15 - العالم الحقيقي!

الهواء كان مختلفًا.

باردًا، لكنه ليس برودة الشتاء التي عرفتها… كان نقياً بطريقة غير مألوفة، خالياً من الروائح المعتادة، كأنني تنفست للمرة الأولى في حياتي.

شعرت بقدميّ تلامسان سطحًا صلبًا، لكنني لم أكن واقفة على أرض بالمعنى التقليدي. كان السطح ناعمًا، مصقولًا، أشبه بزجاج ممتد بلا نهاية، لكنه لم يكن زجاجًا. كان ينبض تحت قدمي، وكأنه حي.

رفعت بصري ببطء… ثم شهقت.

العالم من حولي لم يكن مثل أي شيء رأيته من قبل.

السماء لم تكن زرقاء، لم تكن حتى سماءً بالمعنى الذي اعتدت عليه. كانت فضاءً شاسعًا، لكنه لم يكن أسودًا، بل لوحة هائلة من الألوان المتداخلة، دوامات من البنفسجي العميق والأزرق الداكن، مشوبة بلمعان ذهبي متحرك، وكأن الكون ذاته يتنفس من حولي. بين تلك الدوامات، كانت هناك نجوم… أو ربما لم تكن نجومًا، بل مصابيح طافية في الفراغ، تبعث ضوءًا نابضًا، يتحرك بإيقاع لم أستطع فهمه.

أخفضت نظري، فوجدت المدينة تمتد أمامي.

مدينة…؟ لا، لم تكن مجرد مدينة.

أبراج شاهقة، لكنها لم تكن مبنية بالحجارة أو الزجاج، بل من مادة شفافة تشبه الكريستال، تعكس الألوان المحيطة بها، فتجعلها تتغير باستمرار، كما لو كانت تنبض بالحياة. لم تكن الأبراج مستقيمة بالكامل، بل تلتف بانسيابية، تندمج مع بعضها البعض كأنها أشجار عملاقة نمت بطريقة منظمة، جذوعها تمتد وتصنع جسورًا معلقة، طرقًا تتداخل مع السماء نفسها.

بين تلك الأبراج، كانت هناك مسارات طائرة… ليست مركبات عادية، بل هياكل انسيابية، تتحرك دون صوت، أشكالها تتغير أثناء الطيران، كأنها مصنوعة من سائل متصلب. لم يكن هناك عجلات، لم يكن هناك محركات مسموعة… فقط ضوء أزرق خافت يتوهج أسفلها، وكأنه الطاقة التي تبقيها في الهواء.

تحت قدمي، امتدت شوارع ليست شوارع… لم تكن هناك طرق مبلطة أو أرصفة، بل مسارات ضوئية، تتغير ألوانها كلما اقتربت منها، تخلق انعكاسات وأشكال هندسية متحركة، وكأن المدينة تتفاعل معي، تراقبني.

"مرحبًا بكِ في الواقع."

كان صوت سايلوس، هادئًا، لكن فيه تلك النبرة العميقه التي تحمل أكثر من مجرد كلمات.

استدرتُ نحوه، فوجدته يقف بثقة، كأنه لم يغادر هذا المكان أبدًا. الضوء المنعكس من الأبراج جعل خصلات شعره الفضية تلمع بشكل غير واقعي تقريبًا.

حاولتُ أن أتكلم، لكن الكلمات لم تأتِ. كيف يمكنني أن أصف شعوري.....

هذا العالم… شعرت أنه مألوف بطريقة ما. ليس كما كان عالمي السابق مألوفًا، بل بطريقة أعمق، كأنني عرفت هذا المكان قبل أن أنساه.

"أين نحن…؟"

أدار وجهه قليلًا، نظراته تمر على المدينة التي تمتد بلا نهاية. "في المكان الذي تنتمي إليه."

شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. ليس خوفًا… بل إدراكًا.

"هذا هو الواقع…؟" همستُ، وكأنني أخشى أن ينهار كل شيء إن قلتها بصوت أعلى.

نظر إليّ سايلوس نظرة طويلة، ثم قال بصوت منخفض، لكنه يحمل ثقلًا لا يمكن إنكاره:

"هذا هو عالمكِ الحقيقي، تونه."

لم أكن أعرف ما إذا كنت أسير أم أطفو.

الأرض—أو ما يمكن أن أسميه أرضًا—تحتي كانت ناعمة، تشع بحرارة خفيفة كلما لامستها قدماي. كل خطوة تخطوها قدمَيّ كانت تخلق دوائر ضوئية صغيرة تتلاشى سريعًا، كما لو أن المكان نفسه يتفاعل مع وجودي.

سايلوس كان يسير بجانبي، خطواته هادئة، واثقة، كما لو أن هذا العالم صُنع ليناسب إيقاعه تمامًا. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه كان يراقبني، عينيه تتابع كل حركة أقوم بها، كل نظرة ألقيها على الأبنية المتحركة، على المسارات الطائرة، على السماء التي بدت وكأنها تتغير كل لحظة.

"هل تشعرين بشيء؟" سألني، نبرته كانت أقل قسوة هذه المرة، لكنها لا تزال تحمل ذلك التحدي المعتاد، وكأنه ينتظر مني أن أكتشف شيئًا لم أكن مستعدة له بعد.

هززت رأسي ببطء، عيني لا تزالان تتنقلان على المشهد من حولي. "لا أعلم… إنه غريب، لكن…" ترددت، ثم نظرت إليه. "لكنه مألوف بطريقة ما."

رفع حاجبًا، كأن إجابتي لم تكن مفاجئة بالنسبة له. "هذا جيد. أنتِ أقرب مما تعتقدين."

لم أجب. كنت لا أزال منشغلة بمراقبة المكان…

أخذني إلى طريق مرتفع، يطل على مشهد أكثر شمولًا للمدينة. من هنا، كانت الأبراج تتوهج كأعمدة من الضوء، بينما المركبات الطائرة تركت خلفها آثارًا زرقاء متوهجة في الهواء. كان كل شيء يتحرك بسلاسة تامة، لا ضوضاء، لا فوضى… فقط تناغم غير طبيعي.

"كنا نأتي إلى هنا كثيرًا." قالها بصوت منخفض، وكأنه يختبرني.

نظرت إليه بسرعة. "نحن؟"

أومأ ببطء، عينيه لا تزالان على المدينة. "هذا كان مكانكِ المفضل."

شعرت بشيء يشدني من الداخل، كأن ذاكرة غارقة في أعماقي تحاول أن تطفو على السطح. رفعت يدي ولمست السور الزجاجي الممتد أمامنا… كان دافئًا، كأن حرارة جسدي انعكست عليه.

"أغمضي عينيكِ."

التفتُّ إليه، حاجبي منعقد. "لماذا؟"

ابتسم ابتسامة جانبية، تلك الابتسامة التي تحمل الكثير من الغموض والغرور. "فقط افعليها."

ترددت للحظة، لكنني فعلت.

في البداية، لم أشعر بشيء سوى الهواء البارد على بشرتي… ثم، شيئًا فشيئًا، بدأ صوت الرياح يتغير. لم يعد مجرد همس، بل أصبح أكثر عمقًا، أكثر معرفة.

وفجأة…

رأيت صورة في ذهني.

أنا هنا، واقفة في المكان ذاته، لكن ليس وحدي.

كان هناك ضحك—ضحكي أنا، وصوت آخر يضحك معي.

ثم رأيت يدي تمتد، تلمس السور الزجاجي كما أفعل الآن، لكن في ذاكرتي… كانت هناك يد أخرى فوق يدي.

شعرت بأنفاسي تتباطأ، وكأن جسدي بأكمله قد تجمد في مكانه.

فتحت عيني بسرعة، لأجد سايلوس لا يزال يقف هناك، يراقبني بصمت، عينيه الحمراوان تلمعان بانتباه حاد.

"هل تذكرتِ شيئًا؟"

كان صوته عميقًا، لكنه لم يكن يحمل تلك النبرة الساخرة المعتادة. كان جادًا… ربما حتى فضوليًا.

ترددت للحظة، ثم قلت بصوت بالكاد خرج مني: "رأيت… شخصًا ما معي هنا."

رأيت تعابير وجهه تتغير للحظة، لمعة عابرة في عينيه قبل أن يعود إلى هدوئه المعتاد. لكنه لم يعلق.

بدلًا من ذلك، تحرك، أشار لي بأن أتبعه، ففعلت.

أخذني إلى أماكن أخرى.

أراني ممرات تتغير وفقًا لخطواتنا، حدائق غريبة بأشجار ذات أوراق متوهجة، مساحات مفتوحة حيث كان الهواء يهمس بأصوات خفية، كأنه يحمل ذكريات محفورة في طياته.

في كل مكان ذهبنا إليه، كنت أشعر بشيء في داخلي…

ليس ذكرى واضحة، بل شعور… كأنني كنت هنا من قبل، كأنني عشت لحظات في هذه الأماكن، مع شخص ما بجانبي.

مع سايلوس.....

رغم كل شيء، رغم غروره، رغم نبرته المتعالية وطريقته المستفزة… كان هناك شيء آخر يطفو على السطح أحيانًا. شيء لم يكن يظهر بسهولة، لكنه كان هناك، خلف العيون الحمراء المتوهجة.

طريقة مشيته وهو يتأكد أنني أتبعه دون أن يشعرني بذلك.

طريقة نبرته وهي تصبح أكثر نعومة حين يسألني إن كنت متعبة.

طريقة نظراته حين يظن أنني لا أراه، كأنه يحاول أن يتأكد أنني ما زلت هنا… معه.

لم أكن أعرف كيف أصفه، لكنني شعرت به.

شعرت أن هذا الرجل، رغم كل قوته ونرجسيته، لم يكن مجرد سيد لهذا العالم…

بل كان شيئًا آخر.

شيئًا يخصني.

لكنني لم أقل شيئًا. لم أكن مستعدة لذلك بعد.

وكأن سايلوس شعر بذلك، لأنه في نهاية اليوم، وقف أمامي، يراقبني بصمت، ثم قال، بصوته العميق الذي بدأ يعلق في ذهني أكثر مما ينبغي:

"غدًا، ستتذكرين أكثر."

ثم ابتسم—ابتسامة لم تكن ساخرة هذه المرة، بل كانت… مختلفة.

وكأنها تخصني وحدي.

2025/05/18 · 4 مشاهدة · 1063 كلمة
Fatima
نادي الروايات - 2025