في اليوم التالي، أقرر التصرّف وكأن شيئًا لم يحدث.
أرتدي معطفي، وأتوجه إلى المختبر.
كل شيء يبدو طبيعيًا. زملائي يلقون التحية، أنا أبتسم، أدخل إلى مكتبي وأبدأ العمل.
لكن عقلي لا يتوقف عن التفكير.
ألاحظ أنني أصبحت أراقب كل شيء حولي بطريقة مختلفة. أبحث عن أي دليل يؤكد لي أن حياتي حقيقية.
أمسك هاتفي، وأفتح صوري القديمة. صور طفولتي، عائلتي، أعياد الميلاد، الرحلات...
لكن، ماذا لو كانت هذه الصور مزيفة؟ ماذا لو لم تكن هذه حياتي الحقيقية؟
أشعر بالقشعريرة تزحف عبر جلدي.
"تونه، هل أنتِ بخير؟"
أرفع رأسي بسرعة. صديقتي سارة تنظر إليّ بقلق.
أجبر نفسي على الابتسام.
"أنا بخير، فقط لم أنم جيدًا."
هي تراقبني لثانية، كأنها لا تصدقني، لكنها تهز كتفيها وتعود إلى عملها.
أنا أيضاً أعود إلى العمل، لكن لا شيء يبدو كما كان.
عندما أعود إلى المنزل، أقرر أن أنام مبكرًا.
أستلقي على السرير، وأحاول منع نفسي من التفكير.
لكنني أعرف أنني سأراه الليلة.
وأنا محقة.
أنا في المكان المجهول مجددًا.
لكن هذه المرة، سايلوس ليس بعيدًا عني. يقف أمامي مباشرة، عيناه تراقباني بصمت.
لم أعد خائفة كما كنت من قبل.
"تونه..."
صوته عميق، يحمل شيئًا يشبه الحزن.
"هل تذكرتِ؟"
أتردد. لا أعرف الإجابة.
"أنا... لا أعرف. هناك أشياء في رأسي، لكنها مبعثرة."
يتقدم نحوي ببطء.
"أنتِ تحاولين مقاومة الحقيقة."
أنظر إليه بحدة.
"أي حقيقة؟ أن حياتي كذبة؟ أن كل شيء عرفته مجرد وهم؟ كيف تتوقع مني أن أصدق هذا؟"
هو لا يرد مباشرة، فقط يراقبني بعينيه العميقتين.
"أشعر بكِ، تونه. أشعر بصراعكِ."
أشعر بضغط في صدري، كأن الهواء أصبح أثقل.
"هل تعرف كم هو مرعب أن تشكك في كل شيء؟ أن تستيقظ ولا تعرف من تكون؟"
أخفض رأسي، وأهمس:
"أنا خائفة، سايلوس."
هناك لحظة صمت، ثم أشعر بيده تلامس كتفي برفق.
"أعلم."
أرفع عينيّ إليه، وأجد في نظرته شيئًا يجعلني أرغب في التصديق.
"لكن الخوف لن يغير الحقيقة، تونه. مهما حاولتِ إنكارها، ستظل هنا، بداخلكِ."
أبتلع ريقي، وأشعر أنني على حافة شيء عظيم، شيء سيغير كل شيء.
لكن هل أنا مستعدة لمعرفة الحقيقة؟
------
أستيقظ مرة أخرى.
لكن هذه المرة، لا أشعر أنني نفس الشخص الذي كنت عليه بالأمس.
اليوم مختلف. أشعر بذلك قبل أن أفتح عيني.
هناك شيء ثقيل في صدري، ليس خوفًا، بل إدراكًا يتسلل إليّ ببطء، مثل أشعة الشمس التي تشق طريقها عبر ستائر الغرفة المغلقة.
أتدحرج على السرير، أحدق في السقف.
كل ليلة، كنت أقاومه. أرفض كلماته، أرفض تصديق ما يخبرني به. لكن الحقيقة لم تعد مجرد كلمات عابرة. أصبحت صورًا تملأ رأسي، أصواتًا تتردد داخلي، مشاعر تفيض من أماكن لم أكن أعلم بوجودها.
أشعر بها.
أتذكر لمحات من شيء... لا، من حياة.
في الصباح، أجلس على طاولة الإفطار مع عائلتي.
أراقبهم بصمت.
والدتي تضع طبق الطعام أمامي بحركة آلية، كما تفعل كل يوم. والدي يطالع الجريدة، يرفع نظره نحوي للحظة، ثم يعود إليها.
كل شيء يبدو طبيعيًا. لكنني لم أعد أرى الأشياء كما كنت أراها من قبل.
كم سنة عشت معهما؟ منذ متى بدأت ذكرياتي هنا؟ هل هناك لحظة بداية واضحة؟
أفكر في صوري القديمة. في طفولتي.
لا شيء يبدو خاطئًا، لكنه أيضًا لا يبدو صحيحًا تمامًا. كأنني أنظر إلى لوحة جميلة، لكن عندما أقترب منها، أجد أنها مجرد خدعة بصرية، مجرد ألوان متداخلة بلا معنى.
"تونه؟"
أنتفض عندما يناديني والدي.
"هل أنتِ بخير؟ تبدين شاحبة."
أجبر نفسي على الابتسام.
"أنا بخير، فقط لم أنم جيدًا."
كذبة. أصبحت جيدة في قولها.
-----
في المختبر، أشعر بالاختناق.
الأضواء الفلورية، صوت الأجهزة، حديث زملائي من حولي—كل شيء يبدو مزعجًا بشكل غير طبيعي.
أشعر أنني غريبة هنا. أنني لستُ من هذا المكان.
قبل أيام، كنت أعتقد أن هذا الشعور مجرد تعب أو قلق. لكن الآن، أعرف أنه أكثر من ذلك.
أفكر في اللعبة.
هل كانت لعبة فعلًا؟
لماذا عندما أفكر بها الآن، أشعر أنني أرى نفسي فيها؟ لماذا تبدو تفاصيلها أقرب إلى ذكريات من كونها مجرد قصة رقمية؟
أشعر بوخزة في رأسي.
أغلق عيني، وأتنفس ببطء.
لكن الصور تضربني كعاصفة.
... أصوات إطلاق نار...
... صراخ شخص ما يناديني...
... ممرات طويلة تحت الأرض...
... رجل يقف في الظل، عيونه تلمع بشيء يشبه الحزن...
أفتح عيني بسرعة، وأجد نفسي واقفة، يداي ترتجفان.
سارة تقترب مني بقلق.
"تونه، هل أنتِ بخير؟"
هذه المرة، لا أجد القوة للكذب.
"لا أعرف، سارة... لا أعرف."
في الليل، لا أحاول مقاومة النوم.
أريد أن أراه.
وأراه.
أنا في عالم ليس بعالم، مكان بين الحقيقة والحلم.
سايلوس ينتظرني، كعادته.
لكن هذه المرة، لا أشعر بالضياع كما كنت من قبل.
"بدأتِ تتذكرين."
إنها ليست جملة استفهامية. هو يعلم ذلك. وأنا أعلم أنه محق.
أقترب منه خطوة.
"لا زلت لا أفهم كل شيء، لكن... هناك شيء داخلي يخبرني أنني كنت هنا من قبل."
يتأملني بصمت، قبل أن يقول بهدوء:
"أنتِ لا تتذكرين فقط، بل أنتِ تشعرين بذلك أيضاً."
أشد قبضتي، وأشعر بالغضب يتصاعد داخلي.
"لماذا لم تخبرني بكل شيء مباشرة؟ لماذا تركتني أتخبط هكذا؟"
ينظر إليّ بعيونه حمراء اللون العميقة، كأن كلماتي تؤلمه.
"لأنكِ إذا عرفتِ الحقيقة دفعة واحدة، لن تتحمليها."
شيء ما في صوته يجعل قلبي يخفق بقوة.
"إذن، الحقيقة قادمة؟"
هو لا يرد. لكنه لا يحتاج لذلك.
أنا أعرف.
أنا أشعر.
العالم الذي كنت أعيش فيه... ليس العالم الذي أنتمي إليه.
جلستُ على حافة الجرف الصخري، قدماي تتدليان فوق الفراغ، والموج تحتي يضرب الصخور بعنف، كأنه يحاول التهام كل شيء يقف في طريقه. كان النسيم البارد يعبث بشعري، يحركه في جميع الاتجاهات، لكنني لم أشعر بالبرد. على العكس، كان هناك دفء غريب يحيطني، رغم أنني لم أكن أرتدي سوى فستان خفيف بالكاد يحميني من الريح.
إلى جانبي، جلس سايلوس بصمت.
لم يكن يتكلم كثيرًا عندما نكون هنا، لكنه كان حاضرًا بقوة، كأنه جزء من هذا المكان، من الحلم ذاته.
نظرتُ إليه، محاولِةً استجماع شجاعتي لسؤاله عن شيء كان يزعجني منذ مدة.
"كيف تستطيع السيطرة على الأحلام؟ كيف تجعلني أراك كل ليلة؟"
التفتَ إليّ ببطء، عيناه تلمعان تحت ضوء القمر المنعكس على سطح البحر المتلاطم. ثم ابتسم، لكنها لم تكن ابتسامة ساخرة أو متعجرفة كعادته، بل كانت هادئة، حزينة قليلًا.
"أنا لا أسيطر على الأحلام، تونه... أنتِ من يفعل."
تجمدتُ في مكاني، أحدق فيه بعدم تصديق.
"ماذا؟"
أطلق ضحكة خافتة، نظرته ثابتة عليّ، كأنه يراقب ردة فعلي بحذر.
"لطالما كانت لديك هذه القدرة، حتى لو لم تدركيها. أنتِ من تجذبيني إلى هنا، أنتِ من تفتحين الأبواب بين العوالم، من تخلقين هذا المكان."
أشعر بصداع خفيف يتسلل إلى رأسي.
"لكن... هذا مستحيل. لا يمكنني فعل ذلك، أنا مجرد..."
توقفتُ، لأنني لم أكن أعرف كيف أكمل الجملة.
مجرد ماذا؟
مجرد فتاة عادية؟ لا، لم أعد متأكدة من ذلك.
مجرد إنسانة تعيش حياة طبيعية؟ لكن حياتي لم تعد تبدو طبيعية أبدًا.
سايلوس أمال رأسه قليلًا، كأنه يعطيني وقتًا لأفكر، قبل أن يتحدث بصوت هادئ:
"لقد أخبروكِ أن هذا العالم هو حلم، أليس كذلك؟"
هززتُ رأسي، ما زلتُ مشوشة.
"نعم، حلم... لكنه يبدو حقيقيًا جدًا."
"لأنه كذلك."
حدقتُ فيه بعينين متسعتين، في محاولة لفهم كلماته.
"الحلم والواقع ليسا كما تعتقدين، تونه. ليس هناك خط واضح بينهما، بل هما متداخلان. أحيانًا، الحلم يصبح أكثر حقيقة من الواقع نفسه."
ابتلعتُ ريقي بصعوبة، أنظر إلى البحر الممتد أمامي.
"إذن... أنت تقول إنني أستطيع الانتقال بين العوالم؟ أنني أستطيع التحكم بالأحلام؟"
"ليس فقط الأحلام."
نظرتُ إليه بسرعة، ملامحي تعكس دهشتي.
"ماذا تقصد؟"
سايلوس تأملني للحظات، قبل أن يمد يده أمامه، مشيرًا إلى البحر.
"جربي."
حدقتُ فيه، ثم في الماء المتحرك تحتنا، لم أفهم ماذا يريد مني أن أفعل.
"جربي ماذا؟"
"سيطري عليه."
ضحكتُ بعدم تصديق.
"سايلوس، أنت مجنون إن كنت تظن أنني أستطيع تحريك البحر."
رفع حاجبه بطريقة مستفزة.
"ألم تقولي إنه مجرد حلم؟"
تجمدتُ للحظة.
صحيح... هذا مجرد حلم، أليس كذلك؟
أخذتُ نفسًا عميقًا، محاوِلةً التركيز.
لو كان كل هذا حلمًا، فربما... ربما يمكنني التأثير عليه.
أغمضتُ عينيّ، ركزتُ على صوت الموج، على الشعور العجيب الذي يتسلل إليّ عندما أكون هنا.
ثم، كما لو كان حدسي هو من يقودني، رفعتُ يدي.
لفترة، لم يحدث شيء.
كنتُ على وشك أن أشعر بالإحراج، أن أخبره أنني لا أستطيع فعل ذلك، لكن فجأة، شعرتُ بشيء مختلف.
وكأن الهواء من حولي أصبح أثقل، وكأن نبضات قلبي تزامنت مع حركة المياه.
فتحتُ عيني ببطء، وصُدمتُ مما رأيته.
الأمواج التي كانت تضرب الصخور بعنف... توقفت.
كأن الزمن نفسه تجمد للحظة، قبل أن تبدأ المياه بالارتفاع تدريجيًا، ببطء، كأنها تتجاوب مع أفكاري
شعرتُ بقوة غريبة تتدفق في داخلي، كأنني كنتُ دائمًا قادرة على فعل هذا، لكنني فقط لم أكن أعرف كيف.
نظرتُ إلى سايلوس، الذي كان يراقبني بصمت، نظرة إعجاب خفية في عينيه.
"أرأيتِ؟ لم يكن الأمر صعبًا."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي.
هذا مستحيل... أليس كذلك؟
لكنه حدث.
أنا فعلتُ هذا.
خفضتُ يدي ببطء، وشاهدتُ المياه تعود إلى طبيعتها، كأن شيئًا لم يكن.
استدرتُ إلى سايلوس، عيناي تمتلئان بعاصفة من المشاعر المختلطة.
"من أنا؟"
تنهد سايلوس ببطء، صوته مليء بالحنين.
"أنتِ أكثر مما تتخيلين، تونه... وأنتِ لم تكتشفي سوى القليل فقط من حقيقتك."
شعرتُ برأسي يدور.
هذه القوة... لم تكن مجرد حلم.
كنتُ قادرة على التأثير على الزمكان نفسه.
وإذا كان هذا صحيحًا... فماذا بعد؟
ظلت أنفاسي متقطعة، وعيناي معلقتان بالماء، كأنني أخشى أن أغمضهما فأجد أن كل شيء قد عاد كما كان، أنني لم أكن سوى مجنونة تتخيل قدرتها على تحريك البحر.
لكن لا… لقد حدث حقًا.
أنا فعلت هذا.
التفتُّ إلى سايلوس ببطء، لكنني وجدته يراقبني بنفس النظرة التي لطالما أربكتني… نظرة من يعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي.
لم أستطع منع نفسي من الهمس، وكأنني أخشى أن تقول الحقيقة اسمي بصوت عالٍ وتصبح واقعًا لا مهرب منه:
"من أنا…؟"
لم يجبني فورًا. ظل صامتًا للحظات، كأن كلماتي كانت مفتاحًا لصندوق أسرار لطالما أراد فتحه لكنه تردد في ذلك.
ثم تنهد ببطء، وألقى نظره نحو الأفق، قبل أن يهمس:
"أنتِ من صنعتِ هذا المكان، تونه... وأنتِ من تستطيعين هدمه."