"أخيرًا، السؤال الصحيح."
توقعت أن يمنحني إجابة مباشرة، لكنه لم يفعل. اكتفى بالنظر إليّ، طويلًا، وكأنه يقيّمني، يبحث عن أي تردد متبقٍّ في داخلي. ثم، بعد لحظة صمت، تنهد ببطء وقال: "عليكِ أن تستعيدي ذاكرتكِ بالكامل أولًا. لا مزيد من التردد، لا مزيد من الهروب."
شعرت بشيء ثقيل يسقط على صدري، لكنني قاومت ذلك الشعور. لم يكن هناك مفر من هذه الخطوة، كنت أعرف ذلك… لكن ما سيأتي بعدها كان أصعب.
"ثم ماذا؟"
ثبت نظره عليّ، وعيناه تلمعان بحدة. "ثم… عليكِ مواجهة والدكِ ... والدك الحقيقي."
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. والدي…؟ لا، ذلك الرجل الذي صنع من حياتي جحيمًا، الرجل الذي جعلني افقد كل شيء… الرجل الذي، بسببه، وُلدت في عالم لم يكن لي أصلًا.
شعرت أن الهواء أصبح أثقل حولي، وكأن الواقع نفسه يضيق عليّ. كنت أريد الهروب، ولو للحظة، لألتقط أنفاسي…
"لكن…" ابتلعت ريقي بصعوبة، ثم حسمت أمري. "أحتاج وقتًا."
رأيت حاجبه يُرفع قليلًا، كما لو أن كلامي لم يعجبه. "وقت؟ لأي شيء؟"
تجنبتُ النظر في عينيه مباشرة، كأنني أخشى أن يرى الصراع الذي يدور داخلي. "لأودّع عائلتي."
شعرت بتغيّر طفيف في تعابيره، شيء في عينيه أظلم، لكنه لم يقل شيئًا على الفور. انتظرني لأكمل.
"أعلم أنهم ليسوا حقيقيين… أعلم أن هذا العالم بُني ليعيشني في وهم… لكنهم كانوا معي طوال حياتي." ابتسمتُ بحزن، وأنا أسترجع لحظاتي معهم. "أحببتهم، وهم أحبوني. حتى لو كان كل شيء مزيفًا، فإن المشاعر لم تكن كذلك."
أخذ سايلوس نفسًا عميقًا، وكأنه يحاول كبح تعليق ساخر كان على وشك الخروج، ثم قال بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من حدّته المعتادة: "حسنًا، لن أمنعكِ من وداع عالمكِ الوهمي… لكن لا تنسي أن كل ثانية تقضينها هنا، تضعف جدران الواقع أكثر."
في اليوم التالي، وقفتُ أمام المنزل الذي ظننتُ أنه منزلي طوال حياتي.
كان كما هو دائمًا… مألوفًا، دافئًا، لكنه الآن بدا مختلفًا. كأنني كنت أرى التشققات التي لم ألاحظها من قبل، وكأن العالم نفسه لم يعد يستطيع خداعي أكثر.
عندما دخلتُ، وجدتُ والدتي في المطبخ، تحضّر العشاء كما تفعل كل ليلة. والدي كان يجلس على الأريكة، يقرأ الجريدة، وأخي الصغير منشغل بلعبته المفضلة.
شعرتُ بغصة في حلقي.
"تونه، كيف تشعرين اليوم؟" سألت والدتي بلطف، تدسّ خصلة من شعري وراء أذني كما كانت تفعل دائمًا.
أخذتُ نفسًا عميقًا، محاوِلة أن أستجمع شجاعتي. "أنا بخير… لكنني أريد التحدث معكم عن شيء مهم."
رأيتُ القلق يظهر على وجوههم. لم يكونوا معتادين على جديتي المفاجئة.
جلستُ أمامهم، يداي متشابكتان على حجري، ثم نطقت بالكلمات التي شعرت أنها ستكسرني من الداخل. "أنا… سأرحل قريبًا."
ساد الصمت.
"ماذا؟" نطقها والدي باستغراب، بينما بدت أمي مرتبكة.
"إلى أين؟" جاء صوت أخي الصغير، عينيه الواسعتين تمتلئان بالحيرة البريئة.
شعرتُ بقلبي يتقلص داخل صدري، لكنني لم أستطع التراجع الآن. ابتسمتُ له بحزن، محاولة أن أبدو قوية، رغم أنني بالكاد كنت أتمكن من التنفس.
"لا أستطيع شرح كل شيء الآن…" كنت أسمع رعشة في صوتي، لكنني أجبرته على الثبات. "لكنني… وجدتُ شيئًا كان مفقودًا، وعليّ استرجاعه."
رأيتُ أمي تقترب مني، القلق يملأ عينيها. "لكن، تونه، نحن عائلتكِ… ألا يمكننا مساعدتكِ؟"
نظرتُ إليها، شعرتُ أنني أريد التمسك بها، بالبقاء هنا… لكنني كنت أعرف أنني لا أستطيع.
"أحبكم…" تمتمت، ودموعي بدأت تتجمع في عينيّ. "لكن هناك حياة أخرى تنتظرني… حياة لم أعد أستطيع تجاهلها."
شعرتُ بوالدتي تعانقني بقوة، كما لو أنها تحاول إبقائي هنا بالقوة، وكأنها إن تمسكت بي بما يكفي، لن أفلت من بين يديها.
والدي لم يقل شيئًا، لكنه نظر إليّ نظرة جعلتني أشعر أنه يعرف الحقيقة، حتى لو لم يعترف بها.
حتى أخي الصغير، رغم أنه لم يفهم كل ما يحدث، اقترب وعانقني بقوة، كأنه يشعر أنني لن أعود.
لحظات الوداع هذه كانت ثقيلة، مؤلمة أكثر مما توقعت… لكنها كانت ضرورية.
لكنني لم أكن مستعدة لما حدث بعد ذلك.
عندما خرجتُ إلى الشارع، شعرتُ بشيء غريب… الهواء أصبح أثقل، والسماء التي كانت صافية قبل لحظات، بدأت تتشقق.
حرفيًا.
وقفتُ في مكاني، عينيّ تتسعان برعب وأنا أرى التشققات السوداء تنتشر في السماء، كأنها زجاج يتكسر ببطء.
ثم… سمعتُ صوته خلفي.
"قلت لكِ إن الوقت ليس في صالحكِ."
التفتُ ببطء، ورأيته واقفًا هناك، يراقب الانهيار دون أي انفعال، وكأنه كان يتوقع ذلك.
"ما… ما الذي يحدث؟" همستُ، أشعر أن الهواء من حولي بدأ يختفي.
رفع يده، مشيرًا إلى السماء. "السقف الزمكاني بدأ بالانهيار… عالمكِ الوهمي لم يعد قادرًا على الاستمرار. بسبب ادراككِ للواقع"
وفجأة… بدأ كل شيء من حولي ينهار.
المنازل، الأشجار، حتى الأرض تحت قدميّ بدأت تهتز.
سمعتُ صراخ عائلتي، التفتُ إليهم، رأيتُ الرعب في عيونهم…
لكنني، في داخلي، كنت أعرف الحقيقة.
هذا العالم كان ينهار… لأنه لم يكن حقيقيًا أبدًا.
لم أعد أسمع سوى صوت الريح… عواءً مزمجرًا يمزق السماء.
كل شيء كان يتشقق… المنازل، الشوارع، الهواء نفسه… كأن الواقع يُمزّق أمام عينيّ مثل ورقة قديمة لم تعد قادرة على حمل ثقل الحبر الذي كُتب عليها.
"لا… لا لا لا لا!" صرخت، عيني تتنقل بين الأشياء التي عرفتها طوال حياتي وهي تتحول إلى شظايا، إلى غبار يتلاشى مع الريح.
أدرت رأسي نحو عائلتي—أمي، أبي، وأخي الصغير—لكنهم لم يعودوا كما كانوا قبل دقائق. وجوههم بدأت تبهت، كأن ألوانهم تتلاشى ببطء، كلوحة يُغسل عنها الطلاء تحت المطر.
أمي مدت يدها نحوي، لكن أصابعها بدأت تتحلل إلى ذرات قبل أن تصلني.
"تونه… لا تتركينا…"
شهقت، قلبي يخفق بجنون. "أنا لا أريد…! لم أكن…"
لكن صوتي ضاع وسط الضوضاء.
كل شيء كان ينهار.
كانت يد سايلوس على كتفي. ثابتة، قوية، تُبقي قدميّ على الأرض بينما العالم من حولي يُمزق كصفحة في كتاب قديم.
لم يبدُ عليه أي تأثر، لم يرتعش أو يتراجع… فقط راقبني، كأنه كان يعرف أن هذه اللحظة ستأتي، وكان ينتظرها بصبر مرعب.
"هذا ليس حقيقيًا، تونه." قالها بصوت ثابت، عميق، كأنه يحاول سحبي إلى الواقع الحقيقي.
لكن… كيف لي أن أصدقه؟
كيف لي أن أترك عائلتي تختفي أمامي؟ كيف لي أن أسمح لهم بأن يتلاشوا كما لو أنهم لم يكونوا شيئًا أبدًا؟
"لكنني…" كنت أرتجف، أشعر بالبرد رغم أنني أعلم أنه ليس حقيقيًا. "أنا… عشت معهم… أنا… أحببتهم…"
"وهذا لا يجعلهم حقيقيين."
كلماته كانت كالسكين، حادة، قاطعة، لكنها لم تكن قاسية. كانت الحقيقة… فقط الحقيقة.
أغلقت عيني، شعرت بالدموع تسيل على وجنتي.
هذا هو الواقع، أليس كذلك؟
أمي وأبي… لم يكونوا أبدًا أمي وأبي.
أخي لم يكن أخي.
منزلنا، أعياد ميلادنا، لحظات الفرح والحزن… كلها كانت مجرد صورة، قفصًا ذهبيًا صُمم ليبقيني محبوسة في عالم لم يكن لي أبدًا.
—
عندما فتحت عينيّ… لم يكن هناك شيء.
لا شارع، لا منازل، لا سماء زرقاء… لا عائلة.
كنت واقفة وسط فراغ رمادي، وكأن العالم قد طُمس بفرشاة عملاقة.
تنفست ببطء، صدري يعلو ويهبط وكأنني قد ركضت لأميال.
سايلوس لا يزال بجانبي. لم يتحرك، لم يقل شيئًا. فقط انتظر.
ثم أخيرًا، بعد لحظات بدت كالعمر كله، همست بصوت خافت، بالكاد مسموع:
"أنا مستعدة."
رأيت كيف انحنى حاجبه الفضّي قليلًا، وكأنه لم يكن يتوقع أن أقولها بهذه السرعة.
لكنني كنت أعنيها.
أنا مستعدة لأعرف…
مستعدة لأتذكر…
مستعدة لمواجهة من كنت عليه… ومن سأكون......