"رافاييل."
شعرتُ بأن الدماء تتجمد في عروقي.
أما سايلوس؟
فقط ابتسم.
لكنها لم تكن ابتسامة مرحة هذه المرة.
بل ابتسامة شخص كان ينتظر هذه اللحظة منذ زمن طويل.
تحركنا بسرعه خلف كايلب عبر الممرات الطويلة، خطواتنا تتردد على الأرضية الصلبة، وكلما اقتربنا من مكتب والدي، شعرتُ بذلك التوتر الثقيل الذي يضغط على صدري.
لم يكن لدي فكرة عن سبب وجود رافاييل هنا… لكنه لم يكن أبدًا بشير خير.
توقفنا أمام باب المكتب الكبير، وكايلب لم ينتظر حتى يطرق، بل فتحه مباشرة بخطوات مندَفعة، وكأنه على وشك مواجهة عاصفة.
دخلتُ خلفه، وعندما رفعتُ نظري… رأيته.
رافاييل.
كان جالسًا هناك، متكئًا على الأريكة الكبيرة بطريقة مسترخية تمامًا، وكأنه في منزله، إحدى ساقيه فوق الأخرى، وذراعه ممدودة على طرف الأريكة، بينما يدور كأس صغير من الشراب بين أصابعه الرشيقة.
بدا كما لو أنه خرج للتو من مشهد مسرحي مبالغ فيه—شعره الأرجواني اللامع ينسدل على كتفيه، وعيناه الأرجوانيتان تحملان بريقًا ساخرًا.
ولادة جديدة
رافاييل .... كان يرتدي قميصًا مفتوحًا قليلًا عند العنق، وسترة فاخرة جعلته يبدو وكأنه أحد نبلاء العصور القديمة الذين لم يقرروا بعد ما إذا كانوا سيقودون مملكة… أو سيدمرونها لمجرد التسلية.
والأسوأ من ذلك؟
أنه كان يضحك… مع والدي.
"رافاييل!" صوّت كايلب كان ممتلئًا بالغضب وهو يندفع نحوه. "ما الذي تفعله هنا؟!"
رفع رافاييل رأسه ببطء، وكأنه لم يكن يعلم بوجودنا حتى الآن، ثم ابتسم تلك الابتسامة الصغيرة المستفزة.
"أوه، كايلب، لم أركَ هناك." قال بنبرة رخوة، وكأنه يرحب بصديق قديم وليس بشخص يكرهه.
كايلب لم يبتلع الطُعم. "هل فقدتَ عقلك؟ قبل يومين فقط كنتَ تهاجمنا في المطعم، والآن تجلس هنا بكل راحة وكأن شيئًا لم يكن؟!"
رافاييل أمال رأسه قليلًا، وكأنه كان يفكر بجدية في الأمر، ثم رفع كتفيه بلا مبالاة. "ما زلتُ لا أرى مشكلة هنا."
"أنتَ…" كايلب بدا على وشك الانفجار، لكن قبل أن يقول شيئًا آخر، جاء صوت والدي من خلف مكتبه.
"اهدأ، كايلب."
التفتُ إلى والدي، الذي كان جالسًا خلف مكتبه كعادته، ملامحه جامدة، لكنني لم أكن بحاجة إلى قراءة تعابيره لأدرك أنه لم يكن منزعجًا من وجود رافاييل هنا.
بل على العكس… بدا كما لو أنه كان مستمتعًا بالوضع.
نظرتُ بينهما، ثم قلتُ بحدة: "ما الذي يحدث هنا؟"
رافاييل هو من أجابني، وهو يستقيم قليلًا في جلسته. "حسنًا، بما أنكِ تسألين، تونه العزيزة، فقد كنتُ أجري حديثًا لطيفًا مع والدكِ هنا حول… أوه، دعينا نقول أنه أمر يخصّكِ."
تصلبتُ في مكاني. "أمري أنا؟"
"بالطبع."
شعرتُ بأنفاسي تتباطأ، بينما تبادل كايلب وسايلوس نظرات سريعة.
"ما الذي تريده، رافاييل؟" سألتُ، نبرتي أصبحت أكثر حدة.
"أوه، عزيزتي، لماذا يبدو صوتكِ عدوانيًا هكذا؟ لا شيء خطير، فقط…" توقف للحظة، ثم ابتسم بمكر. "أريد أن أتحدث عن الصفقة."
شعرتُ بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
"أي صفقة؟"
نظر إليّ مباشرة، وعيناه الأرجوانيتان التمعتا بلون عميق يشبه مياه البحر في منتصف العاصفة.
ثم قال، بصوت كان ناعمًا جدًا، لكنه حمل خلفه وزناً ثقيلًا:
"الصفقة التي قد تنقذكِ… أو تحطم كل شيء من حولكِ."
تجمدتُ في مكاني، وعقلي يحاول استيعاب كلماته
رافاييل كان ينظر إليّ مباشرة، وكأنه كان يستمتع بكل ثانية من ارتباكي.
كايلب، الذي كان لا يزال واقفًا بالقرب من الباب، شدّ فكه وقال بحدة: "لا أحد هنا مهتم بصفقاتك، رافاييل."
"أوه، كايلب، دائمًا متسرع، دائمًا مندفع." تمتم رافاييل بأسلوبه الدرامي المعتاد، ثم شبك أصابعه ببعضها وقال: "لكن، في الواقع، هذه الصفقة ليست لك. إنها لها."
وأشار إليّ بإيماءة خفيفة من رأسه.
شعرتُ بنظرات الجميع تلتفت إليّ، وكأنهم ينتظرون مني أن أقرر مصير الكون في لحظة.
بلعتُ ريقي ببطء. "ما الذي تتحدث عنه بالضبط؟"
"حسنًا، بما أنكم جميعًا تعلمون بالفعل أن كسر ارتباطكِ بي ليس أمرًا بسيطًا…" قال وهو يعتدل في جلسته، ثم تابع بابتسامة جانبية: "جئتُ أعرض عليكِ طريقًا آخر."
رفعتُ حاجبي بحذر. "طريق آخر؟"
"نعم، بدلاً من تدمير الغرفة المقدسة، مما سيؤدي إلى حرب شاملة بين عالم البحار وعالم البشر، هناك… خيار آخر."
التوتر في الغرفة أصبح ملموسًا.
"وأي خيار هذا؟" سألتُ، وأنا أشعر أنني لن أحب الإجابة.
هنا، ابتسم رافاييل تلك الابتسامة التي جعلتني أدرك فورًا أنه كان يستمتع بهذا أكثر مما ينبغي.
"أنتِ تبقين مرتبطة بي."
تجمدتُ للحظة، ثم قلتُ ببطء: "ماذا؟"
"أوه، لا تقلقي، لا أعني أن تظلي تحت سلطتي إلى الأبد." لوّح بيده وكأنه يطمئنني. "أعني أنكِ… تصبحين جزءًا من عالمي."
صمتّ.
كايلب ضغط يده في قبضة، بينما كنتُ أشعر بالطاقة المظلمة تتصاعد من سايلوس بجانبي.
"وضح أكثر." قلتُ بصوت منخفض.
رافاييل استقام قليلًا، عينيه تحملان بريقًا غريبًا. "إذا كنتِ تريدين إنهاء هذا الرابط دون إشعال حرب، فإن الحل الوحيد هو أن تنقلي جزءًا منكِ إلى عالمي. بمعنى آخر… عليكِ أن تنتمي إلينا."
شعرتُ بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
"تقصد… أن أصبح واحدة منكم؟"
"ليس تمامًا." قال بنبرة مرحة، لكنه كان يراقبني عن كثب. "فقط… نصفكِ."
نصف…؟
كايلب كان أول من تحدث بعدي، صوته كان محمّلًا بالغضب المكتوم. "أنتَ تطلب منها أن تصبح كيانًا هجينًا؟!"
"أوه، لا تكن دراميًا، كايلب." تمتم رافاييل وهو يتظاهر بالملل. "إنها لن تصبح وحشًا أو شيء من هذا القبيل. فقط… شيء مختلف قليلاً."
"مختلف؟!"
سايلوس، الذي كان صامتًا طوال الوقت، أخيرًا تحرك.
خطا إلى الأمام ببطء، ثم قال بصوت هادئ لكنه محمّل بخطر خفي: "هل تدرك أنكَ تطلب منها أن تضحي بنصف إنسانيتها، أليس كذلك؟"
رافاييل لم يبدُ منزعجًا. "إنسانية؟ وهل تعتقد أنها كانت بشرية بالكامل منذ البداية؟"
شعرتُ بصاعقة تضربني من الداخل.
"ماذا تعني؟" همستُ.
"أوه، تونه، عزيزتي، ألم تتساءلي يومًا لماذا كنتِ قادرة على عبور الأحلام؟ لماذا كنتِ دائمًا مختلفة؟"
رأيتُ كيف تجمدت ملامح كايلب، وكيف أصبح وجه سايلوس أكثر ظلامًا.
"أنتِ لم تكوني بشرية بالكامل أبدًا."
شعرتُ بأن العالم كله يدور من حولي.
رافاييل ابتسم ببطء، ثم قال بصوت منخفض جدًا، لكنه اخترق عقلي كطعنة حادة:
"لقد كنتِ دائمًا شيء أكثر من هذا."
شعرتُ بجسدي يتجمد، وكأن روحي توقفت عن الحركة لوهلة.
كانت الكلمات تتردد في رأسي كصدى بعيد، لكنها لم تكن مجرد كلمات. كانت حقيقة… حقيقة كنتُ أهرب منها دون أن أدرك ذلك.
التفتُ إلى رافاييل، عيناي تشتعلان بأسئلة لا تحصى، لكن قبل أن أفتح فمي، قاطعني صوت سايلوس.
"هذا يكفي."
كان صوته منخفضًا، لكنه حمل ثقلًا جعل الهواء في الغرفة يزداد كثافة.
رافاييل لم يُظهر أي انزعاج، بل فقط رفع حاجبه وكأنه يتساءل: ما الذي ستفعله؟
أما كايلب، فكان واقفًا كتمثال حجري، عيناه تضيقان بخطورة.
"ما الذي تقصده؟" نطقتُ أخيرًا، صوتي خرج أكثر ارتجافًا مما كنتُ أريده.
رافاييل ابتسم ببطء، ثم أمال رأسه قليلًا وكأنه يدرسني عن قرب. "أوه، تونه، عزيزتي… هل تظنين أن قوتكِ جاءت من العدم؟ أن قدرتكِ على التنقل بين الأحلام كانت مجرد مصادفة؟"
ضغطتُ على قبضتيّ. "أنا لا أفهم…"
"بل تفهمين." قاطعني، صوته أصبح أكثر هدوءًا لكنه لم يفقد حدته. "لديكِ ذكريات، أليس كذلك؟ لحظات لم تفهميها من قبل، مشاعر لم تكن منطقية… لمَ تعتقدين أنكِ شعرتِ وكأنكِ كنتِ في البحر عندما رأيتِني لأول مرة؟"
شعرتُ بشيء بارد يزحف عبر عمودي الفقري.
لأنه كان على حق.
لطالما كان هناك شيء غريب في داخلي، شيء لم أستطع تسميته، كأنني كنتُ أنتمي إلى مكان آخر… إلى عالم آخر.
لكن…
"أنتَ تكذب." قلتُ بصوت أكثر صلابة، محاوِلة أن أتمسك بعقلي وسط العاصفة التي أشعلها.
رافاييل ضحك، لكنها لم تكن ضحكة مرحة. "حقًا؟ إذن، هل تعتقدين أن والدكِ هنا سيؤكد كلامكِ؟"
التفتُ إلى والدي ببطء، وقلبي ينبض بقوة في أذنيّ.
كان صامتًا.
عيناه الباردتان كعادتهما، لم تظهرا أي مفاجأة… لم تظهرا أي إنكار.
بل كانت هناك حقيقة مريعة في صمته.
حقيقة أنه كان يعرف.
شعرتُ بأنفاسي تتسارع، بقلبي يخفق بجنون في صدري. "أبي… قُل لي إن هذا ليس صحيحًا."
ظلّ صامتًا.
ثم، أخيرًا، قال بصوت هادئ لكنه لم يكن خاليًا من الحدة: "هذا لا يهم الآن."
"ماذا؟" شهقتُ، لم أصدق ما سمعته.
"ما كنتِ عليه لا يغير شيئًا." أكمل بنفس الهدوء، لكن ملامحه كانت جامدة كما لو أنه كان يتحدث عن أمر لا قيمة له. "ما يهم هو الحاضر، والقرارات التي عليكِ اتخاذها الآن."
لم أستطع التوقف عن التحديق فيه، وكأنني كنتُ أنظر إلى شخص غريب تمامًا.
كايلب تحدث أخيرًا، نبرته كانت أكثر قتامة من المعتاد.
"كنتَ تعرف طوال الوقت، ولم تخبرها؟"
"لم يكن هناك داعٍ لذلك."
"لم يكن هناك داعٍ؟!" صرختُ، شعرتُ بالغضب يتفجر داخلي، بحرٌ هائج يكاد يبتلعني. "لقد أخفيتَ عني الحقيقة طوال حياتي، وجعلتني أعيش كذبة، والآن تقول إنه لا يهم؟!"
"لقد فعلتُ ما كان ضروريًا لحمايتكِ."
شعرتُ بالدموع تحرق عينيّ، لكنني رفضتُ السماح لها بالسقوط. "لا، لقد فعلتَ ما كان مريحًا لكَ!"
لم يتحرك. لم يُظهر أي ندم.
وهذا… هذا ما جعل الألم أشد.
التفتُ إلى رافاييل، الذي كان يراقب المشهد وكأنه يستمتع بعرض مسرحي مأساوي. "وما الذي يعنيه هذا لي؟"
"يعني أنكِ لستِ مجرد إنسانة عادية." قال بصوت ناعم، لكنه حمل شيئًا يشبه الإغواء الخفي. "ويعني أن الصفقة التي عرضتها عليكِ… ليست مجرد خيار، بل قد تكون قدركِ الحقيقي."