في اليوم التالي ...
وقفتُ أمام المطعم، أراقب انعكاسي الباهت في الواجهة الزجاجية اللامعة. كنت أعرف أن هذه اللحظة قادمة، لكن الآن، وأنا على وشك مواجهتها، شعرت بقلق لم أتمكن من تفسيره.
المطعم كان فاخرًا، يقع في قلب المدينة المتطورة، حيث كل شيء حولي يصرخ بالرقي والحداثة. النوافذ الشاهقة تعكس أضواء النيون، والطاولات مرتبة بعناية، مع زهور بيضاء توحي بالكمال المصطنع. كان اختيار سايلوس لهذا المكان متعمدًا—مكان فخم، لكنه ليس محايدًا تمامًا. نوع من السيطرة الخفية التي يحب فرضها.
"لن أجادله في ذلك." تمتمتُ لنفسي، قبل أن أسحب نفسًا عميقًا وأدخل.
بمجرد أن خطوتُ إلى الداخل، انتبهتُ إليه على الفور.
كايلب.
كان يجلس عند إحدى الطاولات المخصصة لكبار الشخصيات، بعيدًا عن الصخب، حيث لا يمكن لأحد الاقتراب دون دعوة. بدا مختلفًا—أو ربما كنت أنا من أصبحت مختلفة. ارتدى بذلة كحلية أنيقة، لونها يبرز زرقة عينيه العميقة، وشعره الأسود مُصفف بدقة، كما لو أنه لم يترك أي تفصيلة للصدفة.
رآني فورًا، وابتسم ابتسامتة الهادئه. لم تكن سخرية، لم تكن تهكمًا، بل كانت ببساطة… ترحيبًا.
تحركتُ نحوه، خطواتي كانت أبطأ مما توقعت. كنت أعرف أنني أقف الآن على الخط الفاصل بين الحقيقة والكذب، بين الماضي والحاضر، بين كل شيء كنت أظنه حقيقيًا وكل شيء قد ينقلب في لحظة.
عندما وصلتُ إلى الطاولة، وقف كايلب احترامًا، ثم أشار لي بالجلوس.
"لم أتوقع أن تأتي فعلًا." قال بنبرة دافئة، لكنه كان يراقبني بتمعن، كما لو أنه كان يبحث عن شيء ما في ملامحي.
جلستُ، محاوِلةً أن أبقى متماسكة. "كنت سأفعل ذلك منذ البداية، بغض النظر عما يريده سايلوس."
"سايلوس… دائمًا لديه رأي في كل شيء، أليس كذلك؟" ضحك بخفة وهو يجلس مجددًا، لكنني شعرت بأن هناك معنى أعمق خلف كلماته.
أخذتُ القائمة أمامي فقط لأشغل نفسي للحظة، لكنني بالكاد كنت أرى الكلمات المكتوبة عليها. كنت أشعر بعينيه تراقبانني، وكان هذا كافيًا لإبقائي متوترة.
"لماذا طلبت مقابلتي، كايلب؟" سألت أخيرًا، أضع القائمة جانبًا وأواجهه مباشرة.
أمال رأسه قليلًا، كأنه يزن كلماته بعناية. "لأنك تستحقين أن تعرفي الحقيقة. الحقيقة التي أخفاها عنك سايلوس."
شعرتُ بقبضة باردة تعتصر داخلي. لم أكن أريد أن أبدأ بهذه الطريقة، لكن لا مجال للهرب الآن.
"وأي حقيقة هذه؟"
كايلب استرخى في مقعده، نظرته لم تفارقني. "كل شيء، تونه. عنك، عن والدك، عن الدور الذي كنتِ تلعبينه طوال هذا الوقت دون أن تدركي ذلك."
"سايلوس قال إنني كنتُ مجرد سلاح في يد والدي." قلت بهدوء، محاولةً أن أختبر رد فعله.
لكنه لم يظهر أي صدمة، فقط ابتسم ابتسامة صغيرة جدًا. "بالطبع قال ذلك."
انتظرتُ منه توضيحًا، لكنه لم يكن ينوي تقديمه بسهولة.
"إذن، هل كان يكذب؟"
كايلب لم يرد فورًا، بل أخذ رشفة من كأس الماء أمامه قبل أن يتكلم. "الأمر ليس بهذه البساطة، تونه. هناك أجزاء من الحقيقة كان يجب أن تُقال لك، لكن سايلوس اختار أن يخفيها."
"مثل ماذا؟"
هذه المرة، نظر مباشرة في عينيّ، وعندما تحدث، كانت كلماته مثل شفرة حادة تخترق الهواء.
"مثل حقيقة أنكِ لستِ مجرد سلاح… بل كنتِ المفتاح."
شعرتُ بأن العالم كله توقف للحظة. "المفتاح؟ مفتاح ماذا؟"
كايلب لم يشيح بنظره عني، وكأن كلماته وحدها كانت كافية لتغيير مجرى كل شيء.
"مفتاح التوازن بين العوالم، تونه."
كانت تلك اللحظة التي شعرتُ فيها أنني قد لا أكون مستعدة لسماع كل شيء...
ظللتُ أحدق في كايلب، أنتظر أن يوضح كلماته الغامضة. مفتاح؟ توازن العوالم؟ ما الذي يعنيه هذا بحق الجحيم؟
وضعتُ يدي على الطاولة، وكأنني بحاجة إلى تثبيت نفسي في هذا الواقع الجديد الذي يحاول كايلب فرضه عليّ. "أريد تفسيرًا، كايلب. لا ألغاز، لا غموض. فقط الحقيقة."
تنهد كايلب، ثم مال نحوي قليلًا، كما لو أن ما سيقوله لا يجب أن يسمعه أحد غيري. "تونه، العالم الذي نشأتِ فيه لم يكن سوى واحد من عدة عوالم. هناك أكوان موازية، كل منها يختلف قليلاً عن الآخر، لكنها متصلة بطريقة أو بأخرى. وهذه العوالم ليست مستقرة دائمًا."
شعرتُ بقلبي ينبض بقوة، لكنني لم أقاطعه.
"هناك نقطة توازن تربط هذه العوالم ببعضها، وهذه النقطة ليست مكانًا، بل شخص." رفع نظره إليّ مباشرة. "أنتِ."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي، لكنني لم أظهرها.
"هذا جنون." تمتمتُ، محاوِلةً استيعاب كلماته.
"أعلم أن الأمر يبدو كذلك، لكنه ليس كذلك." ردّ بهدوء. "لم يكن والدك، ولا حتى سايلوس، من خلق هذا الدور لكِ. لقد وُلِدتِ بهذه القدرة، بقدرة نادرة لا يمتلكها سوى شخص واحد في كل عصر."
ضغطتُ على أصابعي فوق الطاولة. "وأي قدرة هذه؟"
"قدرتكِ على عبور الأحلام… ليست مجرد ظاهرة غريبة، بل هي الصلة التي تربط بين العوالم. أنتِ قادرة على رؤية ما وراء هذا الواقع، قادرة على الشعور بالأشياء التي لا يدركها الآخرون."
هززتُ رأسي، غير قادرة على تصديق ما يقوله. "ولكن… كيف؟ لماذا أنا؟"
كايلب ابتسم بخفة، لكن عينيه لم تفارقا وجهي. "لأنكِ كنتِ مقدّرة لهذا الدور منذ البداية. لأنكِ لستِ مجرد إنسانة عادية، تونه. لقد كنتِ دائمًا مختلفة، حتى لو لم تدركي ذلك بعد."
حاولتُ استيعاب كلماته، لكن كل ما شعرتُ به هو دوامة من الارتباك. هل كان هذا سبب كل شيء؟ سبب الكوابيس، والرؤى، وكل تلك اللحظات التي شعرتُ فيها أنني لا أنتمي لهذا العالم؟
ولكن إذا كنتُ حقًا "مفتاحًا"، كما يقول… فما الذي يعنيه ذلك لي؟
رغم كل شيء، كان هناك سؤال واحد لا يمكنني تجاهله.
"وأين يقع سايلوس في كل هذا؟"
كايلب لم يبدُ متفاجئًا من سؤالي. أمال رأسه قليلًا، كأنه كان يتوقعه.
"سايلوس… لم يكن دائمًا كما هو الآن. في وقتٍ ما، كان مثلكِ تمامًا—يبحث عن إجابات، يشكك في كل شيء."
لم أكن واثقة من أنني أفهم. "ما الذي تغير؟"
"اكتشف الحقيقة… لكنه اختار أن يتحكم بها بدلًا من أن يكون مجرد بيدق فيها."
كانت هناك نبرة تحذير خفية في صوته، لكنني لم أستطع فهم ما إذا كان يحاول جعلي أكره سايلوس… أم أنه يحاول فقط تحذيري منه.
"وأنتَ؟" سألتُ، مترددة. "ما الذي تريده مني يا كايلب؟"
نظر إليّ للحظة طويلة، ثم قال بهدوء: "أريدكِ أن تختاري بنفسك، بعيدًا عن تأثيره."
كان هناك صدق في صوته، لكنني لم أستطع الجزم ما إذا كان ذلك كافيًا لأثق به.
شعرتُ بأن هذا اللقاء لم يكن سوى بداية شيء أكبر بكثير مما كنتُ مستعدة له.
تسللت لحظة صمت بيني وبين كايلب، لكنها لم تكن هادئة. كانت مشحونة، مليئة بكل الأسئلة التي لم أجد لها إجابة بعد. شعرتُ وكأنني أقف على حافة هاوية، وخياري التالي قد يحدد مصيري بالكامل.
"ماذا لو لم أختر؟" نطقتُ بالكلمات أخيرًا، وأنا أنظر إليه بعينين غارقتين في الشك.
أمال رأسه قليلًا، كما لو أن سؤالي فاجأه، ثم قال بنبرة هادئة لكنها قاطعة: "عدم الاختيار… هو اختيار بحد ذاته. لكنه لن يحميكِ مما هو قادم."
ابتلعتُ ريقي، محاولة أن أتمسك بشيء منطقي وسط هذه الفوضى. "وأنت؟ لماذا تهتم لأمري؟"
لم يبتسم هذه المرة. بدلًا من ذلك، وضع كوعيه على الطاولة، متكئًا إلى الأمام كما لو أنه يريد أن يجعل كلماته واضحة تمامًا. "لأنكِ أكثر من مجرد قطعة في هذه اللعبة، تونه. وأرفض أن أسمح لسايلوس أن يقرر مصيركِ بمفرده."
ذكره لاسم سايلوس جعلني أشعر بتيار كهربائي يمر عبر جسدي. كايلب يعتقد أن سايلوس يتحكم بي؟ أنني مجرد بيدق آخر في خطته؟ لكن… هل هذا صحيح؟
سايلوس يعتقد هذا ايضا .. ان كايلب يريدني من اجل السلطه فقط .
لقد اختار سايلوس دائمًا ما يخفيه عني، لكنه كان دائمًا هناك عندما كنتُ بحاجة إليه. لم أكن أعرف تمامًا ما إذا كان ذلك يعني أنه كان يحاول حمايتي… أم السيطرة عليّ.
كايلب، من ناحية أخرى، كان يفتح لي بابًا آخر. لكنه لم يكن يقدم لي إجابات، بل مجرد أسئلة جديدة.
تنفستُ بعمق، محاوِلة أن أستعيد هدوئي.
"إذا كنتَ تريدني أن أقرر بنفسي،" قلتُ وأنا أرفع عيني إليه بثبات، "فعليك أن تخبرني بكل شيء. من البداية."
لم يبدُ عليه أنه تفاجأ، لكنه استغرق لحظة قبل أن يتحدث.
"العالم الذي ترينه حولكِ الآن ليس كما يبدو، تونه. هو جزء من شيء أكبر. هناك أكوان متعددة، متصلة ببعضها البعض، لكنها تحتاج إلى نقطة توازن—شخص قادر على التنقل بينها دون أن ينهار النظام بأكمله."
"وأنا هذه النقطة؟"
"بالضبط."
حاولتُ ألا أُظهر ارتباكي، لكن الأمر كان أقرب إلى خيال علمي من أن يكون واقعًا.
"وهذا يعني أنني كنتُ أتنقل بين العوالم طوال حياتي دون أن أدرك ذلك؟
أومأ برأسه. "جزئيًا. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. هناك من يريدون استخدامكِ لهذا الغرض، وهناك من يريدون إبقاءكِ بعيدة عن ذلك."
"وسايلوس؟ أي جانب هو فيه؟"
صمتَ للحظة، كما لو كان يختار كلماته بعناية.
"سايلوس يؤمن بأنه يستطيع السيطرة على هذه القوة، أن يجعلكِ جزءًا من نظامه الخاص. لكن السؤال الحقيقي هو… هل هذا ما تريدينه أنتِ؟"
كانت نبرته صادقة، لكنني لم أكن قادرة على الوثوق به تمامًا. ليس بعد.
شعرتُ بشيء ثقيل يجثم على صدري، كأنني على وشك اتخاذ قرار لا رجعة فيه.
لكن الحقيقة التي لا مفر منها كانت واضحة:
لم يعد هناك طريق للعودة.
لم أكن أعلم ما الذي كنتُ أبحث عنه بالضبط، لكنني شعرتُ بأنني لن أتمكن من اتخاذ أي قرار قبل أن أفهم كل شيء. هناك قطع من الماضي كانت مبعثرة، ووالدي كان إحدى تلك القطع التي لم أستطع تحديد شكلها بعد.
تنفستُ بعمق، محاوِلة أن أتماسك وسط هذا الطوفان من المعلومات، ثم نظرتُ إلى كايلب مباشرة وسألته: "أبي… أي جانب كان فيه؟"