الوقت لم يعد في صالحكِ، تونه."
تجمدتُ. "ماذا تعني؟"
لم يجبني، لكن الأخرى هي من تحدثت، بصوت ناعم يحمل شيئًا خطيرًا تحته. "ألا تشعرين به؟ التغيير الذي يجري داخلك؟"
ضغطتُ على قبضتيّ. لا… لا أريد أن أسمع هذا.
"لقد بدأتِ ترين الأمور كما أراها أنا."
ارتجفتُ، ذكريات اليوم تومض في رأسي—الطريقة التي شعرت بها بزملائي في العمل، كيف لاحظتُ تعابيرهم، أنفاسهم، حتى نبض عروقهم.
لا… لا يمكن.
"أنتِ تكذبين."
لكنها لم تجادل. فقط ابتسمت. وكأنها تعرف أنني بدأتُ أفهم.
شعرتُ بالهواء يثقل حولي، الغرفة تضيق، كل شيء يهتز داخل رأسي.
"تونه."
سايلوس نطق باسمي، وعندما نظرتُ إليه، رأيتُ شيئًا مختلفًا في عينيه. لم يكن البرود المعتاد. لم تكن قسوته.
كان هناك شيء آخر.
شيء أشبه… بالحزن؟
لكن قبل أن أفهم أكثر، شعرتُ بصدمة قوية في رأسي، كأن عالمي كله انهار في لحظة.
ثم فتحتُ عينيّ.
كنتُ في غرفتي. أنفاسي متقطعة، يدايّ ترتجفان، قلبي يطرق ضلوعي بجنون.
لكن الأسوأ…
كان الشعور بأنني لم أعد كما كنت.
نهضتُ ببطء، جسدي ثقيل كأنني عبرتُ مسافة لا نهائية. توجهتُ إلى المرآة، حدّقتُ في نفسي.
لكنني لم أرَ نفسي فقط.
كان هناك ظل خافت في انعكاسي، شيء لم يكن موجودًا من قبل.
عيناي… كان فيهما ذلك اللمعان الغريب مجددًا.
والأسوأ؟
كنتُ أعرف، في أعماقي، أنني لم أعد وحدي..
حدّقتُ في انعكاسي، أنفاسي ثقيلة، يدايّ تتشبثان بحافة المرآة. اللمعان في عينيّ لم يكن وهمًا، لم يكن مجرد انعكاس للإضاءة، بل كان… شيئًا آخر. شيئًا ينبض بالحياة داخلي.
ابتلعتُ ريقي، أجبرتُ نفسي على التراجع. لا، هذا ليس حقيقيًا. كل شيء مجرد ضغط نفسي،مجرد أوهام بسبب قلة النوم.
لكني لم أكن أصدق كلماتي حتى.
أغمضتُ عينيّ للحظة، ثم فتحتُهما ببطء، أتنفس بعمق. لا يمكنني أن أستسلم لهذا. يجب أن أكون قوية، يجب أن أفهم ما يحدث قبل أن أفقد نفسي تمامًا.
لكن السؤال هو… من يمكنه مساعدتي في هذا؟
في اليوم التالي....
حاولتُ التصرف بشكل طبيعي. استيقظتُ، ارتديتُ ملابسي، وذهبتُ إلى العمل كما أفعل كل يوم. لكن داخلي لم يكن هادئًا، كل خطوة كنتُ أخطوها كانت ثقيلة، وكأنني أسير نحو شيء لا مفر منه.
في المختبر، جلستُ أمام المجهر، أحاول التركيز على تحليل إحدى العينات، لكن رأسي كان في مكان آخر تمامًا.
ثم… شعرتُ به.
ذلك الإحساس.
رفعتُ نظري ببطء، ونظرتُ إلى أحد زملائي عبر الطاولة. كان مستغرقًا في عمله، لكنه بدا… مختلفًا. أو بالأحرى، أنا من رأيته بشكل مختلف.
استطعتُ أن أسمع نبضه. لا، لم يكن سماعًا حقيقيًا، بل كان أشبه بإحساس غريب، كأنني كنتُ أستطيع رؤية دمه وهو يجري في عروقه، كأنني كنتُ قادرة على استشعار كل ذرة توتر أو قلق داخله.
جفلتُ بسرعة، أبعدتُ نظري، شعرتُ بدوار مفاجئ.
هذا ليس طبيعيًا.
نهضتُ من مكاني، متجهة إلى الحمام، أغلقتُ الباب خلفي، وأسندتُ ظهري إليه، أتنفس بعمق.
"ما الذي يحدث لي؟"
لكنني لم أكن بحاجة لسؤال أحد ليجيبني.
لأنني كنتُ أعرف الجواب.
—
في تلك الليلة
لم أكن أريد النوم. كنتُ خائفة مما سأراه، مما سأكونه عندما أعبر إلى ذلك العالم مجددًا. لكنني كنتُ أعرف أنني لا أملك خيارًا.
لذلك، استلقيتُ على السرير، وأغمضتُ عينيّ.
وحين فتحتُها، كنتُ هناك.
المكان كان مظلمًا، لكنه لم يكن الفراغ المعتاد. هذه المرة، كنتُ في غرفة واسعة، الجدران كانت من الطوب الرمادي، الإضاءة خافتة، لكنني استطعتُ رؤية الطاولة الخشبية في المنتصف، والأوراق المتناثرة فوقها.
كان هناك شخص يقف عند النافذة، ظهره لي.
سايلوس...
"أخيرًا قررتِ العودة."
لم أجب. شعرتُ بأنفاسي تهدأ، لكن ليس لأنني كنتُ مرتاحة. بل لأنني كنتُ مستعدة للمواجهة.
"ما الذي يحدث لي؟" سألتُ أخيرًا، نبرة صوتي كانت أكثر ثباتًا مما توقعت.
سايلوس استدار ببطء، عينيه تراقبني، تتفحصني، كأنني لغز يحاول حله. ثم، بابتسامة خافتة،
"بدأتِ في التذكر."
تجمدتُ في مكاني. "ماذا؟"
لكنه لم يجب مباشرة. بدلا من ذلك، تقدم نحوي، ببطء، كأنه يعطي عقلي فرصة لاستيعاب كلماته.
"هذا ليس مجرد حلم، تونه. ولم يكن كذلك أبدًا."
شعرتُ بقشعريرة باردة تزحف على جلدي.
"إذن… ما هذا؟"
سايلوس وقف أمامي، قريبًا بما يكفي لأشعر بهالته تلامسني.
ثم قال، بصوت هادئ لكنه محمّل بالمعاني:
"هذا هو الماضي الذي نسيته."
حدّقتُ في سايلوس، كلماتُه تتردد في رأسي، تصطدم بجدران عقلي التي بدأت تتصدع.
الماضي؟ ماذا يعني؟ أي ماضٍ هذا الذي يتحدث عنه؟
"أنا لم أنسَ شيئًا؟!." قلتها، لكن صوتي لم يكن حاسمًا كما أردت. شعرتُ بالتردد يثقلني.
سايلوس ابتسم، ابتسامة باردة خالية من السخرية هذه المرة. كانت… حزينة؟ لا، لا يمكن أن يكون سايلوس حزينًا.
"بل نسيتِ،" قال بهدوء. "وأنتِ الآن بدأتِ تتذكرين."
أردتُ أن أرفض كلامه، أن أصرخ وأخبره أنه مخطئ، لكن…
ذاك الشعور…
ذلك الإحساس الذي بدأ يتشكل في أعماقي منذ بدأتُ أراه… منذ بدأتُ أشعر بأشياء لا يمكن تفسيرها… منذ رأيتُ نفسي في انعكاسي ولم أتعرف عليها تمامًا.
لقد كنتُ أشعر بذلك طوال الوقت.
"هذا… مستحيل." همستُ، صوتي بالكاد مسموع.
سايلوس لم يقل شيئًا. فقط راقبني. كأنه ينتظرني لأصل إلى الإجابة بنفسي.
أغمضتُ عينيّ للحظة، أُجبر نفسي على التنفس. إذا كان يقول الحقيقة… إذا كنتُ قد نسيتُ أمرًا مهمًا، فكيف يمكنني استعادته؟
"كيف يمكنني أن أتذكر؟" سألتُ أخيرًا.
"ليس بالسؤال." أجاب ببساطة. "بل بالشعور."
شعرتُ بالانزعاج. "هذا لا معنى له."
"بل له كل المعنى، لكنكِ خائفة من رؤيته."
ضغطتُ على قبضتيّ. لم يكن مخطئًا.
لكن…
ماذا لو كان ما نسيته أسوأ مما أظن؟
ماذا لو لم أرد التذكر؟
سايلوس تقدم خطوة أخرى، حتى كاد يلامسني. عينيه كانتا أقرب، أكثر وضوحًا، أكثر… مألوفية.
همس: "تونه، أنتِ لا تحلمين فقط. أنتِ تعيشين هذا."
"لكن هذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا!" انفجرتُ بغضب، أخرج كل التوتر الذي يتراكم داخلي. "أنا هنا، لكنني أيضًا هناك! أنام فأجد نفسي معك! أستيقظ فأشعر بك معي! كيف يكون هذا طبيعيًا؟"
لم يرمش حتى. فقط قال:"لأنكِ لم تنتمي أبدًا لعالم واحد فقط."
صُدمتُ. لم أكن مستعدة لهذا الجواب.
شعرتُ برأسي يدور، كأنني أقف على حافة بين عالمين، وأي خطوة خاطئة قد تسقطني في هاوية لا قاع لها.
"ماذا… تقصد؟" همستُ.
سايلوس لم يجب هذه المرة. فقط رفع يده، ومدها نحوي، كأنه يدعوني لعبور العتبة الأخيرة.
ترددتُ. ثم، ببطء، رفعتُ يدي ولمستُ يده.
وفجأة— لم أعد واقفة في الغرفة.
—
ومضات.
صرخات.
دماء.
ووجهي… لكنني لم أكن أنا.
شهقتُ، فتحتُ عينيّ بعنف، جسدي يرتجف.
كنتُ على الأرض، ويدي لا تزال مشدودة إلى يد سايلوس، لكنني شعرتُ بشيء غريب… شيء مختلف.
لم يكن مجرد حلم.
لقد رأيتُ… ذكرى.
ذكرى تخصني....
لم يكن مجرد حلم.
لم يكن مجرد وهم.
ما رأيته… كان ذكرى.
يدي كانت لا تزال متشابكة مع يد سايلوس، لكن عقلي لم يكن هنا بعد. كنتُ غارقة في دوامة من الصور والمشاهد… أشياء أعرفها، لكنني لا أذكرها. أماكن زرتها، لكنني لم أزرها أبدًا. أصوات تتردد في ذهني، مألوفة كأنها كانت جزءًا من حياتي يومًا ما، لكنها غريبة وكأنها ليست لي.
ضغطتُ على صدغيّ، أُجبر نفسي على التركيز، على فهم ما يحدث. لكن الذكريات لم تكن واضحة… كانت مثل شظايا زجاج مهشم، كلما حاولت التقاطها جرحتني.
—
ومضة.
ضوء خافت يتسلل من نافذة صغيرة، الغرفة ضيقة لكن دافئة. رائحة الشاي بالنعناع تملأ المكان.
ضحكة ناعمة تتردد في الأجواء، صوت امرأة.
"حبيبتي، تعالي، لم تتركي كتابكِ طوال اليوم!"
التفتُّ، رأيتها…
امرأة بشعر طويل داكن، وعينين تحملان حنانًا لا نهاية له.
أمي؟
لكن لا… هذه ليست أمي التي أعرفها.
—
ومضة أخرى.
طفلة تجلس في زاوية الغرفة، ترسم دوائر على الأرض بأصابعها، كأنها تحاول رسم شيء لا تستطيع تذكره.
هناك رجل يقف خلفها، لكن وجهه غير واضح.
"يجب أن تكوني حذرة، تونه."
"لماذا؟"
صمتٌ.
ثم همس، وكأنه يحذرني من شيء خطير:
"لأنكِ مختلفة."