الأيام تمرّ بطيئة، وكأنها تسير على أطراف أصابعها، تهمس في أذنيّ دون أن تحمل معها أي إجابة. خمسة أيام؟ ستة؟ فقدت العدّ. كل ما أعرفه أنني محاصرة داخل رأسي، داخل جسدي المتعب، بينما الآخرون يرونني مجرد فتاة أصابتها وعكة صحية عابرة.
"مجرد إنفلونزا، بعض الحمى والصداع"، هذا ما يظنونه. لا أحد يرى الحرب التي تدور داخلي. لا أحد يسمع الأصوات المتداخلة، أو يرى الوجوه الضائعة التي تلوح لي من الظلام، ثم تختفي قبل أن أتمكن من الإمساك بها.
في الخارج، كل شيء طبيعي. أمي المزيفة تحضر لي الحساء، أبي المزيف يطمئن عليّ بين الحين والآخر، وزملائي في المختبر يرسلون رسائل قصيرة يتمنون لي الشفاء. لكن في الداخل... لا شيء طبيعي.
أشعر وكأن رأسي يحترق، ليس من الحمى، بل من الذكريات التي تحاول شقّ طريقها عبر الضباب الكثيف. إنها هناك، قريبة جدًا، أستطيع أن ألمس أطرافها، لكن بمجرد أن أحاول الإمساك بها، تتلاشى كالدخان.
أنا لست بخير.
في الليل، حين يخيّم السكون على المنزل، أستلقي في الظلام، أستمع إلى أنفاسي المتوترة، وأراقب ظلال السقف تتراقص مع ضوء القمر. في كل مرة أغمض عينيّ، أرى مشاهد متقطعة، أسمع أصواتًا غريبة، أعيش لحظات لا أذكرها لكنني أشعر بها في أعماقي.
"تونه..."
صوت، مألوف... لكنه غريب. عميق، ثقيل، يحمل داخله شيئًا يشبه الحنين، أو الحزن، أو ربما الحب.
أفتح عينيّ بسرعة، أنفاسي متسارعة. لا أحد هنا. الغرفة ساكنة، لكن الصدى لا يزال يرنّ في أذنيّ.
أحاول الوقوف، لكن الدوار يضربني بقوة، فأعود إلى السرير، أضغط بأصابعي على صدغيّ وكأنني أحاول منع رأسي من الانفجار.
كل شيء مشوّش، كأنني عالقة بين عالمين. هذا العالم، الذي يفترض أنه عالمي، لكنه يبدو غريبًا عني. وعالم آخر... عالم لا أستطيع تذكره، لكنني أشعر أنه يناديني.
هناك شخص ما... شخص ينتظرني.
لكن من هو؟ ولماذا أشعر أنني إذا تذكرت، فإنني سأحترق بالكامل؟
الليل طويل... أطول مما يجب. أشعر أنني أسبح في بحر من الظلام، كل موجة تحاول سحبي نحو قاع مجهول. جسدي مرهق، لكن عقلي مستيقظ، يركض في دوائر، يحاول الإمساك بشيء... بأي شيء.
أغمض عينيّ
هذه المرة، لا أستيقظ في غرفتي.
هناك ضوء خافت، أزرق شاحب، كضوء القمر المنعكس على سطح مياه راكدة. الهواء من حولي ثقيل، يحمل رائحة معدنية غريبة.
أنا في مكان آخر.
أقدامي حافية، تلامس أرضًا باردة ملساء، كأنني أقف على زجاج. لا جدران، لا أبواب، فقط فراغ يمتد بلا نهاية.
وفجأة، هناك صوت.
"تونه..."
ذلك الصوت مرة أخرى.
ألتفت بسرعة، أنفاسي متقطعة.
هناك رجل يقف على بعد خطوات. طويل القامة، يرتدي معطفًا أسود طويلًا، شعره الفضي يتوهج تحت الضوء الخافت. عيناه... عيناه تشبهان عاصفة صامتة، تموج بالأسرار.
سايلوس.
أعرفه.
لكن كيف؟ ولماذا عندما أنظر إليه، أشعر بشيء يشبه الألم، لكنه ليس ألمًا جسديًا... بل شيء أعمق، شيء يشبه الحنين الممزوج بالخوف؟
أتراجع خطوة. هو لا يتحرك، فقط ينظر إليّ كما لو أنه ينتظر مني شيئًا.
"من أنت؟" صوتي يخرج ضعيفًا، مترددًا.
يرفع حاجبه قليلا . كما لو أن سؤالي كان غير متوقع. يخطو نحوي، بهدوء يشبه نصلًا يقترب من الجلد دون أن يجرحه بعد.
"أنا من كنتِ تعرفينه قبل أن تنسي."
نبضات قلبي تتسارع. هناك شيء في كلماته يوقظ شيئًا داخلي.
أتذكر... لا، ليس بالكامل. لكنه هناك، خلف الضباب.
"لماذا أشعر أنني أعرفك؟"
يقترب أكثر، حتى أصبح قادرة على رؤية الخطوط الدقيقة حول عينيه، آثار السنين التي مرّت عليه.
"لأنكِ تعرفينني، تونه. لكنكِ نسيتِ."
الضباب في رأسي يضطرب، كأنني على وشك أن أتذكر، على وشك أن أرى الصورة كاملة... لكن فجأة، شيء ما يسحبني للخلف.
الفراغ يتكسر، الضوء الأزرق يتحول إلى ظلام، وصوت سايلوس يتلاشى.
أفتح عينيّ بصدمة، ألهث كمن خرج لتوه من تحت الماء.
أنا في غرفتي.
العرق يبلل جبهتي، قلبي يضرب صدري بجنون.
كان حلمًا.
لكن... لم يكن مجرد حلم.
أضع يدي على رأسي، وأشعر بالنبضات المؤلمة التي تدق في جمجمتي.
شيء ما بداخلي يتحطم.
أنا أعرفه. أعرفه.
لكن لماذا عندما أحاول التذكر، أشعر أنني سأحترق بالكامل؟
لا أحد يشعر بما يحدث داخلي. لا أحد يدرك أنني في حرب دائمة مع عقلي، مع نفسي، مع تلك الصور التي تظهر فجأة وتختفي قبل أن أتمكن من الإمساك بها.
منذ أيام، وأنا أعيش في ضباب. ظاهريًا، أبدو كما كنت دائمًا—الفتاة العادية التي تعمل في المختبر، تقضي وقتها مع أصدقائها، تعود إلى منزلها لتناول العشاء مع عائلتها. لكن داخليًا، أنا شيء آخر.
هناك رجل يظهر في أحلامي. رجل غريب... لكنه ليس غريبًا تمامًا. عيناه، صوته، وجوده... كلها تثير داخلي إحساسًا غريبًا، إحساسًا مألوفًا لكنه بعيد، كأنني أراه من وراء زجاج ضبابي.
سايلوس.
أخبرني أنني أعرفه. أنني نسيته. أنني عشت حياة أخرى قبله.
لكن كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ كيف يمكن أن تكون حياتي مجرد وهم؟
أضع رأسي بين يدي، وأحاول ترتيب أفكاري، لكنها كخيوط متشابكة، كلما حاولت فكّها، ازداد تعقيدها أكثر.
هل جننت؟
ربما... ربما هذه مجرد أوهام.
لقد كنت ألعب لعبة إلكترونية، وجدتُها بالصدفة أثناء تصفحي للإنترنت. لعبة لم أسمع عنها من قبل، لكنها جذبتني بشكل غريب. كنت أتحكم بشخصية تعيش في عالم مستقبلي، وتتواصل مع رجل يُدعى "سايلوس"، قائد منظمة غامضة.
كنت ألعب بها لساعات متواصلة، حتى أصبحت أراها في أحلامي.
إذن، هذا كل ما في الأمر، أليس كذلك؟ مجرد تأثير نفسي، خيال تسببت فيه كثرة اللعب؟
لكن إذا كان الأمر كذلك... لماذا كل شيء يبدو حقيقيًا جدًا؟ لماذا عندما أنظر إلى سايلوس في أحلامي، أشعر أنني أعرفه أكثر مما أعرف نفسي؟
أقف أمام المرآة في غرفتي، أحدق في انعكاسي.
أنا تونه. فتاة عادية. لدي حياة، لدي ماضٍ واضح. درست، كافحت، عملت بجهد لأصل إلى ما أنا عليه الآن. لدي عائلة تحبني، أصدقاء يعرفونني منذ الطفولة.
إذن، كيف يمكن أن يكون كل هذا كذبًا؟
أغمض عيني، وأتنفس ببطء.
في رأسي، تنبض الصور من جديد.
... أركض في ممرات مظلمة، أسمع أصواتًا بعيدة تناديني باسمي...
... يدي مغطاة بالدماء، لكنني لا أشعر بالخوف، بل بالغضب...
... يدان قويتان تمسكان بي قبل أن أسقط، وصوت مألوف يهمس باسمي...
... "تونه، لا تنسي. لا تنسي من أنتِ."
أفتح عيني بسرعة، وأضع يدي على قلبي الذي ينبض بجنون.
لماذا أشعر أنني أعيش في جسد لا ينتمي إليّ؟
-------