"انتي حقيقه " قال بصوت هادئ لكنه حاسم. "وأنا لن أدعكِ تضيعين."
شعرتُ بأنفاسي تتسارع، ليس بسبب البكاء هذه المرة، بل بسبب قربه… بسبب الطريقة التي كان ينظر بها إليّ، وكأنني الشيء الوحيد الذي يراه في هذا العالم.
عيناه لم تكونا قاسيتين الآن، لم تكونا غامضتين… كان فيهما شيء آخر، شيء أعمق.
شيء لم أرَه من قبل.
مدّ يده إلى خصلة من شعري، لفّها حول إصبعه ببطء، وكأنه يتذوق اللحظة.
"أنا هنا، تونه." همس، كأنها وعود غير منطوقة، كأنها شيء أعمق من الكلمات.
"أنا هنا معكِ."
شعرتُ بجسدي يرتجف، لكن هذه المرة، لم يكن من الخوف.
بل من شيء آخر تمامًا...
ظلّت كلماته تتردد داخلي، تتغلغل في أعماقي، تمحو ذلك الشعور بالضياع الذي كان يخنقني. للحظة، أردتُ أن أصدّقه، أن أتمسك بهذه الحقيقة التي يقدّمها لي. لكنني كنتُ خائفة… خائفة مما يعنيه ذلك.
"كيف يمكنك أن تكون متأكدًا؟" همست، بالكاد أسمع صوتي.
سايلوس لم يبتعد، ظلّ قربي، وكأن المسافة بيننا لم تعد تعني شيئًا. "لأنني كنتُ أنتظركِ، تونه." قال بصوت منخفض، لكنه محمّل بالثقل ذاته الذي كان يسكن عينيه.
قلبي خفق بقوة. "تنتظرني؟ لماذا؟"
مرّر أصابعه على وجنتي، لمسة خاطفة لكنها كانت كافية لتشعل حواسي. "لأنني أعرف حقيقتكِ أكثر مما تعرفينها أنتِ."
تراجعتُ قليلًا، التوتر يعود ليسري في جسدي. "لكن هذا لا معنى له، سايلوس. أنا… أنا مجرد فتاة عادية، أعيش حياتي العادية، أعمل، أنام، وأحلم… لكن ما يحدث الآن؟ لا يمكن أن يكون طبيعيًا!"
رفع حاجبه، كأن كلماتي أدهشته. "فتاة عادية؟" ابتسم ابتسامة صغيرة لكنها كانت تحمل شيئًا أكثر من مجرد سخرية. "هل الفتاة العادية تحلم بعالم آخر؟ هل الفتاة العادية ترى ما لا يمكن للآخرين رؤيته؟ هل الفتاة العادية تستطيع الشعور بأشياء لا يمكن تفسيرها؟"
شعرتُ بجسدي يتصلّب. لا، لم يكن هذا طبيعيًا… لكنني لم أكن مستعدة للاعتراف بذلك بعد.
"لكنني لا أفهم… لا أتذكر كل شيء…"
"ستفعلين." قالها بثقة، وكأن الأمر حتمي.
لكنني لم أشعر بهذه الثقة. كنتُ على الحافة، مترددة بين الوثوق بكلماته أو التمسك بعالمي الذي كنتُ أعرفه.
ثم، فجأة، تغير كل شيء.
الغرفة حولنا بدأت تهتزّ، كما لو أن الهواء نفسه أصبح ثقيلًا، كأن الجدران لم تعد صلبة كما بدت. الضوء أصبح خافتًا أكثر، وصوت طنين خفيف بدأ يتردد في أذني.
تشنّج جسدي. "ما هذا؟"
سايلوس لم يتحرّك، لكن عينيه أصبحتا أكثر حدة. "إنه الوقت."
"وقت ماذا؟"
نظر إليّ طويلًا، ثم قال:
"وقت الحقيقة."
وفجأة—
انهار العالم من حولي.
-
وجدتُ نفسي في مكان مختلف تمامًا. لم أكن في الغرفة، لم أكن مع سايلوس. كنتُ في ممر طويل، جدرانه من الطوب الرمادي القديم، مشاعل مشتعلة على الجدران تلقي بظلال متراقصة على الأرضية الحجرية. الجو كان مشحونًا بشيء غريب، شيء جعل أنفاسي تتسارع دون سبب.
ثم سمعتُها.
صوت خطوات… خفيفة، لكن واضحة.
استدرتُ بسرعة.
كانت هناك فتاة صغيرة، لا يزيد عمرها عن عشر سنوات، تقف في نهاية الممر.
شعرتُ بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
"من أنتِ؟" سألتها، لكن صوتي خرج وكأنه صدى بعيد.
لم تجب. فقط نظرت إليّ بعينيها العميقتين.
ثم، همست بصوت بالكاد يُسمع:
"لقد وجدوكِ."
شهقتُ، قبل أن أسمع صوتًا آخر، صوتًا عميقًا، خطيرًا.
"أمسكوها!"
التفتُّ بسرعة، لكن كل شيء أصبح ضبابيًا.
لم أتمكن من الرؤية. لم أتمكن من الحركة.
كل ما شعرتُ به كان الأيدي التي امتدت نحوي—
ثم الظلام.
استيقظتُ بعنف، أتنفس بصعوبة، العرق يتصبب من جبيني.
كنتُ في غرفتي. على سريري.
لكني لم أكن وحدي.
سايلوس كان هناك، جالسًا عند حافة السرير، يراقبني بصمت، وكأنني كنتُ لغزًا يصعب حله.
لم أتمكن من التحدث لوهلة، كان قلبي ما زال يخفق بجنون بسبب ما رأيته.
لكنه لم يمنحني وقتًا لاستيعاب الأمر.
"ماذا رأيتِ؟" سأل بهدوء، لكن في صوته شيء جعلني أدرك أنه يعرف بالفعل.
التقت عينيّ بعينيه، وشعرتُ بالبرودة تزحف في داخلي.
ثم همستُ: "لقد وجدوني، سايلوس."
"إنهم يعرفون أنني هنا."
فجأة يسود الضلام ... تغيير المشهد
اثم شعر بحواسي تعود .
لم أفتح عينيّ فورًا.
كنتُ أطفو بين يقظةٍ ونوم، بين وعيٍ مشوّش وذكرياتٍ تعود متأخرة جدًا. جسدي لم يعد يشعر بالثقل المعتاد، وكأنني كنتُ محاصرة في مكانٍ خارج الزمن، حيث لا شيء يتحرك إلا أفكاري.
أين أنا؟
هل استيقظتُ بالفعل؟ أم ما زلتُ في الحلم؟
رأسي كان مثقلًا، أشعر بأنني أحمل داخله أصواتًا كثيرة، بعضها يناديني، بعضها يهمس لي، وبعضها… يبكي.
أخذتُ نفسًا عميقًا، لكنه لم يملأ رئتي كما ينبغي. الهواء كان مختلفًا، خفيفًا، باردًا… وكأنني كنتُ أتنفس داخل ذاكرة.
وحين فتحتُ عينيّ، لم أكن في غرفتي.
كنتُ في الممرّ المظلم مرة أخرى.
نفس الجدران الرمادية، نفس الإضاءة الخافتة التي لا أعرف مصدرها، نفس الرطوبة التي تسللت إلى جلدي كما لو كانت جزءًا مني. لكن هذه المرة، لم يكن المكان فارغًا.
كان هناك شخص يقف عند نهاية الممر.
لم يكن سايلوس.
ولم يكن غريبًا تمامًا أيضًا.
كان… شبيهًا بي.
تقدمتُ ببطء، خطواتي كانت تتركني خلفها كما لو كنتُ أسير خارج جسدي. كلما اقتربتُ، بدأت ملامح الشخص تتضح أكثر.
كانت فتاة.
شعري، عيناي، حتى الطريقة التي وقفت بها… كأنني كنتُ أنظر إلى نفسي في مرآة قديمة، لكن هذه المرآة لم تعكسني كما أنا الآن، بل كما كنتُ في زمنٍ آخر.
أو كما كنتُ قبل أن أنسى.
تجمدتُ.
هي أيضًا تجمدت.
لكنها لم تكن صورةً فارغة… بل كانت تنظر إليّ كأنها تتذكرني.
"تونه." نطقتْ اسمي بصوتٍ أعرفه جيدًا، لكنه لم يكن صوتي الآن، بل صوتٌ منسيّ… صوتٌ يعود لطفلةٍ كنتها ذات يوم.
تراجعتُ خطوة إلى الوراء، لكن الممرّ لم يكن يسمح لي بالهرب. شعرتُ بجسدي يبرد، بقلبي يتباطأ، بشيءٍ أكبر مني يتسلل إليّ، يتخلل أنفاسي، يوقظ في داخلي أبوابًا مغلقة منذ زمن.
"من… أنتِ؟" تمتمتُ، رغم أنني لم أكن بحاجة للسؤال.
ابتسمتْ، لكن ابتسامتها لم تكن سعيدة.
"أنا أنتِ."
ثم، قبل أن أتمكن من النطق بشيء آخر، اختفى كل شيء من حولي.
وتدفقت الذكريات.
لم أكن غريبةً عن هذا المكان.
لم أكن غريبةً عن هذا العالم.
كنتُ أستعيد شيئًا ضائعًا.
شيئًا كانوا قد سلبوه مني منذ زمنٍ بعيد.
ثم جاء الصوت، هذه المرة لم يكن من الفتاة، بل من الفراغ نفسه:
"الآن… بدأتِ تتذكّرين."
ظللتُ واقفة في الممرّ، أنفاسي تتلاحق بينما نبضات قلبي تدوي في أذنيّ كطبول حرب قديمة. الذكريات التي اندفعت إلى ذهني لم تكن مجرد صور باهتة، بل كانت حياة كاملة، حياة كنتُ قد نسيتها، أو بالأحرى... حُرِمتُ منها.
لكن من فعل ذلك؟ ولماذا؟
المكان من حولي بدأ يتلاشى ببطء، كأن الممرّ نفسه لم يكن حقيقيًا، مجرد شظية أخرى من الذكرى، من الماضي الذي كان يطفو على سطح وعيي.
ثم—
وجدتُ نفسي مجددًا في غرفتي، جسدي يرتجف، وعرقي البارد يلتصق ببشرتي. كانت الأضواء خافتة، لكنني لم أكن وحيدة.
سايلوس كان هناك.
لم يكن جالسًا هذه المرة، بل كان واقفًا عند النافذة، ظهره لي، عيناه مثبتتان على الظلام خارجًا، كأنه كان يرى شيئًا لم أستطع رؤيته.
"لقد تذكرتِ."
لم يكن سؤالًا، كان تأكيدًا.
جلستُ ببطء، لا زلتُ أشعر بتأثير الذكريات التي تدفقت إلى عقلي. "ليس كل شيء... لكنني رأيتُ ما يكفي."
استدار نحوي، عيناه تتوهجان تحت الضوء الخافت. "إذن أنتِ تفهمين الآن؟"
بلعتُ ريقي، شعور غريب يتسلل إليّ. كنتُ خائفة من الإجابة، لأنني لم أكن متأكدة مما يعنيه كل هذا.
"أنا... كنتُ هناك، سايلوس. كنتُ تلك الطفلة في الممرّ. كنتُ وحدي، كنتُ خائفة..." صمتُّ للحظة، محاولةً تهدئة أنفاسي قبل أن أضيف: "لكنني لم أكن وحيدة تمامًا، أليس كذلك؟"
لم يجب. فقط ظلّ ينظر إليّ بصمت، وكأن صمته كان يحمل أكثر مما قد تحمله الكلمات.
لكنني لم أكن بحاجة إلى إجابة منه.
لأنني كنتُ أعرف.
هو كان هناك.
لطالما كان هناك.
شعرتُ بقشعريرة تتسلل عبر جلدي، ليس بسبب الخوف، بل بسبب الإدراك. الإدراك بأن حياتي لم تكن كما ظننتها، بأن هناك شيئًا أكبر مني، أكبر من كل ما عرفته عن نفسي.
"ماذا يعني هذا، سايلوس؟" همستُ، وأنا أنظر في عينيه بحثًا عن حقيقة قد يخفيها عني.
"يعني أن الوقت قد حان، تونه."
"وقت ماذا؟"
اقترب ببطء، خطواته بالكاد تُسمع على الأرضية. "وقت أن تعرفي الحقيقة... كلها."
حبستُ أنفاسي، جسدي مشدود كوتر مشدود على حافة الانكسار.
ثم، بصوت منخفض لكنه حمل ثقل العوالم، قال:
"لقد جاؤوا من أجلكِ."