استيقظتُ على صوت خافت، أقرب إلى همس متداخل مع نبضات قلبي.
في البداية، لم أفتح عينيّ. بقيتُ مستلقية، أستمع…
كان الجو هادئًا، لكن هناك شيئًا غير مألوف. شعرتُ به أكثر مما فهمته—كأن المكان كله ينبض بإيقاع غير مرئي، إيقاع لم أكن قد انتبهت له من قبل. بعد ان انتهينا الامس من جولتنا . اخذني الى فندق فخم.. يملكه ام لا . لا اعلم . لكن لاحظت ان الجميع كان يعمل تحت امرته ويلبون طلباته...
حين فتحت عينيّ أخيرًا… رأيتُ سقفًا شفافًا يمتد فوقي، لم يكن مجرد زجاج، بل مادة شبه حية، تتحرك بلطف، كأنها تستجيب لتنفس المكان.
نهضتُ ببطء، شعرتُ بالسرير الذي كنت أنام عليه يتكيف مع حركتي، كما لو كان يعرف كيف يجعلني مرتاحة دون أن أطلب.
كل شيء هنا… كان مختلفًا.
لم يكن هذا مجرد مكان، بل كان كائنًا بحد ذاته.
"أنتِ مستيقظة."
التفتُ بسرعة، لأجد سايلوس واقفًا عند المدخل، مرتديًا معطفه الداكن، عيناه الحمراوان تراقبانني كما تفعل دائمًا—بانتباه، بثقة، و… بشيء آخر لم أكن قادرة على تسميته بعد.
لكني شعرتُ به.
"كيف كان نومكِ؟" سأل، نبرته أقل حدة من المعتاد، لكنها لا تزال تحمل ذلك الطابع المتفوق الذي لم يتخلَّ عنه أبدًا.
زفرتُ، ثم تمددتُ قليلاً قبل أن أقول: "أفضل من أي مرة سابقة، لكني ما زلت لا أصدق أنني هنا."
اقترب بضع خطوات، حتى بات قريبًا بما يكفي ليجعل الجو من حولنا مشحونًا بشيء غير مفهوم.
"ستصدقين قريبًا." قالها بثقة، ثم أشار لي بأن أتْبَعه.
—
قضينا اليوم نتجوّل في المدينة.
لم يكن هذا مجرد استكشاف، بل كان أشبه برحلة عبر ذكريات غير مكتملة.
كل مكان أخذني إليه… كان مألوفًا بطريقة غريبة.
في أحد الشوارع المرتفعة، أوقفني أمام جدار عملاق شبه شفاف، مضيء من الداخل وكأنه يحتوي على عالم آخر خلفه.
"هنا…" قال بصوت هادئ، ناظرًا إلى الجدار كما لو كان يستطيع رؤية ما وراءه. "كنتِ تحبين قضاء الوقت هنا، تقفين أمامه لساعات، تحدقين فيه، كأنكِ تنتظرين شيئًا."
وضعتُ يدي على السطح الناعم، وشعرتُ بذبذبة خفيفة تسري عبر جلدي.
"ماذا كنتُ أنتظر؟"
"أنا."
التفتُّ إليه بسرعة، لكن ملامحه لم تكن ساخرة هذه المرة، فقط كانت… مباشرة.
لم أعرف كيف أجيب، فقط نظرتُ إليه، ثم عدتُ ببصري إلى الجدار.
ربما، في داخلي، كنتُ أعرف أنه على حق.
انتقلنا إلى مكان آخر، ساحة واسعة تمتد أمامنا، تزينها هياكل زجاجية ضخمة تعكس السماء بألوان متغيرة، كأنها تتنفس مع نبض الحياة في هذا العالم.
"كنا نجلس هنا." قال، مشيرًا إلى درجات واسعة منحنية، مصنوعة من مادة سوداء ناعمة تتوهج بخطوط فضية عند لمسها.
لم أعلق، فقط تبعته حين جلس، وبطريقة غريبة… شعرتُ أنني كنتُ قد فعلتُ هذا من قبل.
جلستُ بجواره بصمت، نظرتُ إلى المدينة الممتدة أمامي، إلى الأضواء، إلى المركبات الطائرة، إلى الانسيابية المثالية لكل شيء.
ثم، دون أن أدرك، وجدتُ نفسي أنظر إليه.....
سايلوس لم يكن يراقبني هذه المرة، بل كان ينظر إلى الأفق، عينيه تحملان شيئًا لم أرَه فيه من قبل.
"هل تفكر بشيء؟" سألته، متوقعة أن يسخر أو يرد بجملة نرجسية كما يفعل دائمًا.
لكنه لم يفعل.
بل بقي صامتًا للحظة، قبل أن يقول بصوت خافت: "أفكر… كيف سيكون الأمر لو لم تفقدي ذاكرتك."
كلماته… علقت في داخلي.
لم أكن أعرف ماذا أقول.
أخفضتُ نظري إلى يديّ، شعرتُ بقلبي ينبض أسرع قليلًا.
هل كان الأمر سيختلف؟
هل كنتُ سأكون… أنا؟
هل كنتُ سأكون هذه الفتاة التي تنجذب لصوته العميق، لعينيه التي لا تترك شيئًا يفلت منها، لطريقته في الوجود بكل ثقله، كأنه يحكم العالم بأسره؟
أم أنني كنتُ سأكون شخصًا آخر؟
شخصًا لا يحتاج لأن يتعلم كل هذا من جديد؟
لم أجد إجابة، لكنني وجدتُ نفسي أقول بهدوء: "ربما… كان يجب أن يحدث هذا."
التفت إليّ، حاجبه يرتفع قليلاً، كأنني فاجأته. "كيف ذلك؟"
"لو لم أفقد ذاكرتي…" زفرتُ ببطء، ثم أكملتُ بصوت أكثر هدوءًا: "ربما لم أكن سأعرفك من جديد."
لم يقل شيئًا، لكنني رأيت كيف تغيرت عيناه للحظة، كيف ظهر ذلك التوتر الخفي على ملامحه قبل أن يخفيه بسرعة.
وكأنه لم يكن يريد أن أعلم… أن كلماتي تعني له أكثر مما يجب.
—
تجولنا أكثر، رأينا أماكن أخرى.
في كل مكان، كان هناك شيء… ذكرى غير مكتملة، إحساس قديم، شيء يُنادي داخلي ليعود.
وكلما مشينا، كلما تحدثنا، كلما راقبته أكثر… شعرتُ أنني أنجذب إليه أكثر.
لكنني لم أكن مستعدة للاعتراف بذلك.
ليس بعد.
في نهاية اليوم، عدنا إلى مكان أشبه بالمحطة المركزية لهذا العالم، حيث تمتد المسارات الطائرة إلى كل الاتجاهات، وتتجمع فيها الأضواء بألوان زاهية.
لكن كان هناك شيء… غريب.
الجو لم يكن كما كان في الصباح.
شعرتُ به، بطريقة لا أستطيع تفسيرها.
توقفتُ فجأة، ونظرتُ حولي، محاوِلة أن أفهم ما الذي جعلني أشعر بهذا التوتر المفاجئ.
ثم، رأيتُه.
رجلٌ يقف بعيدًا، يراقبنا.
كان مختلفًا عن الآخرين… كان ثابتًا.
في هذا العالم الذي يتنفس ويتحرك، كان وجوده غريبًا… كأنه شيء لا ينتمي إلى هنا.
التفتُّ إلى سايلوس، لكنني وجدتُه ينظر في الاتجاه ذاته.
عينيه… لم تكونا تحملان الاسترخاء الذي كان عليه طوال اليوم.
بل كانتا باردتين، حادتين… حذرتين.
"سايلوس…" همستُ، قلبي ينبض بسرعة. "من هذا؟"
لكنه لم يجب فورًا.
وبدلًا من ذلك، نظرتُ إلى الرجل مرة أخرى…
وفي اللحظة التي التقت بها عينانا…
حدث شيء غريب.
شعرتُ بألم مفاجئ في رأسي، كأن أحدًا سحبني بقوة إلى الوراء.
تداخلت أصوات في ذهني، صور خاطفة، ذكريات لا أستطيع فك شفرتها
ثم، آخر شيء رأيته قبل أن يغمض وعيي…
هو الرجل يبتسم.
ابتسامة لم تكن لطيفة…
بل كانت وعدًا بشيء قادم.
استيقظتُ على إحساس غريب… لم يكن الهواء كما كان قبل لحظات، ولم يكن المكان ذاته.
كان هناك شيء خاطئ.
جفناي ثقيلان، ورأسي ينبض بألم حاد، وكأن أحدهم عبث بأفكاري قبل أن أفيق. لكن حتى مع هذا التشوش، كان هناك شيء واحد واضح: أنا لستُ على الأرض.
كان هناك ضغط على جسدي، لكن ليس بطريقة مؤلمة… بل كأنني محمولة، محاطة بشيء ثابت ودافئ.
حاولتُ فتح عينيّ بالكامل، وسرعان ما أدركتُ الحقيقة—سايلوس كان يحملني.
بين ذراعيه، جسدي مرفوع بسهولة كما لو أنني لا أزن شيئًا.
لكن الشيء الأكثر إثارة للدهشة…
لم يكن على الأرض أيضًا.
كان يقفز.
من مبنى إلى آخر، من سطح إلى سطح، بخفة وكأنه لا يتبع قوانين الجاذبية التي أعرفها. حركته كانت سلسة بشكل مخيف، كأنه وُلد لهذا، كأنه يستطيع الطيران حتى وإن لم تكن لديه أجنحة.
شهقتُ، يدي تتشبثان بقميصه الداكن لا إراديًا بينما الرياح تضرب وجهي بقوة. "ماذا… ماذا يحدث؟"
لم ينظر إليّ، عينيه كانتا مثبتتين إلى الأمام، وجهه مشدود بتركيز حاد لم أره فيه من قبل. "عليكِ أن تبقي هادئة."
لكنني لم أكن قادرة على ذلك.
التفتُّ سريعًا، وعندها رأيتُه.
ذلك الرجل… الشخص الغريب الذي رأيناه قبل أن أفقد وعيي.
لكنه لم يكن وحيدًا الآن.
كان هناك آخرون.
لم يكونوا طبيعيين… شيء في طريقتهم بالحركة، في الطريقة التي تمايلوا بها مع الرياح، كان… غير بشري.
كانوا أقرب إلى الظلال، كأن أجسادهم لم تكن ثابتة بالكامل، أطرافهم تتلاشى للحظات قبل أن تعود للظهور.
لكن الأخطر من ذلك كله… كانوا يلاحقوننا.
"سايلوس، من هؤلاء؟!" صرختُ، لكن بدلاً من أن يجيب، أطلق صفيرًا قصيرًا، منخفضًا بالكاد سمعته وسط هدير الرياح.
ثم، من العدم، ظهروا.
الغرابان....
جناحان أسودان عملاقان مزّقا الهواء فوقنا، لكنهما لم يكونا مجرد طيور… كنتُ أعرف ذلك منذ اللحظة الأولى التي رأيتهما فيها.
هبطا بسرعة، شكلهما يتغير في الهواء، يلتف ويتحول…
وبحلول الوقت الذي لامسا فيه سطح المبنى المجاور، لم يعودا طائرين.
بل رجلين.
كل منهما يرتدي معطفًا طويلًا، شعرهما أسود كالليل، وعيونهما لامعة مثل شظايا الزجاج تحت القمر. لم يقولا شيئًا، لكن سايلوس لم يكن بحاجة إلى كلمات.
"أوقفوه." كانت أوامره حادة، واضحة.
لم يسألوا، لم يترددوا. في أقل من ثانية، انطلقا، أجسادهما تذوب في الظلام مرة أخرى، تعود إلى هيئة الغربان قبل أن تندفعا بسرعة لا تصدق نحو الرجل الغريب ومن معه.
لم أستطع سوى التحديق.
"ماذا… من هؤلاء؟! ماذا يحدث؟!"
أخيرًا، شعرتُ بسايلوس يشد قبضته حولي، وكأنه أراد أن يتأكد أنني ما زلتُ هنا. نبرته كانت هادئة، لكنها محملة بشيء لم أسمعه فيه من قبل—خوف.
"ليس الآن، تونه."
"لكن—"
"قلتُ ليس الآن." قاطعني، وعيناه ما زالتا مثبتتين على الطريق أمامنا.
لكنني شعرتُ أن الأمر لم يكن مجرد محاولة لتجنب السؤال…
بل كان يحاول منعي من معرفة الحقيقة.
واصلنا التحرك، القفز من مبنى إلى آخر، الهواء يصرخ حولنا، والخطر يطاردنا بلا هوادة.
رغم كل شيء، رغم الخوف، رغم الأسئلة التي لم تُجب بعد…
لم أستطع تجاهل شيء واحد.
وجودي بين ذراعيه.
الطريقة التي حملني بها، كما لو أن تركي يسقط لم يكن خيارًا أبدًا.
الطريقة التي تحرك بها، كيف كان يراوغ، كيف كان يسبقهم بخطوات، كأن العالم كله لوحة شطرنج وهو الوحيد الذي يرى المستقبل.
ورغم كل ما كان يحدث…
رغم أنني كنت في منتصف مطاردة، وأنني لا أفهم نصف ما يجري…
كان هناك شيء آخر يطرق على أبواب وعيي.
سايلوس… كان خائفًا عليّ.
وكان هذا كافياً ليشعر قلبي بشيء لم أكن مستعدة للاعتراف به بعد