—
بعد عدة فحوصات طبية واختبارات غريبة لم أفهم نصفها، وجدتُ نفسي جالسة بينهما في مطعم المنظمة.
لم يكن المكان فاخرًا مثل القاعات التي مررنا بها من قبل، لكنه كان أنيقًا، بتصميم هادئ يجمع بين الرسمي والعملي.
الطعام كان جيدًا… أو ربما كنتُ جائعة جدًا فلم أهتم.
مرّت دقائق من الصمت، فقط أصوات الأطباق وأدوات الطعام، حتى قررتُ أن أطرح السؤال الذي لم يغادر ذهني منذ لحظة لقائي به.
وضعتُ الشوكة جانبًا، نظرتُ إليهما، ثم قلت: "أريد أن أعرف عن رافاييل."
لم يتحدث أي منهما فورًا، لكنني رأيت كيف توترت ملامح كايلب قليلًا، وكيف توقف سايلوس للحظة عن تحريك الشوكة بين أصابعه.
"من هو؟ ولماذا عندما ظهر شعرتُ وكأنني كنتُ على الشاطئ؟ أو في البحر؟"
سايلوس وضع الشوكة ببطء على الطاولة، ثم ألقى نظرة خاطفة على كايلب، وكأنهما قررا من عليه أن يتحدث أولًا.
كايلب زفر، ثم قال بهدوء: "رافاييل ليس… بشريًا."
رمشتُ مرتين. "عذرًا؟"
سايلوس ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنه لم تكن ساخرة هذه المرة، بل أشبه بابتسامة شخص يراقبني وأنا أخطو نحو الحقيقة.
"ماذا تعني بـ'ليس بشريًا'؟" قلت وأنا أضع يدي فوق الطاولة.
كايلب نظر إليّ نظرة ثابتة، ثم قال: "إنه… كيان مختلف. ليس منا، وليس من هذا المكان."
"مكان؟" شعرتُ بقشعريرة باردة تسري في جسدي. "إذن… هو من عالم آخر؟"
"يمكنكِ قول ذلك."
شعرتُ بالغثيان للحظة. كل شيء بدأ يصبح أكثر تعقيدًا مما كنتُ مستعدة له.
لكنني لم أنتهِ بعد.
"ولماذا كان يبحث عني؟"
سايلوس، الذي كان صامتًا طوال الوقت، قال بصوت منخفض جدًا، لكنه حمل ثقلًا لم أفهمه تمامًا: "لأنكِ تخصينه."
شعرتُ بصدمة صغيرة، وكأن شيئًا داخلي اهتزّ للحظة. "ماذا؟"
كايلب قاطعنا بسرعة: "ليس بتلك الطريقة التي تظنينها."
لكنني كنتُ أبحث في وجوههم عن تفسير أكثر وضوحًا.
"رافاييل ليس مجرد شخص يبحث عنكِ، تونه." قال كايلب، صوته أصبح أكثر جدية. "هو مرتبط بكِ بطريقة لا يمكننا فهمها بالكامل حتى الآن."
"ولهذا شعرتُ وكأنني كنتُ في البحر عندما ظهر؟"
أومأ كايلب ببطء. "نعم. لأن طبيعته… تشبه الماء."
سايلوس تكلم أخيرًا، نبرته كانت أكثر هدوءًا مما توقعت: "الماء هادئ، لكنه أيضًا قادر على جرف كل شيء في طريقه. ورافاييل… يشبه ذلك تمامًا."
شعرتُ بصدري يضيق للحظة، لكنني أبقيتُ ملامحي متماسكة.
إذا كان رافاييل ليس بشريًا… وإذا كان مرتبطًا بي…
فما الذي يعنيه ذلك عني؟
مرّت لحظة صمت مشحونة بالتوتر.
ثم، وبكل بساطة، قال سايلوس وهو يرفع كأس الماء ويحدق فيه: "على الأقل، هذا يفسر سبب كونه وسيمًا جدًا."
كايلب تنهد بصوت مسموع، بينما رمقته أنا بنظرة جافة.
"حقًا؟"
سايلوس ابتسم ببراءة مصطنعة، ثم ارتشف رشفة صغيرة من الماء. "أنا فقط أقول الحقائق."
كايلب أغمض عينيه للحظة، وكأنه يحتاج إلى إعادة ضبط أعصابه بالكامل، ثم قال: "أعتقد أن العشاء انتهى."
—
كنا قد غادرنا المطعم، وكان كايلب يسير أمامنا بخطوات ثابتة، متجهًا إلى الجناح حيث سنبقى. أما أنا، فكنتُ لا أزال أستوعب المعلومات التي ألقيت عليّ قبل دقائق فقط.
رافاييل… ليس بشريًا.
رافاييل… مرتبط بي بطريقة لا أفهمها.
رافاييل… جعلني أشعر كأنني كنتُ في البحر عندما رأيته.
ثم، فجأة، دون أن أفكر، توقفتُ.
"هل هو حورية بحر؟"
توقفتُ عن السير تمامًا، مما جعل كايلب يلتفت إليّ بوجه متجمد، بينما سايلوس رفع حاجبه ببطء وكأنني قد تفوقتُ على كل التوقعات الممكنة.
"عذرًا، ماذا؟" قال كايلب بصوت منخفض لكنه كان يحمل صدمة خفيفة.
نظرتُ إليهما بجدية تامة. "رافاييل… هو حورية بحر، أليس كذلك؟ لهذا السبب شعرتُ وكأنني كنتُ على الشاطئ عندما رأيته، ولهذا السبب هناك ماء في كل شيء يتعلق به."
مرّت ثانية من الصمت المشحون، ثم…
انفجر سايلوس ضاحكًا.
ضحكة لم تكن عالية، لكنها كانت واضحة تمامًا، حملت ذلك المزيج الساخر الذي جعلني أدرك على الفور أنني قلت شيئًا سخيفًا.
كايلب، من جهته، كان قد مرر يده على وجهه وكأنه يتساءل كيف انتهى به المطاف في هذا الحوار.
"يا إلهي، تونه." قال سايلوس بعد أن هدأ ضحكه قليلاً، "حورية بحر؟ هل تبدو لكِ تلك الهالة المخيفة والعيون الأرجوانية وكأنها تخص كائنًا خياليًا لطيفًا يعزف على قيثارة تحت الماء؟"
زفرتُ، وضربتُ ذراعه بخفة. "إذن، ما هو؟"
هنا، تغيرت ملامحه قليلاً. لم يعد يمزح تمامًا، لكنه لم يفقد نبرته المسترخية تمامًا.
"رافاييل ليس مجرد مخلوق بحري، تونه." قال، وهو يتكئ على الجدار بجانبي، "إنه ملك البحار السفلية."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي. "ملك…؟"
أومأ سايلوس ببطء، بينما كايلب ظل صامتًا، لكنه لم يقاطع.
"رافاييل ليس مجرد مخلوق يعيش في البحر، بل هو جزء من شيء أكبر بكثير مما تتخيلينه. إنه أقدم مما تعتقدين، عمره بالمئات، وربما أكثر."
شعرتُ بدمائي تبرد قليلاً، لكنني لم أتوقف. "ولماذا هو مرتبط بي؟"
هنا، تبادل سايلوس وكايلب نظرة قصيرة.
ثم قال سايلوس بصوت هادئ، لكنه حمل ثقل الحقيقة: "لأنكِ ولدتِ في البحر، تونه. وليس في أي بحر… بل في الغرفة المقدسة في مركز البحار السبعة."
رفعتُ رأسي بسرعة، شعرتُ بأن العالم كله توقف للحظة. "ماذا؟"
"كانت هناك تهديدات تحيط بكِ قبل ولادتكِ، لذلك تم اتخاذ قرار بنقلكِ إلى المكان الوحيد الذي لا يستطيع أحد المساس بكِ فيه."
"الغرفة المقدسة…" كررتُ بصوت منخفض، محاولة استيعاب الفكرة. "لكن كيف يعرف رافاييل عن هذا؟"
سايلوس ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن ساخرة هذه المرة. "لأنه كان هناك."
شعرتُ بأنفاسي تتسارع. "ماذا؟"
"رافاييل كان حاضرًا عند ولادتكِ." أكمل، وهو ينظر إليّ مباشرة. "وشيء ما حدث في تلك اللحظة… حادث جعل هناك رابطًا بينكما، رابطًا لم يكن مخططًا له."
شعرتُ بأن قدميّ تتجمدان في مكاني. "أي نوع من الحوادث؟"
هنا، جاء صوت كايلب أخيرًا، هادئًا لكنه كان يحمل شيئًا لا يمكن تجاهله: "لقد حاول إنقاذكِ."
التفتُ إليه بسرعة، عينيّ تحملان ألف سؤال.
"لم أفهم—"
"عندما ولدتِ، كان هناك شيء خاطئ." قال ببطء، وكأنه يختار كلماته بعناية. "شيء لم يكن طبيعيًا… ورافاييل، بطريقة ما، كان السبب في إبقائكِ على قيد الحياة."
بلعتُ ريقي بصعوبة. "كيف؟"
مرّت لحظة طويلة من الصمت، قبل أن يقول سايلوس أخيرًا:
"لقد أعطاكِ جزءًا من طاقته."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي، وكأن شيئًا ما كان يهمس لي بأن هذه ليست مجرد كلمات… بل حقيقة قديمة، منسية.
"وهذا… هذا يفسر الرابط بيننا؟"
"نعم." قال سايلوس، عاقدًا ذراعيه. "منذ تلك اللحظة، أصبح شيئًا داخله مرتبطًا بكِ. وهذا جعله… كيف أقولها بطريقة مهذبة؟"
"مهووسًا." قال كايلب بلا أي مجاملة.
سايلوس رفع يده مشيرًا إليه. "تمامًا، شكرًا لك، كايلب."
كايلب زفر ببطء. "هذا ليس أمرًا يُمزح بشأنه، سايلوس."
"أنا لا أمزح." ردّ سايلوس ببساطة، ثم نظر إليّ مجددًا. "رافاييل لا يرى نفسه مجرد شخص مهتم بكِ، بل يرى أنكِ… جزء منه. وهذا ما يجعله أكثر خطورة مما تتصورين."
شعرتُ بأن صدري يضيق، عقلي يحاول معالجة كل هذا دفعة واحدة.
"إذن… هو ليس فقط يراقبني، بل يشعر بأنني ملكه؟"
"بالتحديد."
سحبتُ نفسًا مرتجفًا، شعرتُ بالهواء حولي يصبح أثقل.
رفعتُ يدي إلى رأسي، حاولتُ أن أتماسك، لكن الحقيقة كانت تتسلل إليّ ببطء.
"وهل يمكنني… قطع هذا الرابط؟"
هنا، ساد الصمت.
سايلوس لم يرد فورًا، وكايلب لم يحاول حتى التظاهر بأنه يملك إجابة جاهزة.
ثم، أخيرًا، قال سايلوس بصوت منخفض جدًا:
" أن قطع الرابط له ثمن."
تحركنا عبر الممرات الطويلة، كايلب يسير أمامنا، ونحن خلفه، خطواتنا تصدح في الفراغ الهادئ.
كنتُ لا أزال غارقة في أفكاري.
رافاييل… ليس بشريًا.
رافاييل… ملك البحار السفلية.
رافاييل… مرتبط بي منذ ولادتي بسبب حادث غامض.
كنتُ أبحث عن إجابة واضحة، عن حلّ بسيط لهذه الفوضى، لكنني كنتُ أعرف… الأمور لم تكن بتلك السهولة أبدًا.
"حورية بحر…" تمتمتُ بصوت خافت.
سمعتُ صوت ضحكة مكتومة بجانبي. نظرتُ إلى سايلوس لأجده يرمقني بنظرة مسلية. "أنتِ لم تتجاوزي هذه الفكرة بعد، أليس كذلك؟"
"ما زلتُ أستوعب أنكَ تقول إنني وُلدتُ في قاع البحر، في غرفة مقدسة، بينما كان هناك ملك بحري غامض يراقبني."
"لم يكن يراقب، كان… مشاركًا." قالها وكأنه يصحح لي، مما جعلني أرغب في لكمه.
"رائع." تمتمتُ. "الأمر يزداد غرابة كل ثانية."
كايلب، الذي كان متجاهلًا لمشاحناتنا المعتادة، توقف فجأة أمام باب كبير، ثم استدار نحونا.
"هذا هو الجناح." قال بصوت رسمي.
دخلتُ خلفه، لأجد نفسي في الغرفة الفاخرة، ذات إضاءة خافتة وجدران زجاجية تطل على المدينة. على الرغم من الأناقة الفائقة، لم أشعر بالراحة تمامًا.
"سنراقب أي تغييرات تحدث في حالتكِ." قال كايلب. ثم نظر إلى سايلوس، وأضاف: "ولا داعي لبقائك."
سايلوس، بالطبع، لم يتحرك حتى. بل ابتسم تلك الابتسامة المستفزة وقال: "وأنتَ ما زلتَ تعتقد أن بإمكانك طردي؟"
كايلب زفر بنفاد صبر. "أنتَ غير ضروري هنا، سايلوس."
"أوه، لكنني ممتع، وهذا أهم." ردّ بنبرة ساخرة.
"هذا ليس عرضًا كوميديًا." قال كايلب بحدة.
"بالطبع لا، لكنك تجعله يبدو كأنه تقرير حكومي ممل."
رفعتُ يدي قبل أن ينفجر الموقف. "توقفا. كلاكما."
صمتا، لكنني رأيت التوتر المتبادل بينهما.
زفرتُ، ثم جلستُ على الأريكة، متجاهلة التوتر في الهواء. "لندخل في صلب الموضوع،. قلتم إن كسر ارتباطي برافاييل له ثمن. ما هو؟"
كايلب لم يجب على الفور. نظر إليّ للحظة، ثم ألقى نظرة جانبية على سايلوس، وكأنهما تبادلا حديثًا صامتًا.
ثم قال أخيرًا: "الغرفة المقدسة."