لكن قبل أن أستطيع استيعاب كل ذلك، حدث ما لم يكن في الحسبان.
قفز سايلوس إلى سطح آخر، لكنه لم يتوقف.
بل فجأة… اختفى المبنى أمامنا.
لا، لم يختفِ… بل انهار.
كأن شيئًا غير مرئي مزقه من الداخل، تفككت الجدران، وانهارت الأرضية، ووجدتُ نفسي أسقط معه.
شهقتُ، لكنني لم أسقط وحدي.
يد سايلوس شدتني إليه بقوة، وبدلًا من أن نهوى للأسفل…
انعطف في الهواء.
بسرعة غير طبيعية، التف جسده، استخدم ذراعه الحرة للإمساك بحافة معدنية، ثم أطلق نفسه مجددًا للأعلى.
كأن الجاذبية لم تكن قادرة على لمسه.
حاول الهبوط على السطح المجاور، لكنه كان قد تضرر بالفعل… لم يكن مستقرًا.
وفي اللحظة التي لامستْ فيها قدمه الأرض، حدث الشيء الذي لم يكن في الحسبان.
ظهر الرجل أمامنا.
لا أعلم كيف فعلها، لكنه كان هناك، واقفًا بثقة، كأنه لم يكن يطاردنا… بل كان ينتظرنا.
سايلوس توقف فورًا، قبضته ما زالت حولي، عيناه لمعتا بغضب قاتم.
"لا تقترب أكثر." قالها بصوت منخفض، لكنه كان أكثر تهديدًا مما سمعته منه من قبل.
لكن الرجل فقط ابتسم.
ابتسامة بطيئة… خطيرة.
ثم، وأخيرًا… تحدث.
"لقد وجدتُكِ أخيرًا، تونه."
لم أشعر بقدمي تلامسان الأرض إلا عندما قرر سايلوس ذلك.
كان الهواء لا يزال مشحونًا، وكأن العالم نفسه كان يحبس أنفاسه، يترقب ما سيحدث بين هذين الرجلين.
بمجرد أن أنزلني، وجدتُ نفسي أتراجع تلقائيًا، أقف خلفه. لم يكن قرارًا واعيًا… جسدي ببساطة تحرك وحده.
كان الشعور غريبًا—أن أرى شخصًا يقف كجدار بيني وبين التهديد، وكأنه الدرع الوحيد الذي يمنع العاصفة من اجتياحي.
لكنني لم أكن الوحيدة التي لاحظت ذلك.
الرجل الآخر ابتسم ابتسامة بطيئة، عيناه تنقلت بيني وبين سايلوس كما لو أنه وجد شيئًا ممتعًا في هذا المشهد.
"حسنًا، حسنًا…" قال بصوت مرح بشكل زائف، يرفع يديه في حركة استسلام غير جادّة. "لا حاجة لكل هذا العنف، صديقي القديم."
صديقي القديم؟
عبستُ، نظرتُ إلى سايلوس لأجد وجهه متحجرًا بالكامل.
كانت هذه أول مرة أراه بهذه الطريقة… كان دائمًا متحكمًا، واثقًا، وحتى مغرورًا أحيانًا، لكن هذه المرة؟
هذه المرة، كان هناك شيء آخر تحت تلك الملامح الجامدة—شيء قاتم.
"لا تجرؤ على مناداتي بذلك."
كلماته خرجت هادئة… لكنها حملت خلفها شيئًا قاتلًا.
لكن الرجل لم يتأثر، بل فقط ضحك، وكأنه استمتع بردة الفعل أكثر مما توقع.
"أوه، هيا، سايلوس. كنا أصدقاء يومًا، أليس كذلك؟" قالها بصوت متكلف، كأنها مزحة لا أكثر، ثم أضاف بابتسامة جانبية: "أو على الأقل… كنتُ أعتبرك كذلك."
رأيت كيف شدّ سايلوس قبضة يده، كيف تقلّصت عيناه ببرود واضح، كيف وقف كما لو كان مستعدًا لإنهاء هذه المحادثة بالقوة في أي لحظة.
لكنني لم أفهم…
من هذا الرجل؟
ولماذا أشعر أن هذه المواجهة ليست مجرد ملاحقة عادية؟
"أنت لم تأتِ لمجرد رؤيتي." قالها سايلوس أخيرًا، نبرته كانت تحمل شيئًا خفيًا، وكأنه يتحداه أن يكشف نواياه الحقيقية.
وهنا، تغيرت ملامح الرجل ببطء.
لم يتغير وجهه فعليًا، لكنه تغير.
تلك الابتسامة اللطيفة؟ لم تعد تبدو لطيفة.
ذلك المرح في صوته؟ بدأ يشعرني بالقشعريرة بدلًا من الطمأنينة.
كأن هذا الرجل كان يرتدي قناعًا… قناعًا لم يكن حقيقيًا أبدًا.
"حسنًا، حسنًا…" قال بصوت أكثر انخفاضًا، خطا خطوة صغيرة للأمام، لكن سايلوس لم يتحرك، فقط ثبت مكانه كالصخرة.
ثم، بابتسامة صغيرة، أضاف:
"جئتُ من أجلها."
جاءتني الجرأة فجأة، كأن شيئًا في داخلي رفض أن يبقى صامتًا أكثر.
خطوتُ للأمام قليلًا، محاذيةً لسايلوس، ثم نظرت إلى الرجل مباشرة وسألته بصوت ثابت، رغم أن قلبي كان يخفق بجنون:
"من أنت؟"
ابتسم.
لم تكن ابتسامة مرحة كما حاول أن يدّعي طوال الوقت… كانت أقرب إلى ابتسامة صائد يرى فريسته تتقدم نحوه دون أن تدرك المصيدة التي دخلتها.
"أوه، عزيزتي، كنتُ أتساءل متى ستسألين." قال بصوت مخملي، ناعم جدًا لدرجة جعلتني أرغب في الابتعاد فورًا.
ثم، بعناية، وضع يده على صدره وانحنى قليلًا في حركة مسرحية مبالغ بها، كأنه يقدم نفسه لملكة:
"اسمي كايلب، ويسعدني أن أخدمكِ، آنستي."
خدمتي؟
شعرت بقشعريرة تسري في ظهري، لكنني تماسكت وسألته بصوت أكثر حدة:
"خدمتي؟ ماذا تقصد؟"
رفع حاجبه قليلًا، وكأن سؤالي كان سخيفًا، ثم أمال رأسه وهو يراقبني بعينين لامعتين.
"ألا تتذكريني؟" قالها بلطف مستفز، ثم ابتسم أكثر، وكأنه يستمتع بكل لحظة من هذا اللقاء.
"أنا أعمل لدى والدكِ."
تجمدتُ.
شعرت ببرودة غريبة تملأ عروقي، وكأن الهواء من حولي أصبح أكثر كثافة، أكثر ثقلًا.
"لدى والدي…؟" كررتُ بصوت شبه هامس، كأنني أحاول استيعاب الكلمات قبل أن أصدقها.
"ليس مجرد عمل، عزيزتي." قال وهو يلوّح بيده بكسل. "أنا في منصب مقرب جدا لديه."
التفتت إلى سايلوس على الفور، لكن ملامحه لم تتحرك قيد أنملة. كان فقط يراقب كايلب بصمت، عيناه مظلمتان كأنهما محيط بلا قاع.
لكنني لم أكن بحاجة إلى تفسير منه… لأنني كنت أشعر بشيء خاطئ.
شيء كان يثقل الجو بيننا، يجعل هذه المحادثة تبدو كأنها أكثر من مجرد كلمات.
كايلب لم يكن هنا مصادفة.
ولم يكن يمزح.
وقف كايلب اقرب أمامي، لا يزال يحتفظ بابتسامته الهادئة، لكنني كنت أرى ما تحته… كنت أرى خبثًا خفيًا، شيئًا جعلني أرغب في التراجع، رغم أنني تشبثت بمكاني.
حاولت أن أستوعب كلماته.
يعمل لدى والدي؟ في منصب مقرب له؟
لكن… كيف؟ متى؟ ولماذا يظهر الآن؟
شعرت بعيون سايلوس تراقبني، كأنه كان ينتظر ردة فعلي، لكنني لم أتمكن من النظر إليه بعد. كان عقلي يحاول فهم الحقيقة الجديدة التي سقطت فوقي فجأة.
كايلب لاحظ ارتباكي، وأطلق ضحكة خفيفة، كأنه يستمتع باللعبة التي بدأها.
"أوه، لا تنظري إليّ هكذا، تونه." قال بصوت مرح، ثم أضاف بصوت أكثر انخفاضًا: "أنا في صفكِ، أقسم بذلك."
في صفي؟
لا، لا شيء في هذا الرجل يوحي بأنه في صفي.
لم أكن أعرفه، لكنني شعرت أنني لا أريد معرفته أكثر.
"إذا كنت في صفي…" سمعت صوتي يخرج أكثر صلابة مما توقعت. "لماذا لم أركَ من قبل؟"
لمعت عيناه، ثم رفع إصبعًا كما لو أنني طرحت سؤالًا ذكيًا.
"سؤال ممتاز!" قال بحماسة زائفة، ثم أضاف بابتسامة أكثر اتساعًا، "لكن دعينا نقول فقط… أن الوقت لم يكن مناسبًا؟."
الوقت؟
شعرت بأنفاسي تتباطأ قليلًا.
هناك شيء مخفي هنا.
شيء يجعلني أرغب في الابتعاد فورًا، لكنه أيضًا يجعلني أرغب في البقاء لمعرفة المزيد.
لكن قبل أن أنطق بأي كلمة أخرى، سمعت صوت سايلوس أخيرًا.
كان منخفضًا، لكنه حمل شيئًا جعل الهواء بيننا يصبح أكثر برودة.
"كفى عبثًا، كايلب."
التفتّ إليه فورًا، ونظرت إليه عن قرب لأول مرة منذ بداية هذا الحوار.
كانت ملامحه جامدة كالحجر، لكنني رأيت التوتر الخفي في فكه، في الطريقة التي وقفت بها كتفاه.
لقد كان غاضبًا.
لكن ليس غضبًا مشتعلًا… كان غضبًا باردًا، مدروسًا، مميتًا.
كايلب، على عكس المتوقع، لم يتراجع. بل رفع يديه وكأنه يستسلم بمزاح.
"حسنًا، حسنًا، لا داعي لأن تكون رسميًا لهذه الدرجة، سايلوس." قال وهو يميل رأسه قليلًا، ثم نظر إليّ مجددًا.
"على أي حال، عزيزتي تونه، أنا هنا لأقودكِ إلى حيث تنتمين."
إلى حيث أنتمي؟
هذه الكلمات وحدها كانت كافية ليشتعل قلبي بمزيج من الرفض والخوف.
التفتُ إلى سايلوس مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن يراقبني.
كان ينظر مباشرة إلى كايلب، عينيه تشعّان بذلك الوهج الأحمر العميق، كأنهما جمرتان في ظلام دامس.
وعندها… أدركت شيئًا.
هذا لم يكن مجرد لقاء عابر.
هذا كان تهديدًا.
وإن لم أكن حذرة… فقد لا يكون هناك طريق للعودة.
راقبته وهو يبتسم بثقة، وكأن كلماته لم تكن سوى حقيقة واضحة لا تقبل الشك.
"فقدانكِ للذاكرة أمر مزعج حقًا، تونه." قالها كايلب بصوت هادئ، لكنه حمل في طياته نبرة خفية لم أستطع تفسيرها.
اقترب مني خطوة، ثم أضاف، وعيناه تتفحصان وجهي كأنه يبحث عن شيء:
"لقد نسيتِ كل لحظاتنا معًا… كل شيء كنّا عليه."
شعرت بصدري يضيق…
لحظاتنا؟
عن أي لحظات يتحدث؟ من هذا الرجل حقًا؟ ولماذا يشعرني وكأنني كنتُ أعرفه يومًا ما؟
"أنت تكذب." سمعت صوتي يخرج أقرب إلى الهمس، لكنه لم يختفِ.
ابتسامته لم تتغير، لكنه رفع يده ليعدل طرف قفازه الجلدي الأسود، ثم قال:
"أوه، لا أحب الكذب، تونه. لكني أتفهم ارتباككِ."
كان صوته هادئًا جدًا، لكن في داخله قوة غريبة، كأنه واثق تمامًا مما يقول، وكأن الحقيقة معه وحده.
وقبل أن أتمكن من قول أي شيء آخر، انحنى قليلًا، ناظرًا إليّ بعيونه الكحليه الداكنة، وقال:
"سأمنحكِ فرصة لاسترجاع كل شيء… تعالي للقائي وسأخبركِ بكل شيء بنفسكِ."
حدّق بي للحظات، ثم همس بابتسامة ساخرة:
"لديكِ وقت حتى غروب الغد."
وفي رمشة عين… اختفى.
لا صوت، لا حركة… فقط فراغ كان يقف فيه قبل لحظات.
أخذت خطوة إلى الخلف، أنفاسي خرجت ثقيلة، بينما ما زالت عيناي عالقتين في المكان الذي كان فيه.
ماذا… كان هذا؟
كيف… اختفى بهذه السرعة؟
ولماذا… لماذا شعرتُ وكأن شيئًا بداخلي قد اهتزّ لحظة سماع صوته؟
قبل أن أغرق أكثر في أفكاري، سمعت صوتًا منخفضًا خلفي، صوتًا جعلني أعود إلى الواقع.
"تونه."
استدرت فورًا، وعيناي التقت بعيني سايلوس.
كانت نظراته باردة، لكنها حملت خلفها اضطرابًا لم أره فيه من قبل.
لم أنتظر منه أن يتحدث. لا، هذه المرة لن أبقى صامتة.
"أخبرني، سايلوس." قلتها مباشرة، دون تردد. "من هو كايلب؟ وماذا يقصد بأنه كان شخصًا مقربًا مني؟ وما علاقته بأبي؟"
راقبني سايلوس بصمت للحظات، ملامحه لا تزال متحجرة.
لكنني رأيت ذلك التوتر الخفي في يده، في الطريقة التي كان يقبض بها على طرف معطفه الجلدي.
هو لا يريد أن يخبرني…
لكنه لا يستطيع الهروب هذه المرة.
"لا تكذب عليّ، سايلوس." قلتها وأنا أخطو نحوه، نظراتي لا تترك عينيه. "لا مزيد من الألغاز، لا مزيد من التلميحات… أخبرني كل شيء."
كان الهواء بيننا مشحونًا، وكأن العالم كله ينتظر جوابه.
ثم… بعد لحظة صمت طويلة، زفر سايلوس أخيرًا، وأخفض عينيه للحظة، قبل أن يعيدهما إليّ مجددًا، لكن هذه المرة…
كان هناك شيء قاتم في نظراته.
شيء جعلني أدرك أن الحقيقة التي سأسمعها… قد تكون شيئًا لم أكن مستعدة له أبدًا.
ظل سايلوس يراقبني بصمت، ملامحه لم تتغير، لكنني كنت أعرف أنه لم يكن يفكر في شيء بسيط. كان يقيس كلماته، يقرر كم من الحقيقة يمكنني أن أتحمل الآن.
لكنني لم أعد أطيق المزيد من الأسرار.
"سايلوس، تكلم." قلتها بحزم، عيني لم تترك عينيه.
أخفي تنهيدة ثقيلة، ثم نظر بعيدًا للحظة قبل أن يعود إليّ بنظرة غامضة. "حسنًا… استمعي جيدًا، تونه، لأن هذا ليس شيئًا يمكنكِ نسيانه مجددًا."
ارتفع التوتر بيننا، وكأن الهواء نفسه بدأ يثقل.
"قبل أن تلتقي بي… كنتِ تعيشين حياة مختلفة تمامًا."