كايلب.
بدلته الرسمية كانت كما هي، ملامحه الجادة لم تتغير، وعيناه الزرقاوان كانتا أكثر برودًا من المعتاد.
جلس أمامنا كما لو كان هذا أمرًا طبيعيًا تمامًا، وكأنه لم يكن هناك شيء غريب في جلوسه أمام شخص دمّر مقر منظمته قبل يومين فقط.
لكن، إن كان وجوده غير متوقع، فإن ردة فعل سايلوس لم تكن كذلك.
رأيته يضع فنجانه ببطء، ثم يستند إلى ظهر الكرسي، مائلًا رأسه قليلًا وهو يراقب كايلب بنظرة غير مبالية.
ثم، بصوته الهادئ، الذي يحمل دائمًا ذلك المزيج من السخرية والتهديد الخفي، قال:
"هل اشتقتَ لي لهذه الدرجة؟"
كايلب لم يبتسم.
لكنني رأيت كيف اشتد فكه للحظة، قبل أن يضع يده على الطاولة، ويقول بنفس البرود:
"أنت تعرف لماذا أنا هنا."
تبادلا النظرات للحظة، تلك النظرة التي لم تكن مجرد عداء، بل شيء أعمق من ذلك.
شيء لم أكن متأكدة إن كنتُ أريد تحليله الآن.
ثم، قبل أن يتحدث أي منهما مجددًا، قطعتُ الصمت قائلة:
"لم أتوقع أن أراك هنا، كايلب."
التفت إليّ، وعندما نظرتُ إلى عينيه، رأيت شيئًا مختلفًا.
ليس غضبًا، وليس استياءً… بل خيبة أمل مخفية.
"لم أكن أنوي المجيء." قال أخيرًا، نبرته أكثر هدوءًا مما توقعت. "لكن كان عليّ أن أتأكد من شيء واحد."
سايلوس رفع حاجبه، وكأنه كان يستمتع بطريقة غير معلنة.
"وماذا سيكون هذا الشيء؟"
كايلب لم يُبعد عينيه عني، ثم قال بصوت منخفض:
"أردتُ أن أعرف… إن كنتِ لا تزالين تونه التي أعرفها."
حدّقتُ في كايلب للحظة، قبل أن أقول بهدوء، دون تردد:
"عليك أن تتقبل شخصيتي الجديدة، تمامًا كما فعل سايلوس."
رأيته يشدّ قبضته فوق الطاولة للحظة، كما لو أن كلماتي كانت أكثر مما يريد سماعه.
لكنني لم أتوقف.
"كان يجب أن أخطو هذه الخطوة." تابعتُ، نبرتي لا تحمل أي تردد أو مشاعر. "كان هذا ضروريًا لتجنب الحرب. كان هذا الحل الوحيد."
كايلب زفر ببطء، ثم أمال رأسه قليلًا، وكأنه كان يحاول فهم شيء لا يستطيع استيعابه بالكامل.
"الحل الوحيد؟" قال أخيرًا، عيناه الزرقاوان تلمعان تحت أضواء الكافيه. "هل هذه طريقتكِ في تبرير ما فعلتهِ لنفسكِ؟"
قبل أن أرد، كان سايلوس هو من تحدث، بصوته الهادئ الممتلئ بالسخرية:
"أوه، كايلب، أليس من المزعج أنك دائمًا تعتقد أن لديك رأيًا فيما يجب أن تفعله تونه؟"
التفتَ كايلب نحوه ببطء، نظرة باردة على وجهه. "وهل أتركها بين يديك؟ بين يدي شخص لم يفعل شيئًا سوى سحبها إلى الظلام؟"
سايلوس ابتسم ابتسامة بطيئة جدًا، ثم قال بصوت منخفض:
"وما الخطأ بالظلام؟"
رأيتُ كيف توتر فكّ كايلب، كيف كانت يده تتحرك كما لو أنه كان يحاول ضبط نفسه عن شيء معين.
لكنني لم أكن مهتمة بما يجري بينهما.
ما كنتُ مهتمة به…
هو أنني لم أشعر بأي شيء أثناء هذا الجدال.
لا غضب، لا استياء، لا انزعاج.
فقط… فراغ.
"كفى." قلتُ ببرود، أوقفتُ الجدال قبل أن يتحول إلى شيء أكثر سوءًا.
التفتا إليّ، أحدهما بسخرية، والآخر بغضب مكبوت.
لكنني لم أمنح أيًا منهما الاهتمام.
بدلًا من ذلك، نظرتُ إلى كايلب مباشرة، وقلتُ بهدوء:
"هذا هو ما أنا عليه الآن، كايلب. لا يمكنك تغيير ذلك، ولا يمكنك إعادتي إلى ما كنتُ عليه. لذا، إما أن تتقبلني كما أنا، أو…" توقفتُ للحظة، ثم أكملت: "أبتعد ....الخيار لك."
رأيته يتجمد للحظة، وكأن كلماتي ضربته في مكان لا يستطيع لمسه.
لكنه لم يقل شيئًا.
على الأقل، ليس على الفور.
لأول مرة منذ بدأتُ هذا الحديث، أزاح كايلب نظره عني، وأخذ نفسًا عميقًا، كما لو أنه كان يعيد ترتيب أفكاره.
عندما تحدث مجددًا، كانت نبرته أقل حدة.
"لقد كنا فريقًا دائمًا، تونه." قال بهدوء. "لطالما كنتُ بجانبكِ، دائمًا كنتُ أحميكِ."
توقفتُ عند كلماته.
أدركتُ أنني لا زلتُ أذكر كل شيء.
المهمات التي قمنا بها معًا، اللحظات التي كان فيها دائمًا بجانبي، الطريق الذي كنا نسير فيه جنبًا إلى جنب، ليس كأعداء… بل كحلفاء.
"تتذكرين ذلك، أليس كذلك؟"
عندما رفعتُ عينيّ إليه مجددًا، رأيتُ كيف كان ينظر إليّ، كيف كان يبحث عن أثر تونه التي يعرفها داخلي.
تذكرتُ كل شيء.
كيف كان يمسك بيدي عندما كنتُ أتردد، كيف كان يحمي ظهري عندما نقاتل، كيف كان الشخص الوحيد الذي استطعتُ الاعتماد عليه…
لكن، رغم أنني تذكرتُ، إلا أنني لم أشعر.
وهذا وحده كان كافيًا ليجعلني أدرك…
أن الأمور لن تعود كما كانت.
"أنا أتذكر، كايلب." قلتُ أخيرًا، لكن كلماتي لم تكن دافئة.
بل كانت مجرد حقيقة.
كايلب لم يقل شيئًا.
لكنه لم يكن بحاجة إلى ذلك.
لأنني رأيتُ كيف انطفأ شيء ما في عينيه.
"كايلب…"
ناديتُ اسمه بهدوء، بينما كان لا يزال يحدق بي، يبحث عن شيء في عينيّ لا يستطيع إيجاده.
"أنا أتذكر كل شيء."
رأيتُ كيف تغير تعبيره للحظة، كيف اشتدت أصابعه على حافة الطاولة.
لكنني لم أمنحه الفرصة للحديث، تابعتُ بصوت ثابت، بلا تردد:
"كل ذكريات طفولتنا… كل التدريبات القاسية التي خضناها معًا، كل مرة كنتُ فيها على وشك السقوط وكنتَ تمسك بيدي، كل لحظة سعيدة، كل لحظة حزينة…" توقفتُ لثانية، ثم قلتُ ببطء: "أنا أتذكرها جميعًا."
مرت لحظة صمت طويلة.
رأيته يتنفس ببطء، كأنه كان ينتظرني لأكمل، ليعرف ما الذي سيأتي بعد ذلك.
لذلك، لم أتأخر في إعطائه الإجابة.
"لكنني لا أشعر بأي شيء." قلتُ ببساطة، دون انفعال. "ولا يهمني أي شيء من ذلك الآن."
شعرتُ بالطريقة التي تغير بها الجو حولنا.
شعرتُ بالبرودة التي تسللت إلى ملامحه، بالخيبة التي لم يحاول حتى إخفاءها.
لكن… لم يكن هناك شيء يمكنني فعله.
لأن هذه كانت الحقيقة.
"لا يهمكِ أي شيء؟" قال أخيرًا، صوته هادئ لكنه مشحون بشيء لم أستطع لمسه.
"نعم."
"ولا حتى أنا؟"
لم أجب فورًا.
ليس لأنني كنتُ أبحث عن إجابة… بل لأنني كنتُ أعرفها بالفعل.
"لا."
عندما نطقتُ بها، شعرتُ وكأنني ألقيتُ حجرًا في مياه راكدة.
رأيتُ كيف انطفأ شيء ما في عينيه، كيف تلاشت بقايا الأمل الذي كان يحمله منذ اللحظة التي جلس فيها أمامي.
لكن رغم ذلك، لم يتحرك.
بل فقط… ضحك.
ضحكة قصيرة، فارغة، لا تحمل أي مرح حقيقي.
ثم قال بنبرة مريرة: "حسنًا، على الأقل أنتِ صريحة."
راقبته للحظة، ثم وضعتُ يدي فوق الطاولة، وأخفضتُ صوتي قليلًا.
"لكن…"
رأيتُ كيف رفع نظره فورًا، وكأن تلك الكلمة وحدها كانت كافية لجعله يتمسك بشيء لم يكن هناك.
"أنا لا أحب هذا."
كايلب لم يقل شيئًا، لكنه كان ينتظرني لأكمل.
لم أكن بحاجة للنظر إلى سايلوس لأعرف أنه كان أيضًا مهتمًا بما سأقوله الآن.
"أنا لا أحب هذه الشخصية، كايلب." اعترفتُ أخيرًا. "أنا… أكره الشعور بالفراغ، أكره أنني لا أستطيع أن أشعر بأي شيء، أكره أن كل شيء يبدو بلا معنى."
مررتُ أصابعي بين خصلات شعري، وكأنني كنتُ أحاول تثبيت أفكاري التي لم تعد لي.
ثم، بصوت أكثر هدوءًا، قلتُ:
"أريد أن أستعيد مشاعري."
عندما رفعتُ عينيّ إليه مجددًا، رأيتُ كيف تغير تعبيره.
رأيتُ كيف تحولت الخيبة في عينيه إلى شيء آخر.
شيء أقرب إلى الأمل.
شيء أقرب إلى… كايلب الذي كنتُ أعرفه.
"إذن…" قال أخيرًا، ببطء. "أنتِ لم تضعي حاجزًا بيننا لأنكِ لم تعودي تهتمين…"
أمال رأسه قليلًا، عيناه مثبتتان عليّ.
"بل لأنكِ لم تعودي قادرة على ذلك."
لم أعلق، لكنني لم أشيح بنظري عنه أيضًا.
وبطريقة ما، كان هذا وحده كافيًا ليجعله يفهم.
"سنعيدها لكِ." قال فجأة، بصوت ثابت. "مهما تطلب الأمر، سنعيد مشاعركِ إليكِ."
ثم، ولأول مرة منذ أن جلس أمامي، رأيته يبتسم.
ابتسامة خفيفة جدًا، لكنها كانت حقيقية.
ورغم أنني لم أستطع أن أشعر بها كما كنتُ سأفعل في الماضي…
إلا أنني كنتُ أعرف أنها كانت تعني شيئًا.
وربما، في يوم ما… سأكون قادرة على الشعور بذلك مجددًا.
ساد الصمت للحظات.
كان كايلب يحدّق بي، متمسكًا ببقايا الأمل التي منحته إيّاها كلماتي الأخيرة، وكأنه يبحث في عينيّ عن شيء قد يمنحه الراحة.
أما أنا؟
فقط راقبته بهدوء، دون أن أقول شيئًا آخر.
لكن ما لم أنسَهُ للحظة، هو أننا لسنا وحدنا هنا.
"حسنًا، حسنًا…"
جاء الصوت المتوقع أخيرًا، منخفضًا، لكنه يحمل نغمة ساخرة مألوفة.
التفتُ نحو سايلوس، الذي كان يجلس بارتخاء، كما لو أن كل ما دار بيني وبين كايلب لم يكن أكثر من عرض مسرحي مسلٍّ بالنسبة له.
رأيته يحرك أصابعه ببطء على سطح الطاولة، ينظر إليّ للحظة، ثم يرمي كايلب بنظرة جانبية، قبل أن يقول بنبرة تحمل خفة
مستفزة:
"إذن… أنتما الآن فريق؟"
كايلب لم يرد، لكنه لم يكن بحاجة إلى ذلك، لأن سايلوس لم يكن ينتظر إجابة أصلًا.
بدلًا من ذلك، أدار وجهه نحوي، عيناه الحمراوان تلمعان بحدة تحت الإضاءة الخافتة، ابتسامته لا تزال هناك، لكنها تحمل
شيئًا مختلفًا هذه المرة.
"أميرتي، أنتِ تريدين استعادة مشاعركِ؟" سأل، نبرته كانت هادئة، لكن طريقته في قولها لم تكن بريئة أبدًا.
أومأتُ ببساطة.
"نعم."
"وما الذي يضمن أنكِ لن تكرهي ما ستشعرين به عندما تعود مشاعركِ؟"
لم أتوقع هذا السؤال.
شعرتُ بعضلات وجهي تتجمد للحظة، لم يكن بسبب كلماته بحد ذاتها، بل بسبب الطريقة التي نظر بها إليّ عندما قالها.
لم يكن يمزح، لم يكن يستفزني، كان… جادًا.
"سايلوس." قال كايلب بحدّة، كأنه لم يعجبه اتجاه الحديث.
لكن سايلوس لم يحرك نظره عني، لم يهتم لاعتراض كايلب أو حتى يعترف بوجوده.
كان ينتظر إجابتي، وكان واضحًا أنه لن يرضى بصمتٍ كإجابة.
فكرتُ للحظة، ثم قلتُ ببطء، دون أن أشيح ببصري عنه:
"لا شيء يضمن ذلك."
رأيتُ كيف تقلّصت ابتسامته قليلًا، كيف تغير تعبيره للحظة… لكنه لم يبدُ مستغربًا.
بل فقط أطلق زفرة قصيرة جدًا، كأنه كان يتوقع جوابي.
ثم، في اللحظة التالية، عادت ابتسامته بالكامل، لكن هذه المرة كانت أكثر هدوءًا… وأكثر غموضًا.
انحنى نحوي قليلًا، وعيناه لم تفارقا وجهي وهو يقول بنبرة منخفضة، لكنها واضحة:
"إذن، أخبريني يا أميرتي…"
أمال رأسه قليلاً، نظرته لم تكن ساخرة هذه المرة، بل كانت حقيقية بشكل خطير.
"هل أنتِ متأكدة أنكِ لا تريدين البقاء هكذا؟"
كايلب كان على وشك الاعتراض، لكنني كنتُ أسرع منه.
"نعم." قلتُ بحزم.
سايلوس لم يغيّر تعبيره، لم يتحرك حتى، لكنه استمر في النظر إليّ لعدة ثوانٍ، وكأنه كان يختبر مدى صدقي.
ثم، فجأة، ابتسم ابتسامة صغيرة جدًا، وقال بصوت أكثر نعومة مما توقعتُه منه:
"حسنًا، إذن… لنرَ كيف يمكننا إعادة مشاعر أميرتي إليها."
......
مرحبا 🍀
1.هل كانت تونه صادقة تمامًا عندما قالت إنها لا تشعر بأي شيء؟
2. هل كايلب صدّقها حقًا؟
أم أنه تمسك فقط بالأمل لأنه لا يعرف كيف يواجه فكرة فقدانها؟
3. سايلوس… هل سؤاله كان تحذيرًا مبطنًا؟
4. هل استعادة المشاعر حقًا هدف نقي؟
أم أن هناك سببًا آخر غير معلن يجعل تونه تريد استعادتها؟