هبطت السيارة بهدوء أمام مدخل ضخم، والأنوار الخافتة تسلط ظلالًا طويلة على الأرضية المصقولة. عندما فتحت الباب، شعرت بأنفاسي تتباطأ للحظة.
كانت القلعة أمامي تحفة فنية تجمع بين الفخامة والرهبة.
اللون الأسود كان الطاغي، يتخلله الأحمر العميق الذي بدا كدماء مجمدة داخل الأحجار العتيقة. البناء لم يكن حديثًا تمامًا، لكنه لم يكن قديمًا أيضًا—بل مزيج غريب من الإثنين، وكأن القلعة تنتمي إلى حقبة غير موجودة في أي تاريخ معروف.
حديقة واسعة امتدت أمامها، مزينة بتماثيل رخامية مظلمة، وأزهار نادرة ذات ألوان عميقة كأنها جواهر مزروعة في الأرض. النوافير كانت تعمل بهدوء، والمياه تنساب منها بصمت أشبه بالهمس.
الخدم كانوا في كل مكان، يتحركون في صمت، يرتدون زيًا أنيقًا من اللونين الأسود والأحمر، وجوههم محايدة، لا عاطفة فيها. أما الحراس… فقد كانوا كالأشباح، يقفون في زوايا الظلال، يرتدون الأسود بالكامل، عيونهم تراقب كل شيء دون أن ترف.
كان المكان ينبض بالقوة… وبالتهديد الصامت.
"من هنا، سيدتي." قال السائق بعد أن خرج من السيارة، مشيرًا لي أن أتبع خطواته.
لم يكن هناك خيار آخر، فمشيت خلفه، أشعر بعيون غير مرئية تراقبني من كل زاوية.
عندما وصلنا أمام باب ضخم، وقف السائق جانبًا وانحنى قليلًا.
"يمكنك الدخول الآن."
لم أتحرك على الفور. نظرت إلى الباب المصنوع من الخشب الداكن، المحفور بنقوش معقدة، كأنها تحكي قصة قديمة لم يُكتب لها أن تُنسى.
ثم، أخذت نفسًا عميقًا، ودخلت.
كان المكان… مذهلًا.
الغرفة كانت مكتبة فاخرة، سقفها عالٍ بشكل غير معقول، والجدران مغطاة بأرفف مليئة بالكتب التي تبدو وكأنها تعود لقرون مضت. شمعدانات ذهبية معلقة على الجدران، وأضواء خافتة تلقي ظلالًا طويلة على السجاد الفاخر.
وسط كل هذا، جلس سايلوس.
كان مسترخيًا على أريكة حمراء مخملية، تبدو وكأنها صنعت خصيصًا له.
يرتدي بدلة سوداء بالكامل، مفصلة بدقة على جسده القوي، تعكس الأناقة المطلقة. شعره الفضي كان يلمع تحت الضوء الناعم، كأنه شظايا ضوء القمر تجمعت في خصلاته. أما عيناه… فكانتا مشتعلة بلون أحمر عميق، كجمر خافت خلف زجاج أسود.
في يده، كان يحمل كأسًا من النبيذ الفاخر، يديره ببطء بين أصابعه كما لو كان يستمتع بمراقبة السائل الداكن يدور في زجاجه.
وعندما التقت عيوننا، ارتسمت على شفتيه ابتسامة مغرورة… ممتلئة بالثقة.
"أخيرًا." قال بصوت هادئ، لكنه اخترق الغرفة كلها.
"أهلاً بكِ، تونه.......في منزلي المتواضع"
اكتف يدي واسأله بصوت منزعج . "لما تركتني سابقا ان كنت ستجلبني الى هنا بكل من الاحوال .."
لم يبدُ على سايلوس أي تعبير عندما ألقيت سؤالي في الهواء، لكن شيئًا في وقفته تغيّر. كانت ملامحه لا تزال تحمل تلك الثقة المتغطرسة، لكن عينيه… عينيه بدا فيهما شيء مختلف، كأنما كنت قد لمست شيئًا لم يكن يودّ أن أقترب منه.
رفعتُ ذقني، انتظرتُ جوابه. لكنه، وكعادته، لم يكن مستعجلًا للرد.
"لما تركتني سابقًا إن كنت ستجلبني إلى هنا في كل الأحوال؟" كررتُ، بصوت أكثر ثباتًا.
أخيرًا، أمال رأسه قليلًا، وعادت تلك الابتسامة البطيئة إلى شفتيه.
"لأنني أردتُ أن أرى إن كنتِ ستعودين إليّ من تلقاء نفسك."
ضاقت عيناي. "هذا ليس جوابًا."
رفع كتفيه بلا مبالاة، وكأنه يخبرني ضمنيًا أنني لن أحصل على شيء آخر.
"ظننتُ أنكِ تكرهين أن يتم التحكم بكِ، تونه. فلماذا يزعجكِ أنني تركتُ لكِ بعض الحرية؟"
شعرتُ بشيء ساخن يتجمع في صدري، مزيج من الغضب والإحباط. "حرية؟ أنت من أرسل ذلك الرجل ليجلبني إليك، سايلوس. لم يكن لديّ خيار آخر!"
اقترب، خطواته هادئة، لكنها حملت معها شعورًا غريبًا جعلني أتراجع لا إراديًا. "لكنّكِ صعدتِ إلى السيارة بإرادتك، أليس كذلك؟"
لم أجب. لم أرغب في منحه ذلك الانتصار.
رأيته يراقبني بصمت، كأنه يحاول قراءة كل شيء كنت أفكر فيه. ثم، بهدوء، مال إلى الوراء وأمسك بكأس النبيذ الفاخر، وأداره قليلًا بين أصابعه قبل أن يرتشف منه رشفة صغيرة.
"لديكِ أسئلة كثيرة، تونه." قالها بصوت منخفض، لكنه حمل وزناً أكبر من مجرد كلمات عابرة.
"بالطبع لدي أسئلة!" انفجرتُ أخيرًا، لم أعد أستطيع تحمل هذا الغموض الذي يحيطني من كل جهة. "أنت تأخذني من مكان إلى آخر، دون أن تفسر لي شيئًا. جعلتني أعيش بين حقيقة مشوهة وكوابيس لا أفهمها. كيف تتوقع مني ألا يكون لديّ أسئلة؟"
لم يتحرك، فقط نظر إليّ للحظة طويلة، قبل أن يضع كأسه جانبًا ويقترب مني أكثر.
"إذن، اسألي،" همس. "لكن كوني مستعدة لسماع الإجابات."
جسدُي تجمّد. كانت كلماته تحمل شيئًا لم أكن متأكدة من استعدادي له. لكنني كنت قد وصلت إلى هذه المرحلة، لم يكن هناك مجال للتراجع.
تنفستُ بعمق، ثم قلتها: "من أنا، حقًا؟"
لم يبدُ سايلوس متفاجئًا. على العكس، كأنه كان ينتظر مني أن أنطق بهذا السؤال.
ثم، بابتسامة غامضة، أشار إلى الكرسي أمامه. "اجلسي، تونه… لدينا الكثير لنتحدث عنه."
ترددتُ.
كل جزء مني كان يخبرني بألا أجلس، بألا أمنحه هذا الشعور بأنني مستعدة للاستماع إليه بشروطه. لكن الحقيقة؟ الحقيقة أنني كنت بحاجة إلى الإجابات أكثر من حاجتي لأي شيء آخر.
سرتُ عبر الغرفة، عيناي لا تفارقان عينيه، وجلستُ على الكرسي المقابل له.
سايلوس، كما لو أنه راضٍ عن قراري، ارتشف رشفة أخرى من نبيذه قبل أن يضع الكأس جانبًا وينحني قليلاً نحوي، مرفقيه يستندان على مساند الأريكة الحمراء، كأنه على وشك كشف سرٍ خطير.
"سأخبركِ، تونه."
"لكن أولاً… قولي لي، ماذا تذكرين بالضبط؟"
شعرتُ بتوتر يجتاحني، كأنما سؤاله سحبني فجأة إلى تلك اللحظات التي لم أعد واثقة من كونها حقيقية أم مجرد أوهام. مضيتُ لحظة أفكر… بماذا أجيب؟
"أرى أشياء…" بدأتُ ببطء، عيناي تركزان على التفاصيل من حولي حتى لا أضطر لمواجهته مباشرة. "ومضات… أماكن غريبة… وجوه لا أتذكرها، لكنني أشعر أنها مألوفة." رفعتُ نظري إليه، إلى تلك العيون الحمراء التي تراقبني بصبر. "وأنت."
رفع حاجبه قليلاً، كأنه لم يتوقع أن أذكره بهذه السرعة.
"أنا؟"
"أنت دائماً هناك." ابتلعتُ ريقي. "لكنني لا أعرف كيف ولماذا."
ظل صامتًا للحظات. ثم قال بصوت هادئ، لكنه محمّل بثقل شيء أعمق: "لأنكِ كنتِ دائمًا معي، تونه."
شعرتُ بشيء يتجمد داخلي.
"هذا لا معنى له."
"بل له كل المعنى،" قال، متكئًا على الأريكة وكأنه يراقب تأثير كلماته عليّ. "أنتِ فقط لم تتذكري بعد."
"تذكر ماذا؟" همست، قلبي ينبض بقوة.
ابتسم، لكن لم يكن في ابتسامته أي مرح. كان فيها شيء مظلم، شيء يشبه السر الذي يخشى الإفصاح عنه.
"تذكرتِ من تكونين حقًا."
"ومن أكون؟"
"كنتِ جزءًا من هذا العالم أكثر مما تتخيلين، تونه." قالها ببطء، كأنه يزن كل كلمة. "ليس كزائرة، وليس كضائعة تبحث عن مكانها. بل كعنصر أساسي فيه."
عقلي لم يستطع استيعاب كلامه بالكامل.
"لا… لا أفهم."
"بل ستفهمين." قال بثقة. "وأعدكِ، عندما يحين الوقت، ستتذكرين كل شيء."
شعرتُ بأن الأرض تنزلق تحت قدميّ. هذا ليس ما أردت سماعه. أردت الحقيقة، واضحة، مباشرة، وليس لغزًا آخر يضاف إلى الفوضى التي في رأسي.
"لماذا لا يمكنك إخباري الآن؟"
نظر إليّ نظرة طويلة، ثم قال بصوت منخفض:
"لأن بعض الحقائق، يا تونه، قد تدمر أصحابها إن عرفوها قبل الأوان."
جسدي كله تجمّد.
كانت كلماته تحمل شيئًا مخيفًا، شيئًا جعلني أتساءل… هل أنا مستعدة فعلًا لما سيأتي؟
"كفى، سايلوس!"
نهضتُ من مكاني، مشاعري تنفجر دفعة واحدة كبركان ظلَّ خامدًا طويلًا. لم أعد أحتمل المزيد من الألغاز، المزيد من أنصاف الحقائق، المزيد من تلك النظرات التي توحي بأنه يعرف شيئًا لا يريد أن يخبرني به.
"مرة تخبرني أنني كنت مجرد سلاح بيد والدي وكايلب!" قلتُ، صوتي يزداد حدة مع كل كلمة. "والآن تقول إنني مركز العالم؟! أو ربما أنني أنتقل بين العوالم وكأنني في فيلم سينمائي؟!"
لوهلة، لم يقل شيئًا.
فقط جلس هناك، يراقبني بنفس الهدوء المستفز، كأنه لم يفاجأ بانفجاري. كأنما كان يتوقعه.
هذا زاد من غضبي.
"هل هذا كله لعبة بالنسبة لك؟!" تقدمتُ نحوه، قبضتا يديّ مشدودتان عند جانبيّ. "هل تستمتع برؤيتي أضيع بين ما هو حقيقي وما هو كذب؟ هل يعجبك أن تراني أفقد عقلي؟!"
تلاشت ابتسامته المتعجرفة أخيرًا، وحلَّت محلها نظرة خطيرة، نظرة جعلت الهواء في الغرفة يثقل فجأة.
ثم، ببطء، نهض من مكانه.
كان أطول مني، أضخم، وحضوره طغى على كل شيء في الغرفة.
لكنه لم يحاول إخافتي.
لم يتحرك حتى.
فقط نظر إليّ، وعيناه الحمراء العميقة كانت تحمل شيئًا لم أفهمه تمامًا.
"أنتِ لستِ لعبه، تونه." قال بصوت منخفض، لكنه محمّل بثقل شيء لا يمكن إنكاره. "ولستِ مجرد شخص عادي وُجد هنا بالصدفة. أنتِ أكثر من ذلك بكثير."
شعرتُ ببرودة تجتاحني، لكنني لم أكن مستعدة للتراجع.
"وما الذي يجعلني أكثر؟!" تحديته، أنفاسي متسارعة. "لماذا لا يمكنك أن تقولها بوضوح؟ لماذا تجعلني أركض وراء الظلال بدلاً من أن تخبرني بالحقيقة؟!"
للحظة، ظننتُ أنه لن يجيب.
لكن بعد صمت ثقيل، قال بصوت هادئ، لكنه كان يحمل شيئًا قاتمًا في أعماقه:
"لأن الحقيقة، تونه، ليست مجرد كلمات تُقال."
اقترب خطوة، حتى أصبح الفاصل بيننا مجرد أنفاس.
"الحقيقة… تُشعر."