وسط مدينة تونس، ينبض الشارع بفوضى عارمة لا تكاد تهدأ. السيارات تتحرك كأنها أمواج عاتية في بحر مزدحم، وأبواقها تكسر حاجز الهدوء، تشكل سيمفونية غير متجانسة من الصخب والتوتر. القطار يمر بجواره بصوت معدني يزلزل الأرض، بينما الناس تملأ الأرصفة في عجالة، وجوههم تنطق بالإرهاق والتعب من يوم لم ينتهِ بعد. هذه المدينة، عاصمة شمال إفريقيا، كما يطلق عليها، تبدو وكأنها تغلي من الداخل، مكتظة إلى حد الاختناق، حيث يبدو الهواء نفسه مشبعًا برائحة الوقود والعرق.
آكاي، الرجل الذي يحمل بين طيات ملامحه غموضًا مهيبًا، يفتح باب سيارته السوداء اللامعة. وجهه صارم، بشرته الفاتحة تعكس نور النيون من اللوحات الإعلانية، وعيناه الداكنتان تومضان ببريق بارد أشبه بوميض شفرة حادة في الظلام. شعره الأبيض ينسدل بشكل فوضوي مرتب، كأنه يعكس توازنًا هشًا بين النظام والفوضى.
بهدوء ميكانيكي، يدخل السيارة، يشغل المحرك، ويتحرك وسط الاكتظاظ. يده على المقود، بينما الأخرى تتناول هاتفه. أصابعه النحيلة والصلبة تضغط الأرقام بخفة، وكأنه يعزف على آلة قديمة يعرف كل أسرارها.
الهاتف يرن مرة... مرتين... حتى يُسمع صوت خشن عميق يجيب على الطرف الآخر.
"آكاي، أخيرًا! كيف حالك؟"
كان الصوت يعود إلى موريس، الرجل الذي يشبه الذئب بحدسه الحاد وقدرته على المراوغة.
ردّ آكاي بصوت منخفض وثقيل، كأن كل كلمة تخرج منه تحمل وزنًا خاصًا:
"موريس، أرجو أنك بخير. الوقت ينفد، وأريد التحدث عن مهمتنا القادمة."
كان هناك صمت صغير على الطرف الآخر، كأنه يزن الكلمات.
"بالطبع،" قال موريس، بنبرة هادئة مشوبة بشيء من الحذر، "أنت تعلم أننا جاهزون دائمًا. ننتظر فقط أن تمدنا بالمعلومات عن تلك العائلة."
شُدّت قبضة آكاي على المقود، وانعكست أنوار الشارع على وجهه بطريقة جعلت ملامحه تبدو وكأنها نُحتت من الصخر. قال بنبرة لا تخلو من الجدية:
"استعد، موريس. سأتصل بك قريبًا. لا مكان للخطأ هذه المرة."
أغلق الهاتف، لكن يده لم تفلت الجهاز بعد. ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة، خالية من الدفء، لكنها مشحونة بشيء أشبه بالارتياح المؤقت. بدا وكأنه يزن خياراته في عقله، ثم عاد وضغط زر الاتصال مرة أخرى.
"تشاي..." نطق الاسم بتلك النبرة الاستفزازية التي تجعل سامعها يشتعل غضبًا.
على الطرف الآخر، جاء الرد بارداً كأن الجليد قد تسرب إلى أسلاك الهاتف:
"آكاي. من الأفضل لك أن تختار كلماتك بحكمة."
ضحك آكاي بخفوت، ضحكة مشوبة بالسخرية، كأنها استُخرجت من قاع نفسه المظلم.
"كلمات حكيمة؟ ربما. لكنني أحتاج إلى شيء آخر. أين الجرذان؟ أخبرني بمكان عائلتك."
توقفت أنفاس تشاي لثوانٍ. في داخله، كانت أفكار متشابكة تتصارع كجيش من الظلال. "لماذا أستمع إلى هذا الأحمق؟ هل لأنه... بسببها؟" فكر، ثم ابتلع غصة خفية، محاولاً تهدئة نفسه.
"الجرذان؟" ردّ بسخرية، محاولاً أن يخفي اضطرابه. "يوم الإثنين. اتصل بي مساءً، وسأعطيك كل ما تحتاجه."
آكاي لم يرد. فقط أغلق الخط، وترك الصمت يملأ السيارة.
أما تشاي، فقد انحنى على مكتبه، عينيه تركزان على مجلة تحمل صورة لرجل يُعرف باسم آكاي إيتو، مدير منظمة إفريقية معروفة. الملامح المرسومة على غلاف المجلة بدت مألوفة، لكنها كانت خالية من روح ذلك الرجل الذي يعرفه تشاي.
قال لنفسه بنبرة خافتة:
"لماذا أطارد هذا الشبح؟ هل من أجلها؟ أم من أجل أن أستعيد شيئًا مفقودًا بداخلي؟ ربما... ربما أنقذها لأني أريد أن أشعر بشيء آخر. لكن، أنقذ بشريًا؟ هذا... مضحك."
تحولت عيناه من الصورة إلى نافذة الغرفة. المدينة تمتد أمامه كلوحة فوضوية من الأضواء والظلال. لكنه لم يكن يرى سوى ظلام أعمق، ظلام ينبع من داخله، حيث الصراع الحقيقي يحدث.
__________
أمام بوابة المدرسة القديمة، حيث تصطف أشجار السرو على الجانبين، محملة برياح خفيفة تعبث بالأوراق الجافة على الأرض، كانت شيماء تقف متكئة على سيارتها. ملامحها المتعبة تحمل خطوطًا واضحة من الألم القديم، وعيناها الداكنتان كانتا تائهتين في المدى، وكأنهما تبحثان عن شيء لن يعود أبدًا. ظهر إيميا، ابنها الوحيد، بخطوات بطيئة على الرصيف الحجري. بدا عليه الإنهاك رغم سنه الصغيرة، وشعره المنسدل كان فوضويًا بطريقة تعكس اضطرابه الداخلي.
شيماء، بابتسامة باهتة حاولت أن تخفي خلفها حزنًا ينهش قلبها:
"إيميا، كيف كان يومك؟ ماذا درست اليوم؟ هل تناولت طعامك؟"
توقف إيميا فجأة، وأدار وجهه نحوها. كانت عيناه، التي تحملان بريقًا من الطفولة، تشتعلان بالغضب والخذلان. وقف للحظة، ثم قال بصوت مشوب بالمرارة:
"أماه... توقفي. توقفي عن التظاهر بأنك بخير. كل كلمة تنطقين بها تشعرني بأنك تكذبين، وأنا... لا أستطيع تحمل ذلك بعد الآن."
كانت كلماته كالسكاكين التي غرست في قلبها. حاولت شيماء الاقتراب منه، ولكن خطواتها بدت ثقيلة وكأنها تحمل جبالًا فوق كتفيها. مدت يدها المرتجفة، وقالت بصوت متهدج:
"بني، أنت صغير لتفهم كل شيء. ما فعلته كان لحمايتك."
قاطعها بصوت أكثر حدة، مشحون بغضب مختلط بالحزن:
"لحمايتي؟ هل تعتقدين أنني لم ألحظ ذلك الفراغ؟ لقد كنت أنتظر، كل يوم كنت أنتظر عند باب المنزل، تنتابني أحلام بأن يعود أبي ليحتضنني. ولكن الحقيقة؟ أبي... مات. قتل. وأنتِ... أخفيتِ ذلك عني!"
تسمرت شيماء في مكانها، ولم تجد كلمات لتهدئته. بدا إيميا وكأنه يبحث عن متنفس لغضبه، لكنه استدار فجأة وركض بعيدًا، تاركًا إياها في عاصفة من المشاعر المتناقضة.
وقفت هناك، والريح تعصف بشعرها الكستنائي الطويل. كانت عيناها تمتلئان بالدموع. تمتمت بصوت بالكاد تسمعه الرياح:
"سينتهي كل هذا يا بني... أعدك، سأنتقم لمن أخذ منك عائلتك."
ثم غرقت في ذكرياتها.
---
قبل خمس سنوات...
كانت شيماء جالسة في غرفة المعيشة ذات الإضاءة الخافتة. صوت المطر يتسلل عبر النافذة، ودفء المدفأة يلف المكان. الهاتف المحمول على الطاولة اهتز فجأة. رفعته بسرعة، وعندما ظهرت صورة ماركس على الشاشة، تسارعت دقات قلبها.
"ماركس!" قالت، وصوتها يحمل مزيجًا من اللهفة والخوف.
"شيماء... عزيزتي، أنا بخير. لكن... لم أعد أستطيع الاستمرار بهذا الكتمان."
"ماذا تعني؟ ماركس، أنت تخيفني."
صوته كان هادئًا لكنه محمل بثقل لا يمكن تجاهله:
"سآتي إليكِ. سأغادر إنجلترا اليوم. أنا في طريقي إلى المطار الآن."
غطى صوت الفرح العالي كلماتها عندما قالت:
"ماركس، لا أصدق! لقد اشتقت إليك بجنون. أحبك!"
ابتسم ماركس على الطرف الآخر، لكن صوته تحول إلى شيء أشبه بالتحذير:
"وأنا أعشقك. ولكن اسمعيني... إذا حدث شيء لي، أريدك أن تعرفي أنني أحببتك أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم."
"ماركس، توقف! لا تقل هذا الكلام. أرجوك، لا شيء سيحدث!"
ولكن قبل أن تتمكن من الرد أكثر، سمعت صوتًا غريبًا في الخلفية، ثم انقطع الاتصال.
---
العودة إلى الحاضر...
وقفت شيماء، ودموعها تنهمر على وجهها بلا توقف. تذكرت تلك الليلة التي وصلتها الأخبار. جثث متكدسة في مشهد أشبه بالكابوس، والدم يغطي الأرضية كما لو كانت ساحة لمعركة من زمن آخر.
حين وصلت، كان رأس ماركس مفصولًا عن جسده، موضوعة بعناية أمام بقية الجثث. كانت عيناه المفتوحتان تطلان على شيء غير مرئي، وكأنهما تحملان سرًا لم يُكشف بعد.
شيماء، بصوت متحشرج وكلمات بالكاد تخرج من فمها:
"ماركس... لقد وعدتني. وعدتني أنك ستعود!"
---
الحاضر مجددًا...
عادت إلى الواقع، وقبضت على معطفها بيد مرتجفة. كان جسدها يرتجف، ولكن في عينيها لمع بريق جديد.
"لن أدعهم يفلتون بفعلتهم. سيعلمون أن من يتلاعب بالعائلة، يدفع الثمن غاليًا."
كانت الرياح تزداد قوة، وكأنها تستجيب لغضبها المكتوم.