ثم، بعد خمس سنوات من الفراق، وجد نفسه في مكانٍ مختلف، في عالم آخر لا يشبه عوالمه المألوفة. كان يتنقل بين أحلامه وبين الهمسات التي كان يسمعها عبر تلك المرايا الغامضة التي ارتبط بها. وفي إحدى تلك اللحظات، شعور لم يعرفه من قبل اجتاحه. كانت هناك، أمامه، في عالم آخر، عينيها تلمعان، وحضورها يجذب قلبه كما لو كان سحرًا غير مرئي.

لم يكن يصدق نفسه، هل هي حقًا هناك؟ هل هي على قيد الحياة؟ هل يمكن أن يكون قد حصل على فرصة أخرى لرؤيتها؟ كانت الأجوبة غير واضحة، لكن ما كان مهمًا هو أنها كانت هناك، حتى لو كانت عبر الأحلام، حتى لو كانت فقط عبر المرايا التي لم يعرف سرها بعد.

كان يشعر بشيء غريب، شيء مزيج من الفرح والحزن في آنٍ واحد. فرح لأنه علم أنها على قيد الحياة، حزنه لأنها لا تزال بعيدة عنه. لكن رغم المسافة بينهما، شعر بشيء آخر، شعور عميق أنه يمكنه إعادتها إلى عالمه، إلى مكانه، حتى لو لم يكن الأمر ممكنًا إلا عبر الأحلام. كانت المرايا، التي كانت لا تزيده إلا غموضًا، قد أصبحت أداة للاتصال بها.

لم يعد يهتم بكيفية أو لماذا، كان يكفيه أن يعرف أنها لا تزال هناك، وأنه يستطيع الوصول إليها بطريقة ما، حتى لو كانت تلك الطريقة مستحيلة، حتى لو كانت مجرد حلم. كانت لحظات رؤيتها في تلك الأحلام أكثر من كافية له، كانت كافية ليشعر أن شيئًا قد تغير في قلبه، وأنه لا يزال هناك أمل، حتى لو كان في عالم آخر بعيد.

خمسة أعوام من الفراق لم تكن كافية لتجعل مشاعره تختفي. كان يعلم في قرارة نفسه، أنه مهما كانت التحديات التي تواجهه، فإن إعادة تونه إلى عالمه، إلى حياته، أصبحت هدفًا يسعى لتحقيقه. وبالرغم من أنه لم يكن قادرًا على أن يعيدها كما كان، إلا أن تلك اللحظات البسيطة، تلك اللمحات التي كان يرى فيها عينيها في عالم آخر، كانت تعني له كل شيء.

لم يعد الأمر يتعلق فقط بالسلطة أو بالقوة، بل أصبح مرتبطًا بشيء أكثر إنسانية، بشيء أعمق. كان يكفيه أن يعرف أنها هناك، وأنه لا يزال لديه فرصة، حتى ولو كانت تلك الفرصة مجرد حلم..

كان سايلوس يقف أمام المراة، يراقب انعكاسه وهو يشد قبضته على حافة الطاولة. عيناه كانتا غارقتين في بؤس عميق، وكأنما كانت عواطفه تتصادم داخل قلبه، فكل نبضة كانت تذكره بتلك الحقيقة المدمرة التي اكتشفها. تلك الحقيقة التي تجعله يشعر وكأن الأرض تحت قدميه قد انهارت، كما لو أن كل شيء، كل شيء كان يعول عليه، قد تحطم.

تونه، التي ظن أنها كانت فقدت إلى الأبد، قد عادت إلى عالمه. لكنها، لم تكن هي نفسها. وكأن كل تلك اللحظات التي جمعتهم، وكل تلك الذكريات الجميلة التي تروي قصة حب غير عادية، كانت مجرد خيوط رقيقة تلاشت في الظلام.

كانت عيناها فارغتين من أي شيء، كما لو أن روحها قد غادرت المكان، وأخذت معها كل جزء من هويتها. حاول سايلوس الاقتراب منها، أن يملأ الفراغ الذي خلفته تلك الذاكرة المفقودة، ولكنه لم يجد طريقًا. لم يكن يستطيع أن يذكرها بأي شيء، خوفًا من أن تعود ذكرياتها وتغمرها بموجات الألم. فكلما اقترب منها، كان يشعر بها تبتعد أكثر.

ما جعل الأمر أكثر صعوبة هو ما اكتشفه بعدها. عندما علم أن السبب وراء فقدان ذاكرتها هو العنف والظلم الذي تعرضت له من عائلتها الأصلية. كانت تلك العائلة هي التي قيدت حياتها وأخذت منها كل شيء. كان من المستحيل على سايلوس أن يصدق ذلك، لكن قلبه كان يعرف الحقيقة. كانت تونه قد فقدت كل شيء بسببهم: حياتها، هويتها، وكل شيء كان يمثلها.

شعر بشعور قاتل عندما تخيلها وهي تمر بتلك اللحظات الصعبة، تلك اللحظات التي جعلتها تعيش في جحيم من المعاناة والفقد. كان يعرف أن من أصعب الأشياء التي يمكن أن تواجهها هو استرجاع تلك الذكريات. كانت ستكون كالصدمات التي لا تنتهي، لأن كل شيء سيعود معها: أوجاعها، معاناتها، وألم الفقد.

لم يستطع أن يتحمل فكرة أن تونه، التي أحبها بعمق، ستواجه تلك الذكريات المظلمة يومًا ما. كان يعلم أن كل لحظة سيعود فيها وعيها إلى ما كان عليها في السابق ستكسرها، ستجعلها تعيش الألم من جديد، وكأنما تعيش كل شيء للمرة الثانية.

ومع ذلك، لم يستطع أن يتركها، لا يستطيع أن يبتعد عنها. كان يراها كل ليلة في أحلامه، كان يحاول أن يقترب منها، أن يساعدها، ولكن كلما اقترب أكثر، شعرت هي أكثر بالخوف والارتباك. كان عقله يصرخ بالحلول الممكنة، ولكن قلبه كان يدرك أن الوقت لم يكن بعد قد حان لاسترجاع ذكرياتها. كان يعلم أنها ستتألم حين تعود تلك الذكريات المظلمة، لكنه كان يؤمن في نفس الوقت بأن الألم جزء من عودتها، وأنه لا يستطيع أن يوقف هذه الدورة.

"هل ستتمكنين من التعامل مع هذا، تونه؟" همس سايلوس لنفسه. كان يدرك أن الطريق أمامها ليس سهلًا. وعندما تعود إليها تلك الذكريات، ستكون هناك الكثير من الأسئلة التي ستظل بلا إجابة. سيظل يراقبها من بعيد، حتى لو كانت تعيش في عالم مليء بالأوهام التي خلقها لنفسه، لأنه يعرف أن ما تحتاجه الآن هو أن تتأقلم، أن تجد نفسها في هذا العالم الجديد. كان يعلم أنه مهما طال الوقت، مهما كانت المعاناة، فهو سيظل هناك، ينتظر الفرصة المناسبة ليقف بجانبها.

لكن حتى ذلك الحين، كان عليه أن يتعامل مع الواقع، مع حقيقة أن تونه لا تتذكره، ولا تتذكر حياتهم معًا. وكان ذلك أكبر اختبار له.

كانت ليالي سايلوس تزداد ظلمة كلما مضت الأيام. كان يقف أمام المراة، شارد الذهن، يتأمل وجهه في انعكاسها، بينما كانت تونه في عالمها الآخر، تكافح مع ظلال الماضي الذي بدأ يطاردها. كان قلبه يتقطع كلما كانت تشعر بالألم، كلما كانت تصرخ في أحلامها، أو تغرق في نوبات من الصداع العنيف، وكأن عقولهم تشتبك في صراع مستمر، والذكريات تلوح في الأفق مثل أطياف بعيدة.

لم يكن قادرًا على فعل شيء سوى الانتظار، متيقنًا من أن اللحظة التي ستعود فيها تونه إلى نفسها، إلى الماضي، ستكون أصعب اللحظات في حياتها. كانت معاناتها تزداد قوة. كانت أصوات الذكريات القديمة تعود إلي رأسها مثل صواعق كهربائية، مشعلة في أعماقها جروحًا قديمة لم تندمل بعد. كانت تجد نفسها في عالم مليء بالصور الضبابية، غير قادرة على الإمساك بأي شيء، كل شيء كان يتفلت منها كما لو كان حلمًا مستمرًا، كابوسًا لا ينتهي.

كان يراقبها من خلال المراة، يعرف تمامًا متى تكون في حالة من الألم، متى يتملكه الخوف والقلق بشأنها. في تلك اللحظات، كان يشعر بالعجز يتسلل إلى قلبه، لا يستطيع أن يخفف عنها شيئًا. لم يكن لديه القدرة على الوقوف بجانبها والاحتفاظ بها بين ذراعيه، في عالم كان مليئًا بالألم والحيرة. كان يشعر بتمزق داخلي، وأحيانًا كان يتمنى لو كانت تذكره، لو أنها تستطيع أن تراه بشكل كامل كما كانت في الماضي.

الصداع الذي كانت تشعر به كان يطاردها كالعاصفة، يضرب رأسها بكل قوته، وكأن عظامها تتحطم تحت وطأته. كان صراخها في الأحلام يرن في أذنه، لكن لا شيء كان يتغير. لم يكن يمكنه أن يصل إليها في تلك اللحظات المظلمة. كان يعلم أنه يجب أن تكون قوية. لكنها كانت تغرق في بحر من الألم، تبحث عن ملاذ لم تجد له مكانًا.

وبينما كانت تونه تكافح من أجل استرجاع ذكرياتها، كان سايلوس يعاني بشكل غير مرئي. كلما كانت تسترجع جزءًا من ماضيها، كان جزء منها يُمزق في صمت. كان يشاهد كيف كانت تتألم في الليل، بينما هو لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى أن ينتظر. كان يدرك أن ما كانت تمر به هو ضرورة من أجل أن تتخلص من سلاسل الماضي التي قيدتها، لكن الأمر كان مؤلمًا جدًا بالنسبة له.

الكوابيس التي كانت تلاحقها في الليل كانت بمثابة مرآة لعالم مليء بالظلام. كانت تتخبط في رؤى متشابكة، تتنقل بين الحاضر والماضي، بين الأمل والندم. ومع كل ليلة، كانت تجلب معها مزيدًا من الألم، لكن سايلوس كان يعلم أنه لن يستطيع إيقاف هذا. كان حزينًا من أعماقه، لكنه في نفس الوقت كان يعرف أن هذا هو الطريق الذي يجب أن تسلكه لتعود إلى نفسها.

"هل ستتحملين هذا، تونه؟" كان يسأل نفسه في كل مرة كان يرى ألميها يزداد، بينما كان في قلبه يعصره شعور بالفقد والضعف. "هل يمكنك أن تجدين القوة لتتجاوزين هذه اللحظات، لتعودين إلي؟"

في تلك اللحظات، كان يشعر وكأن الوقت قد توقف، وكأن الزمن يدور حوله، لكنه لا يتحرك. كان يحس بكل لحظة كانت تعيشها تونه كما لو كانت هي جزء منه. وكانت معاناتها هي معاناته. لم يكن هناك شيء أقسى من أن ترى الشخص الذي تحبه يمر بكل تلك الصدمات، وأنت عاجز عن تقديم أي مساعدة. كان فقط يراقبها، يعرف أنها في الطريق، لكن الطريق كان مليئًا بالأشواك..

في عالمه الذي لا يعرف الرحمة، كان سايلوس يقف وحده على حافة الهاوية. كل خطوة كان يخطوها كانت مليئة بالتحديات، سواء من أعدائه أو من أعضاء منظمته "الأونوكاينس" الذين كانوا يشككون في قدراته وطموحاته. كانوا يرونه مجرد قائد يسعى للسلطة، لكنهم لم يعرفوا حقيقة الصراع الذي كان يعيشه داخليًا.

في أعماقه، كان يحمل سرًا لا يستطيع البوح به، سرًا كبيرًا يتضمن ماضيه العميق والظلام الذي يطارد كل أفعاله. كان السر هذا هو العائق الأكبر أمام قدرته على التحليق بحرية. لم يكن هناك سوى شخص واحد يستطيع أن يكشفه، لكنه كان يخشى أن يفقدها إن فعل. كان يخشى أن تفهم تونه الحقيقة، تلك الحقيقة التي ستغير كل شيء بينهما.

لكن على الرغم من قسوة هذا السر، كانت المنظمات الأخرى تزداد قوة، وكان أعداؤه يضيقون الخناق عليه. كلما حاول التقدم، كان يرى نفس الوجوه التي تهدد زعامته، وكلما بحث عن حلفاء جدد، كان يكتشف أنهم كانوا يحاولون خيانته وراء ظهره. في تلك اللحظات، شعر أن الأرض تبتعد عنه أكثر وأكثر، بينما كان هو يحاول جاهداً أن يحتفظ بما تبقى له من السيطرة على عالمه.

بينما كانت تحدياته تتزايد، كان يظل يحمل تلك الهمسات في قلبه، تلك الهمسات التي جاءت على شكل حلم غريب أو لحظة من ذكريات تونه التي بدأت تظهر في عينيه مجددًا، ولكن هذه المرة كانت تحمل علامات التحذير. كان يعلم أن هناك شيئًا ما على وشك أن ينكسر. كان يلمح في كل مرة ملامح المعركة القادمة.. تلك المعركة التي سيخوضها ليس فقط ضد العالم الخارجي، بل ضد ذاته أيضاً.

فكيف سيتحمل كل هذا الضغط؟ وكيف سيخفي سره الذي لو اكتشفه أحد، لربما دمر كل ما بناه؟

2025/05/14 · 6 مشاهدة · 1578 كلمة
Fatima
نادي الروايات - 2025