"قبل أن تلتقي بي… كنتِ تعيشين حياة مختلفة تمامًا."
تراجعت خطوة، شيء ما في نبرته جعلني أشعر أنني على وشك سماع شيء لا يمكنني الرجوع عنه.
لكنني لم أقاطعه.
"كنتِ تعملين لدى والدكِ… رئيس منظمة الأمن الفضائي."
شعرت بجسدي يتجمد للحظة، لكنني لم أقل شيئًا، فقط انتظرته ليكمل.
"لم تكوني مجرد شخص عادي في المنظمة، تونه." أضاف، عينيه تضيقان قليلاً. "لقد كنتِ… سلاحًا."
شعرت بقلبي يتوقف للحظة، وكأن كلماته سحبت الهواء من حولي.
"كنتِ تعيشين بلا كلل، بلا مشاعر، تنتقلين من عالم لآخر لتنفيذ المهام التي يطلبها منكِ والدكِ… لم يكن لديكِ شيء آخر سواه."
حاولت أن أنكر، أن أقول إن هذا مستحيل، لكنني لم أستطع.
لأنني، في داخلي، شعرت أن كلماته تحمل حقيقة غامضة… شعرت بها تطرق على باب ذاكرتي، تهمس لي أنني قد عرفتها يومًا ما.
بلعت ريقي، وأخذت نفسًا مرتعشًا. "و… أمي؟ وأخي؟"
شيء ما تغير في وجه سايلوس. تلك القسوة الباردة التي اعتدت عليها فيه هدأت قليلًا، وكأنه يعلم أن الإجابة لن تكون سهلة عليّ.
"لقد… فقدتهمِ في حادث غامض."
تجمدت أنفاسي.
"أبيكِ أخبركِ أنه كان من فعل أحد الأعداء." تابع، نبرته منخفضة، لكنها حادة كالسيف.
وضعت يدي على صدري، شعرت وكأن شيئًا بداخلي ينكسر، رغم أنني لم أستطع تذكر أي شيء بوضوح.
لكنني… شعرت بالألم.
"وكايلب؟" خرجت كلمتي بصعوبة، وكأنني أخشى الجواب.
سايلوس ابتسم ابتسامة جانبية، لكنها لم تكن ساخرة هذه المرة… بل كانت مليئة بشيء آخر، بشيء يشبه الاشمئزاز الخفي.
"كايلب… كان اليد اليمنى لوالدكِ." قالها ببطء، وكأنه يمنحني الوقت لاستيعابها. "لقد رباه منذ صغره، وكان يرى فيه الوريث المناسب له."
كان صوته يحمل شيئًا مظلمًا، شيئًا جعل معدتي تنقبض.
"كانوا ينادونه بالجنرال الفولاذي." تابع سايلوس، عيناه تضيقان قليلاً. "بسبب قوته، قسوته، وشخصيته الدبلوماسية المخادعة."
تنفست بعمق، محاولة ترتيب أفكاري.
"إذًا… كايلب لم يكن يكذب عندما قال إننا كنا مقربين؟"
نظر إليّ سايلوس، وعيناه عكستا شيئًا لم أستطع فهمه تمامًا.
"هذا يعتمد على تعريفكِ لـ'المقربين'." قالها ببطء، ثم اقترب مني قليلًا، حتى أصبح وجهه قريبًا من وجهي.
"كان يراكِ شيئًا ثمينًا، تونه."
توقفت أنفاسي.
"ليس لأنه كان يهتم بكِ…" تابع، نبرته تحمل شراسة خفية. "بل لأنكِ كنتِ أقوى سلاح امتلكه والدكِ، ووجودكِ بجانبه يعني السلطة."
لم أعلم متى بدأت يداي ترتجفان، لكنني شعرت بالبرد يزحف إلى داخلي.
كايلب… كان كذلك؟
لكن… لماذا لم أشعر بأنه يكذب عندما تحدث معي قبل قليل؟ لماذا بدا وكأنه… يعرفني بطريقة لم أكن أفهمها؟
سايلوس لم يترك لي مجالًا للغرق أكثر في أفكاري، إذ قال بصوت حاد:
"هذا هو الرجل الذي حدّد موعدًا للقائكِ، تونه."
نظر إليّ مباشرة، كأنه يقيّم ردة فعلي.
"السؤال هو… هل ستذهبين؟"
وقفت هناك، صامتة، بينما داخلي كان عبارة عن إعصار من الفوضى.
اللقاء… غروب الغد… كايلب… كل شيء كان يبدو كقطعة مفقودة من اللغز الذي لم أكن أعرف حتى أنني أملكه.
لكنني كنت أعلم شيئًا واحدًا…
"لن أجد الإجابة إذا بقيتُ هنا فقط."
لم يبدُ على سايلوس أي تعبير عندما أخبرته بقراري، لكنني شعرت بشيء غامض خلف عينيه الفضيتين، شيئًا لم أتمكن من قراءته بالكامل.
"يجب أن أقابله، سايلوس." قلت بهدوء، لكن بحزم.
ظل ينظر إليّ للحظات، ثم ضحك ضحكة صغيرة، لكنها لم تكن مرحة تمامًا. "بالطبع ستفعلين."
"أنا جادة." تقدمت خطوة نحوه، عيناي لا تتركان عينيه. "لكل قصة جانبان… يجب أن أستمع لكل شيء قبل أن أقرر ما هو حقيقي وما هو كذب."
هذه المرة، لم يبتسم. فقط نظر إليّ بصمت، وكأنه يقيم كلماتي.
ثم، أخيرًا، زفر بصوت منخفض وقال: "أفترض أنكِ لن تتراجعي عن هذا، أليس كذلك؟"
"لا."
بدا وكأنه كان يتوقع إجابتي، لكنه لم يُظهر أي اعتراض لفظي.
"حسنًا، إذن… استمعي له، ولكن لا تنسي أن بعض الكلمات يمكن أن تكون أسلحة أكثر فتكًا من السيوف."
كانت كلمات سايلوس مثل تحذير بعيد، لكنه لم يكن يعترض على قراري. على العكس، كان صمته يشير إلى شيء آخر، شيء أعمق. شدَّ أصابعه قليلاً، وكأن ملامحه صارت أكثر صلابة، أكثر توترًا.
ثم، بدون تحذير آخر، استدار وبدأ في الابتعاد. لكنه توقف فجأة وأخذ هاتفه، وهو ينضر لي نظرة أخيرة. كانت عيناه مليئة بشيء من القلق الذي لم أره فيهم من قبل.
ثم اختفى من المكان مسرعًا، غارقًا في عتمة الشارع
—
بعد أن غادر سايلوس، وجدت نفسي وحدي للمرة الأولى منذ انهيار عالمي القديم.
وقفت هناك، في قلب هذه المدينة المعدنية المتلألئة، وأنا أتساءل… إلى أين أذهب الآن؟
لقد دُمر العالم الذي كنت أعيش فيه، العالم الذي كنت أظن أنه حقيقي.
لكن… هل يعني ذلك أنني يجب أن أبدأ من الصفر؟ أم أنني كنت مجرد نسخة جديدة لنفس الشخص القديم؟
رفعت بصري إلى السماء المليئة بالأضواء النيونية، والسفن العائمة، والشبكات الرقمية التي تشبه العروق المضيئة في كيان هذا العالم.
لأول مرة، شعرت بأنني بلا جذور.
لكن ربما… ربما هذه ليست نهاية القصة.
ربما هذه كانت البداية فقط.
تقدمت خطواتي ببطء فوق الأرصفة المعدنية، حيث تلتمع الأرضية تحت أضواء النيون المنعكسة من اللوحات الإعلانية الطائرة. الهواء كان مشبعًا بروائح غريبة، مزيج من المعدن الساخن والبلاستيك المحترق ونفحات العطور الاصطناعية التي كانت تتسرب من محلات مصممة كأنها تنتمي لعالم آخر. كنت وحدي.
لم أكن أعرف إلى أين أذهب، أو حتى أين أقف. شعرت وكأنني شبح يتجول في مدينة لا تتعرف عليه.
أشخاص بوجوه محايدة مرّوا بجانبي دون أن يلاحظوا وجودي، أو ربما كنت أنا من لا يلاحظهم. لم أكن أملك أي شيء سوى ملابسي وجسدي المرتبك في هذا العالم الذي لم أعد أميز حدوده. أهذا واقع؟ حلم؟ أو هل أنا مجرد ظل في ذاكرة شخص آخر؟
لم أدرك كم من الوقت مضى قبل أن أشعر بتلك النظرة تخترقني.
رفعت عيني ببطء… كان هناك غراب.
وقف فوق أحد الأعمدة، جناحاه السوداوان مطويان بإحكام، وعيناه الداكنتان تتابعانني بصمت. لم يكن مجرد طائر، كان يراقبني، يختبرني.
خفق قلبي، لكنني لم أتحرك.
لقد رأيت غرابًا مثله من قبل… هناك، في حافة وعيي المشوش، في اللحظات التي كنت فيها بين النوم واليقظة، رأيته يحلق حولي بينما كان سايلوس يتحدث معه. كنت شبه غائبة عن الوعي وقتها، لكنني لم أكن واثقة إن كان ما رأيته حقيقة أم مجرد وهم آخر من أوهامي المتزايدة.
لكن الآن… هذا الغراب كان هنا، يحدق بي، وكأنه يعرفني.
"أهذا أنت؟" همست، وكأنني أتوقع منه إجابة.
لم يتحرك.
لم يرفرف بجناحيه، لم يصدر صوتًا، فقط راقبني.
ثم فجأة، كما لو كان يستجيب لنداء غير مسموع، خفق جناحاه مرة واحدة وطار إلى الأمام، لمسافة قصيرة، ثم استدار لينظر إليّ مرة أخرى.
ينتظر.
دعاني...
شعرت بقشعريرة تمر على عمودي الفقري، لكنني لم أتردد.
تبعت الغراب...
مشيت خلفه عبر أزقة ضيقة تفوح منها رائحة الماضي، حيث تلتقي التكنولوجيا الحديثة مع آثار العالم القديم. كان يطير ببطء، وكأنه يحرص على ألا أفقده، يختفي خلف الزوايا ليعاود الظهور، متأكدًا من أنني أتبعه.
كل شيء بدا هادئًا على نحو غريب. لم يكن هناك أحد غيري وغير ذلك الغراب.
أخذني إلى منطقة أقل ازدحامًا، حيث لا أضواء نيون، ولا لوحات إعلانية ضخمة، فقط الشوارع المبللة والظلال الطويلة التي تلقيها أعمدة الإنارة الباهتة.
في النهاية، قادني إلى زاوية مظلمة حيث وقفت سيارة سوداء فاخرة، كأنها تنتمي إلى طبقة من الأشخاص الذين لا يمشون أبدًا في هذه الشوارع.
توقفت، أتنفس ببطء، أحدق في السيارة ثم في الغراب.
وفجأة، حدث شيء لم أكن مستعدة له.
في غمضة عين، لم يعد هناك غراب.
كان هناك رجل.
حدقت في المشهد أمامي، مشلولة من الصدمة.
كان رجلا في الخمسين من عمره تقريبا طويل القامه، له ملامح حادة وقوية، شعر أسود فاحم وعينان تحملان بقايا من الغراب الذي تبعته. وقف بثقة واناقه، وكأن التحول من طائر إلى إنسان لم يكن سوى أمرًا معتادًا بالنسبة له.
فتح باب السيارة ببطء، ثم انحنى قليلًا كما لو كان خادمًا مخلصًا أمام سيدته.
"تفضلي، سيدتي." قال بصوت هادئ، لكن فيه نبرة من السلطة المخفية.
شعرت برجفة خفيفة في يدي. لم أكن واثقة مما يحدث. كان يجب أن أركض؟ أهرب؟ أم أنه كان عليّ الدخول؟
لم يكن لدي خيار.
بخطوات حذرة، اقتربت وجلست داخل السيارة، يلفني الحذر والشك، فيما أغلق الرجل الباب خلفي بلطف. لم يتحرك بسرعة، لم يبدُ عليه التوتر أو العجلة، كأنه كان يعرف أنني سأدخل في النهاية.
أخذ مكانه في المقعد الأمامي، وضغط على زر خفي، مما جعل النوافذ تعتم تمامًا.
أصبحنا معزولين عن العالم.
"من أنت؟" سألت، صوتي ثابت رغم توتري.
لم يلتفت إليّ وهو يشغل السيارة، لكنني رأيت انعكاس ابتسامة خفيفة على زجاج النافذة.
"أنا خادم مخلص." قال بهدوء. ضغطت على قبضتي. "خادم لمن؟"
هذه المرة، التفت لينظر إليّ مباشرة عبر المرآة، وعيناه السوداوان تحملان شيئًا لا يمكن تفسيره.
"لمن تظنين؟" قال ببساطة.
سايلوس.
كان الجواب واضحًا.
ارتفعت أنفاسي، وأنا أدرك أنني لم أكن مجرد فتاة ضائعة تتبع طائرًا في المدينة.
لقد كنت مُراقبة.
ومنذ البداية…
كنت محميه؟.
ام مستهدفه ؟ .
عندما انطلقت السيارة، لم أكن أعرف إلى أين يأخذني هذا الرجل، لكن شيئًا في داخلي أخبرني أنني كنت أسير مباشرة إلى مكان لا يمكنني العودة منه بسهولة.
ولكن، أليس هذا ما كنت أبحث عنه طوال الوقت
؟الإجابات؟
الحقيقة؟
ام كنت فقط أغرق أكثر في عالم لا أستطيع حتى أن أحدد إن كان وهمًا أم حقيقة؟
تحركت السيارة بسلاسة، كأنها تنزلق فوق الهواء بدلاً من العجلات. جلست في مقعدي بصمت، أراقب المدينة التي بدأت تتغير أمام ناظريّ. لم يكن هذا المكان يشبه أي شيء رأيته من قبل.
أضواء النيون كانت تملأ الشوارع، تشكل أنماطًا هندسية على واجهات المباني الشاهقة، تومض كنبضات إلكترونية في جسد المدينة النابض بالحياة. السيارات العائمة كانت تنزلق فوق المسارات المغناطيسية، ترتفع وتنخفض بسلاسة دون أي صوت يُذكر سوى همسات الطاقة المتدفقة حولها. كانت الطرق متشابكة كشبكة عنكبوت ضخمة من الضوء، والمباني ترتفع حتى تكاد تلامس السحاب، كلها تتوهج بألوان تتغير مع الوقت، كأنها كائنات حية تتنفس مع المدينة.
لم أكن أعرف كم من الوقت بقيت أحدق، لكن الشعور بالرهبة لم يتركني.
"لم تتوقعي هذا، أليس كذلك؟" جاء صوت السائق الهادئ، لكنه لم يكن يحمل سخرية، بل مجرد ملاحظة محايدة.
هززت رأسي ببطء. "لم أكن أعلم أن العالم يمكن أن يكون... هكذا."
"إنه ليس العالم." قال وهو يزيد من سرعة المركبة. "إنه عالمه."
قبل أن أتمكن من سؤاله عمن يقصد، شعرت بجسدي ينجذب للخلف قليلاً مع التسارع المفاجئ. نظرت من النافذة واتسعت عيناي…
السيارة لم تعد تسير على الطرقات.
بدأت ترتفع. كانت تطير.!
لم يكن هناك أجنحة، ولا أي صوت يشير إلى آلية معقدة تدفعها للأعلى، ومع ذلك، وجدنا أنفسنا نحلق في الهواء بسلاسة مذهلة. تحتي، تلاشت شوارع المدينة تدريجيًا، والضوء تحول إلى شبكة بعيدة من النبضات الكهربائية. كنت أشعر كما لو أنني أعبر بُعدًا آخر، كما لو أنني أنتمي لعالم قديم تم استبداله دون أن أدرك.
"كيف…؟" تمتمت، غير قادرة على إنهاء السؤال.
"التكنولوجيا هنا ليست كما تعتقدين." قال السائق ببساطة. "كل شيء في هذا العالم تم تصميمه ليتناسب مع قوة صاحبه."
"صاحبه؟"نظر إليّ عبر المرآة، وعيناه السوداوان تلمعان بانعكاس الأضواء. "سايلوس."
شعرت بقشعريرة تمر عبر عمودي الفقري، كما لو أن مجرد اسمه كان يحمل وزنًا ثقيلًا لا يمكنني فهمه بعد.
ارتفعت السيارة أكثر، وشعرت بضغط خفيف في أذني، كأنني أصعد إلى ارتفاع شاهق. ثم، ببطء، بدأت بالانخفاض مجددًا. لم تكن وجهتنا مجرد مبنى آخر.
كانت قلعة.!!