض الشيء .
تدارك الأمر فسارع في اغلاق فمه , ثم نظر إلينا بعيون فارغة . لم يكن ينظر لشخص أو شيء بالتحديد و لكن كأنما يحاول النظر إلى القاعة بأكملها .
كتبت على الشاشة عبارة : بطارية التيار المتناوب و تحتها رسم تخطيطي .
ثم قال بسرعة , كمن يستحضر خطبة حفظها عن ظهر قلب :
- لقد تقدمتم كثيرا في المشروع , و أعرف أن الوقت ليس مناسبا لتغييره , لكن ...
توقف قليلا , ثم أكمل بكلمات متقطعة و بنبرة منخفضة :
- لكن ... لدي هذه الفكرة ... إنها ستحل الكثير من المشاكل مثل مشكلة طاقة الحاسوب المركزي , و ... و كذلك ستعوض البطاريات الموجودة في الشرائح ( و أشار لرأسه ) أعرف بأنها تبدو غبية ( ثم بصوت أكثر ثقة ) تذكروا قول ألب... أقصد المؤسس AE : إذا لم تكن الفكرة غب... عبثية ...من الأول عبثية ...فلا أمل منها .
قال ليفا 7-367 AE :
- هلا شرحت قصدك ؟
- تخيلوا معي لو أن بطارية كهذه ( و بدت على الشاشة بطارية عادية ) قادرة أن تشحن و تفرع بسرعة , بتردد عال ...
قاطعه كانا 7-524 AE :
- لكن هذا سيحتاج عكس الأقطاب و تدوير الجهد بينهما ؟
أضافت يورا 7-552 AE :
- سيحتاج كذلك كمية من الطاقة أكثر مما يمكن أن تنتجه البطارية .
و تدخل ليفا :
- بالإضافة إلى أن عمر البطارية يحسب بعدد دورات الشحن و التفريغ , بطارية كما ذكرت ستموت بسرعة تتناسب أسيا مع تردد الدورات .
قال المبدع 18 و قد التمع وجهه حماسا :
ثم شرع يعد فوائد مثل هذا الاختراع .
قاطعته ميتا 7-127 AE :
- ما هو التفاعل أساس هذه البطارية ؟
- لا أعرف .
قال لادا 7-056 AE :
- ما المواد التي تفكر في استعمالها ؟
- لم أفكر في ذلك بعد .
سأل آخر :
- كم تقدر عمر هذه البطارية ؟
- صراحة , لم أحتسب ذلك .
و انهالت عليه الأسئلة التي استنفدت منه جمل التعبير عن الجهل , لاحظت حرصه على عدم تكرير ذات التعبير مرتين .
ثم عم السكوت لبرهة .
بعدها قال في تردد :
- منذ استيقظت في المركز و أنا أتساءل إن كنت أستحق هذه المكانة , فأنا لم أفعل شيء لأحصل عليها , لم أفهم سبب اختياري لأكون معكم , فأنتم أناس مثاليون , و نحن مجرد همج , و أنا مجرد ... نكرة . ربما كنت أدعى متفوقا في حياتي السابقة , لكن معايير هنا التفوق تختلف عن هناك . هناك كنت أعد أيامي الأخيرة قبل أن أبلغ اللحظة التي أتخلى فيها عن كل طموحاتي لأعيش حياتي في أفضب الأحوال كما يعيشها 6 ملايير شخص , و الآن من المفترض أن أكون قائدكم . قبل أن آتي إلى هنا ببضعة شهور فقط , كنت محظوظا بأن أقرأ عن شخص اسمه عبد الله بن ياسين . عبد الله بن ياسين كان طالب علم , لم يطلب شيء من الحياة , لكن عندما أخبره شيخه بأن يرافق أحد شيوخ القبائل إلى الصحراء الكبرى ليعلم أهلها , لم يتردد و وافق , و بعدها بسنوات صار مؤسس أحد أكبر الامبراطوريات . أنا لا أدعي بأني مثله , فأنا لست بمثل قوته , شجاعته , و ورعه و منذ اللحظة التي أخبرني المؤسس فيها بمهمتي , و أنا أحاول بأن أقنع نفسي بأنني قادر , و أنها مجرد فرض مدرسي عادي . ربما نجحت لبعض الوقت في خداع نفسي , لكن منذ اللحظة التي جلست فيها في ذلك المكان , أدركت بأنني لا أستطيع , و لا أستحق بأن أكون قائدكم . فأنتم تجسيد للكمال المطلق , واحد منكم يملك من المعرفة أكثر من جميع العلماء في عالمي . تستطيعون تحقيق المستحيل . إن كانت ستوجد نظرية لكل شيء , أو أن قوانين الكون تسمح بوجود آلات للزمن , أو تخترع طرق للسفر أسرع من الضوء ... فأنا موقن بأن ذلك سيحدث هنا . أنتم تملكون حجر الفلاسفة , تستطيعون تحويل الرصاص إلى ذهب , لكن هناك شيء واحد يمنعكم , هو أنكم ... مقيدون بالمنطق و الأنماط كالآلات ...
سكت برهة و نظر إلينا كأنه ينتظر ردا من شخص أهانه , لكننا بلا مشاعر ليجرحها , ثم أكمل محاولا أن يصرخ بأعلى صوت , لكن بالنسبة لشخص ذي صوت جد منخفض أساسا , صوته كان بالكاد مسموعا حينها :
- لذلك تحرروا من هذه القيود , و ساعدوني على تحقيق هذه النزوة التي انتابتني ...
قاطعه صوت تصفيق خجول , دون أن أحس وجدت نفسي أصفق , اتبعني آخرون , ثم الجميع صار يصفق بعصبية و بصوت منخفض . سكت المبدع 18 و بدأ لون وجهه يتغير للأحمر .
لم يرتح أحد لهذا الموقف , كان غريبا علينا , حتى أني لا أعرف ما الذي دفعني لمثل هذا الفعل , و لا أعتقد أحدا من السماة عرف الغاية أو الجدوى من هذا السلوك , ربما أحسسنا بضرورة مكافأة المبدع 18 على مجهوده .
و من حسن الحظ , أن تصادفت هذه اللحظة مع وقت انتهاء الحصة الصباحية , انصرف الجميع بانتظام في وقت واحد , إلا المبدع 18 , لعله تأخر حتى تزول عن وجهه أمارات الخجل .
في الممر التقيت بالمؤسس 1-15 , التفت بحذر أراقبه , و الفضول يقتلني .
في اللحظة التي وصل فيها إلى باب المختبر , التقى بالمبدع 18 خارجا , ثم سارا معا في الاتجاه المعاكس .
في ذلك اليوم , غاب المبدع 18 وقت الغذاء , و تأخر لخمسة عشر دقيقة عن الفترة المسائية .
اعتذر ثم أخبرنا بأن المؤسس اقترح عليه بعض الأفكار , ثم شرعنا في مناقشتها و اختبارها .
كانت لدينا تلك الحصة و حصتي الغد للاستعداد للمحاضرة , لكن كل شيء صار مختلفا بعد ذلك اليوم . المبدع 18 بحذر و تحفظ شديدين بدأ بإظهار شخصية مختلفة . صار أكثر انفتاحا , و لم يتردد في تقديم اقتراحات , أو الانتقاد بأدب شديد أفكارنا . و كنا كلنا , و ربما خيل لي ذلك , متحمسين . على الأقل أنا متأكدة من حماسي حينها .