كان الجو يزداد كآبة مع كل دقيقة تمر. السماء السوداء كأنها قد صبغت بالحبر، تتخللها برقعات رمادية داكنة. السحب كانت ثقيلة، متجمعة كأنها تحمل عبء العالم. الرياح تعصف بلا هوادة، تلتف حول المباني والأزقة كوحش جائع يبحث عن فريسة. بدأت قطرات المطر تتساقط، أولاً بخجل، ثم تحول ذلك الخجل إلى سيلٍ جامح، يضرب الأرصفة والطرقات بعنف. أصوات المطر ترتطم بالزجاج، تختلط مع أنين الرياح وصفيرها المزعج، مما جعل الأجواء أشبه بكابوس حيّ.
في الشوارع، كان الناس يركضون بشكل عشوائي، يحاولون الاحتماء من الغضب السماوي. البعض لجأ إلى مظلاتٍ لا تسعفهم، والبعض الآخر اختبأ تحت مظلات المتاجر، لكن المدينة نفسها بدت وكأنها تحتضر، شوارعها غارقة بالماء، وأضواؤها الباهتة تعكس صورة مشوهة للعالم من حولها.
داخل منزل موريس، المكان الوحيد الذي يبدو هادئًا وسط هذه الفوضى. المنزل كان قديماً، تُسمع فيه صرير الأرضية مع كل خطوة، والجدران مغطاة بورق قديم بدأ يتقشر بفعل الرطوبة. كل شيء كان يعكس شخصية سيد موريس، شخصية محافظة لكنها متعبة، تحمل عبق الماضي المليء بالأسرار.
ثم جاءت ثلاث دقات على الباب، كأنها تُعلن حضور الموت نفسه. دقات منتظمة، ثقيلة، كأنما تحمل وزن العالم بأسره. موريس كان جالساً على كرسيه الجلدي القديم، ينظر إلى النوافذ المتراقصة بفعل الرياح. رفع عينيه ببطء نحو الباب، شعور غريب اجتاحه، مزيج من الحذر والتوقع. نهض بخطى ثابتة وفتح الباب.
"آه..." قال بصوتٍ مبحوح وهو يبتسم ابتسامة خفيفة مشوبة بالتوتر. "إنه أنت."
في الخارج، كان "بانغ" يقف. رجل بدا وكأنه خرج للتو من جحيم شخصي. وجهه مغطى بطبقات من الدم المتخثر، وملابسه ممزقة ومبللة، تفوح منها رائحة الحديد والعرق. عيناه كانتا تشتعلان بنظرة حادة، كأنهما تستطيعان ثقب الجدران. دخل بانغ بخطوات ثقيلة، تاركاً وراءه آثاراً من الماء والدم على الأرض.
"سائق المروحية الذي أرسلتَهُ إليّ مجنون،" قال بانغ بنبرة ساخرة، وهو يجلس على أحد الكراسي وكأن المكان ملكه. "ألم تجد شخصًا أكثر كفاءة منه؟ الرجل بالكاد يعرف كيف يطير، وبصراحة، رائحته مقززة."
موريس أغلق الباب بهدوء، عكس التوتر الذي يشعر به داخلياً. اقترب منه وقال بصوت منخفض، لكنه يحمل نبرة الدهشة: "ما زلتُ لا أصدق أنك هربت من السجن. الحراس هناك ليسوا مجرد مبتدئين. كيف تجاوزتهم بهذه السرعة؟"
ألقى بانغ نظرة جانبية ساخرة على موريس قبل أن يمسح بقعة دم صغيرة عن معصمه: "قتلتهم جميعاً. الأمر لم يستغرق سوى ساعة أو ساعتين. يمكنني القول إن السجن كله الآن أشبه بمقبرة مهجورة."
موريس تجمد لثوانٍ، يحاول استيعاب حجم الفوضى التي جلبها بانغ معه. ثم استدار نحو طاولة خشبية عليها بعض الأوراق المبعثرة وقال: "حسناً، هذا ليس وقت الحديث عن ذلك. دعنا نركز على..."
قاطعه بانغ بحدة، صوتُهُ كالسيف يقطع الحديث دون سابق إنذار: "لا، اسمعني جيداً أيها الأحمق."
اقترب بانغ من موريس بخطوات بطيئة، عيناه تثقبانه بثبات، كأنهما تحذرانه من أي محاولة للمراوغة. "العالم كله الآن يبحث عني. وجهي على كل شاشة، مطلوبٌ للعدالة. ولكن..." توقف قليلاً، يبتسم بسخرية، "المبلغ الذي وضعوه على رأسي؟ نصف مليار فقط؟ هذا احتقار لي. كنت أتوقع رقماً أكثر فخامة."
موريس حاول التحدث، لكن بانغ رفع يده، مقاطعاً إياه مرة أخرى: "اسمع، لا يهمني الآن هذا المبلغ السخيف. المهم أنك أنت من طلب مني القيام بما فعلت، والآن، عليك إخراجي من هذه الورطة. لقد أوفيتُ بوعدي، والآن جاء دورك."
تجمدت الغرفة للحظات، وكأن الزمن توقف. المطر خارج المنزل كان يزداد عنفاً، وصوت الرياح أصبح أشبه بصراخ يحاول اقتحام المكان. موريس أخيراً تحدث، لكن صوته كان هادئاً بطريقة مخيفة: "لنتجاوز أمورك الشخصية الآن. هناك أشياء أكبر تحتاج لاهتمامك."
عيناه التقت بعيني بانغ، كأن هناك صراعًا صامتًا يدور بينهما، صراع مليء بالأسرار والخطط التي لم تظهر بعد. "أريدك أن تستمع إليّ جيداً. ما سنناقشه الآن قد يغير كل شيء."
في تلك اللحظة، أدرك
بانغ أن الأمور لم تكن كما تبدو.