"أنتِ من صنعتِ هذا المكان، تونه... وأنتِ من تستطيعين هدمه."
تجمدتُ في مكاني.
ما الذي يعنيه؟
أشعر بأن كل شيء ينهار من حولي، كل فكرة كنتُ أؤمن بها عن نفسي، عن حياتي، تتلاشى ببطء مخيف.
"مستحيل... أنا مجرد شخص عادي... كنتُ أعيش حياة طبيعية…"
ضحك سايلوس ضحكة قصيرة، لكنها لم تكن ساخرة، بل كأنها ممزوجة بالحزن.
"أي حياة طبيعية، تونه؟ أي جزء بالضبط من حياتك يبدو طبيعيًا؟"
حاولتُ الرد، لكنني لم أستطع.
كان محقًا.
كل شيء في حياتي كان… غير منطقي.
الذكريات المشوشة، الأحلام التي أصبحت حقيقية، الأشخاص الذين لا أشعر نحوهم بأي صلة رغم أنهم عائلتي، والآن… هذه القوة.
التفتَّ إليّ، عيناه الحمراء اللون تلمعان بضوء القمر، وصوته عميق وهو يقول:
"كل ما عشتهِ لم يكن سوى ظل… وهم صُنع ليبقيكِ بعيدة عن حقيقتكِ."
ابتلعتُ ريقي بصعوبة.
"وهم؟"
"نعم… ذكرياتكِ، حياتكِ… كلها مزيفة."
شعرتُ برأسي يدور.
"لا… لا يمكن…!"
لكنه لم يتوقف.
"عائلتكِ؟ عملكِ؟ دراستكِ؟ كلها ليست حقيقية. تم صنعها… أو بالأحرى، تم زرعها داخلكِ حتى لا تبحثي عن ماضيكِ الحقيقي."
شعرتُ بأن الهواء يضيق من حولي، وكأن الجرف الذي أجلس عليه ينهار تحت قدمي.
"من فعل هذا بي؟!"
نظر إليَّ للحظة، ثم همس:
"والدكِ."
صُدمتُ، عيناي اتسعتا بذهول.
"ماذا…؟"
"والدكِ، رئيس منظمة الأمن الفضائي، الشخص الذي من المفترض أنه يحمي البشرية… هو من انتزع منكِ كل شيء."
هززتُ رأسي بعنف، أرفض تصديق كلماته، أرفض السماح لها بأن تترسخ في عقلي.
"أنت تكذب…!"
لكنه لم يتزحزح، لم يبدُ عليه التردد للحظة.
"أنا لا أكذب، تونه… وأنتِ تعلمين ذلك."
شعرتُ بأنفاسي تتسارع، ووضعتُ يدي على رأسي، أحاول تهدئة الدوامة التي تعصف بداخلي.
لكن مع كل لحظة تمر، بدأت صور تتدفق إلى ذهني… صور ليست من حياتي الحالية، بل من شيء أقدم، شيء أعمق.
صورة لرجل ينظر إليّ بعينين جليديتين، صوته بارد وهو يقول:
"إنها خطيرة… يجب إيقافها قبل أن تدمر كل شيء."
صورة ليد تمسك بي بقوة، تحقنني بسائل بارد، ثم كل شيء يختفي.
شهقتُ، يدي ترتجفان وأنا أتمسك بالأرض حتى لا أسقط في الفراغ الذي أشعر به داخلي.
سايلوس ظل يراقبني بصمت، وعندما رآني أبدأ بالانهيار، مد يده وأمسك بي، يمنعني من السقوط.
"أعلم أن الأمر كثير عليكِ، تونه… لكن يجب أن تتذكري. يجب أن تستعيدي حقيقتكِ."
رفعتُ عيني إليه، صوته كان هادئًا، لكنني استطعت أن أرى الألم الذي يخفيه خلف كلماته.
"لماذا تهتم؟ لماذا يهمك إن كنتُ أتذكر أم لا؟"
نظر إليّ للحظة، قبل أن يهمس:
"لأنكِ عندما تنسين… فإنكِ تنسينني أيضًا."
تجمدتُ في مكاني.
هذا الشعور… كان أكثر وجعًا من كل شيء آخر.
"لكن… لماذا؟ ما علاقتكِ بكل هذا؟"
أغمض عينيه للحظة، وكأنه يستعد لقول شيء كان يخفيه عني طوال الوقت.
ثم فتحهما ببطء، ونظر إليّ مباشرة، وقال بصوت منخفض:
"لأنكِ وعدتِني، تونه… وعدتِني أننا سنكون معًا، دائمًا."
شعرتُ بقلبي يتوقف.
شيء في داخلي… عرف أن كلماته ليست مجرد كلام فارغ.
هذا لم يكن كذبًا، لم يكن خدعة.
أنا فعلًا… وعدته.
لكنني لا أذكر متى… أو كيف.
سايلوس ابتسم ابتسامة حزينة، ورفع يده إلى وجهي، أطراف أصابعه تلامس وجنتي برفق.
"الآن الخيار لكِ… إما أن تستمري في إنكار الحقيقة، وتبقَي محبوسة في هذا العالم المزيف… أو أن تستعيدي من أنتِ حقًا."
حدقتُ فيه، أبحث في وجهه عن إجابة، عن شيء يجعل هذا أسهل.
لكنه لم يكن يقدم لي سوى الحقيقة… وهي كانت مخيفة جدًا.
ثم فجأة، أطلق سايلوس تلك الضحكة الخافتة التي عرفته بها، وقال بصوت منخفض، مستخدمًا إحدى جمله التي لم أنسها منذ سمعتها لأول مرة:
"أتدرين ما المشكلة يا تونه؟ المشكلة ليست أنكِ لا تتذكرين… المشكلة أنكِ لا تريدين أن تتذكري."
توقفتُ عن التنفس للحظة.
لأنه كان محقًا.
أنا لم أكن خائفة من الحقيقة… بل كنتُ خائفة من الألم الذي ستجلبه لي.
لكن الآن… لم يعد هناك طريق للعودة.
إما أن أواجه من أنا… أو أضيع للأبد.
كنتُ أقف على حافة الجرف، أحدق في الأفق البعيد حيث يلتقي البحر بالسماء. كان كل شيء هادئًا… لا عواصف، لا أمواج هائجة، لا شيء يعكر صفو هذا المشهد الساكن. لكنني شعرت أن هذا الهدوء لم يكن سوى خدعة أخرى، كأن الأحلام نفسها تتنفس معي، تتغير بانفعالاتي… تتأثر بي.
لم يعد لدي شك في أن هذا العالم ليس مجرد وهم… لكنه أيضًا لم يعد مجرد حلم.
خرجت الكلمات من شفتيّ دون تفكير، كأنني كنت أطرح السؤال على نفسي أكثر مما كنت أوجهه إليه. "إذا لم يكن مجرد حلم… فما هو إذن؟"
لم ألتفت، لكنني شعرت بوجوده خلفي. ثقله في هذا المكان كان ملموسًا، كما لو أن كيانه نفسه قادر على التأثير على الواقع من حوله.
جاء صوته العميق، ثابتًا، لا يحمل أي تردد. "إنه الحقيقة التي رفضتِ رؤيتها دائمًا."
استدرت نحوه ببطء، عيناي تضيقان بحذر بينما أشعر بالرفض يتصاعد بداخلي. "حقيقة ماذا؟ أن حياتي كلها كانت كذبة؟ أن كل ما أتذكره عن نفسي مزيف؟"
كان ينظر إليّ بتركيزه المعتاد، ذلك المزيج من السخرية واللامبالاة الذي يجعلني أرغب في لكمه، أو ربما الصراخ في وجهه.
أمال رأسه قليلًا، ذراعيه متشابكتان فوق صدره، وكأنه مستمتع بمشاهدتي أحاول فك شيفرة ذاتي. "أوه، تونه… هذه ليست حتى أصعب الحقائق التي ستكتشفينها."
ضغطت على أسناني، ويدي قبضت على جانبيّ بقوة. "توقف عن التحدث بالألغاز!"
رفع حاجبًا ساخرًا، تلك الابتسامة المتعجرفة التي أكرهها تلوح على شفتيه. "ألغاز؟ ظننت أنكِ أصبحتِ أذكى من ذلك." ثم أشار بإصبعه إلى صدري مباشرة، عينيه الحمراوان تشتعلان بتوهج غامض تحت ضوء القمر. "كل الإجابات هنا، لكنكِ تخافين النظر إليها."
شعرت بضيق في أنفاسي. كلماته كانت ثقيلة، كأنها تضغط على صدري، تجبرني على مواجهة شيء لم أكن مستعدة له.
ثم جاء صوته، منخفضًا لكنه كاد أن يهز كياني كله. "أنتِ لستِ جزءًا من هذا العالم الذي عشتِ فيه طوال حياتك." اقترب، خطوة بعد خطوة، حتى كدت أشعر بوجوده يحاصرني. "لم تكوني يومًا جزءًا منه. أنتِ تنتمين لي… إلى عالمي."
تجمدت.
شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميّ، ليس حرفيًا، لكن داخليًا… كأن شيئًا ما قد انهار في أعماقي.
كان في نبرته شيء جعلني أشعر بالرعب… ليس لأنه كان يهددني، بل لأنه كان متأكدًا مما يقول.
حاولت أن أتمسك بأي منطق، بأي رفض، لكن صوته عاد مجددًا، أكثر ثقة، أكثر تسلطًا. "لا تقلقي، أعلم أن فكرة أنكِ تخصينني قد تكون مربكة." أدار وجهه جانبًا، نظرة تسلية متكبرة في عينيه. "لكن لا بأس، سأمنحكِ الوقت لتستوعبي ذلك."
كان يتلاعب بي. كنت أعرف ذلك، ومع ذلك… شيء ما داخلي لم يستطع دفع كلماته جانبًا.
شعرت بالغضب يتصاعد في داخلي، وصرخت بصوت مشحون بالإحباط: "أنا لا أخص أحدًا!"
ضَحِك.
لم يكن ضحكًا مرتفعًا أو ساخرًا، لكنه كان كافيًا ليجعلني أرغب في لكمه.
ثم نظر إليّ مباشرة، تلك العيون الحمراء تلمع بشيء يشبه الوعد. "ليس بعد."
لم أستطع التحكم في ردة فعلي—ضغطت على أسناني بقوة، قبضتا يديّ ترتجفان من الغضب والتوتر. "لماذا تتحدث معي بهذه الطريقة؟ لماذا تتصرف وكأنك تتحكم بي؟"
اقترب أكثر، حتى أصبحت المسافة بيننا لا تكاد تُذكر. شعرت بأنفاسه قريبة، بصوته يلتف حولي كوشاح خانق.
"لأنني الوحيد الذي يعرف حقيقتكِ." همس، نبرته قاتمة، مغناطيسية، تحمل سحرًا قاتلًا. "أنا الوحيد الذي يمكنه أن يعيدكِ إليكِ."
شيء ما في كلماته أصابني بصدمة… كما لو أنه ضغط على زر خفي داخل عقلي، زر لم أكن أعلم بوجوده أصلًا.
حدّقت في عينيه، شعرت وكأنني على حافة هاوية أخرى… ليست جسدية، بل وجودية.
خفضت بصري للحظة، ترددي يزحف إلى لساني. ثم تمتمت بصوت بالكاد استطعت سماعه بنفسي:
"وماذا لو لم أرِد أن أتذكر؟"
ساد صمت طويل.
كان الصمت ثقيلًا، خانقًا… كأن الكون بأسره توقف عن الحركة، عن التنفس.
سايلوس لم يتحرك، لم يُظهر أي انفعال. فقط نظر إليّ… نظره جعلني أشعر أنني قد نطقت بأسوأ شيء ممكن.
ثم، أخيرًا، تحدث بصوت خافت لكنه محمل بشيء خطير، شيء جعل شعري يقف على أطرافه.
"إذن…" قال ببطء، كأن الكلمات نفسها كانت عبئًا مظلمًا يخرج من بين شفتيه. "ستعيشين كذبة، وتدمرين نفسكِ ببطء وأنتِ ترفضين ذاتكِ الحقيقية."
استدار مواجهاً البحر . لكنني رأيت تلك الابتسامة تعود إلى وجهه… ابتسامة باردة، بلا دفء، بلا رحمة.
"لكن لا تقلقي، سأكون هنا… أراقب انهياركِ بصبر."
كلماته اخترقتني، صفعتني بقوة لم أكن أتوقعها.
لكنني لم أستطع الرد… لأنني كنت خائفة من أنه قد يكون محقًا.
وقفتُ أمام البحر، عينيَّ تتبعان حركة الأمواج التي بدأت تتلاطم بعنف، كما لو أنها تعكس الصراع المحتدم داخلي. كان كل شيء يبدو أكثر وضوحًا الآن، لكن في نفس الوقت، كل إجابة أحصل عليها تفتح أبوابًا جديدة من الأسئلة.
استدرت نحو سايلوس، أشعر بالاضطراب، لكنه كان هناك… كعادته، يقف بثقة كأنه يملك كل الإجابات، أو ربما لأنه لا يحتاج للبحث عنها مثلما أفعل أنا.
"إذن…" أقول بعد دقائق من الصمت . توقفت لآخذ نفسًا، محاوِلة جمع شتات أفكاري. "ماذا عليّ أن أفعل الآن؟"
بدا وكأنه كان ينتظر هذا السؤال. ابتسامة جانبية مائلة للغرور ارتسمت على شفتيه، وكأنه كان يتوقع أن أصل إلى هذه اللحظة عاجلًا أم آجلًا.
"أخيرًا، السؤال الصحيح."