في قلب الظلام الهادئ الذي خيم على المكان، لم يكن صوت سوى صدى أنفاس راغنا البطيئة، كأنها نذير قدوم عاصفة. وقف أمام الباب المغلق، يداه القويتان ممدودتان نحو زر صغير بجانب الإطار المعدني، ضغطه بحركة حاسمة، لينفجر المكان بضوء أبيض بارد يغمر الغرفة فجأة. انطلقت الحواسيب واحدًا تلو الآخر، شاشاتها تتوهج كأعين يقظة في الظلام، ترسم ظلالًا مرتعشة على الجدران المعدنية الباهتة.

مين، التي بدت وكأنها استيقظت للتو من سبات عميق، نظرت حولها باندهاش مختلط بحذر: "متى وُضعت هذه الحواسيب هنا؟" تساءلت بصوت أشبه بهمس يحمل قلقًا مكتومًا. كانت عيناها، الداكنتان كليل لا نجوم فيه، تراقبان المكان بشك، وكأن كل شيء حولها يحمل سرًا مظلمًا لا يُفصح عنه بسهولة.

ابتسمت بلاك داون، تلك الابتسامة التي كانت نصفها سخرية ونصفها الآخر يقينًا مظلمًا، وقالت بصوت هادئ لكنه مشحون بالثقل: "نصف مجموعة القبعة السوداء كانت هنا قبل ثلاثة أيام. لقد أعدوا كل شيء... الكاميرات موزعة في كل زاوية من هذا المكان. إنهم يعرفون كل حركة تحدث داخل أقسام المستشفى. الهدف واضح مراقبة المختبرين، وضمان ألا يغيب شيء عن أنظارنا

راغنا، الذي كان يقف بثبات أشبه بجبل عتيق، أدار وجهه نحو مين. ملامحه صارمة، عينيه تحملان وميضًا قاتمًا يوحي بأنه شخص لا يعرف سوى الحسم. قال بصوت منخفض لكنه مشبع بقوة لا تقبل التردد: "سيدة مين، أظن أن الوقت قد حان. علينا أن نبدأ."

لم تلتفت مين نحوه مباشرة. بدلاً من ذلك، ظلت تنظر إلى الحواسيب، وكأنها تحاول فك شفرة غير مرئية. ثم التفتت ببطء، عيناها الآن مشتعلة بحزم غريب. قالت بصوت يحمل نغمة قاسية لكنها واثقة: "إنه وقت العمل إذًا. لنؤدي ما جئنا من أجله."

بلاك داون أخرجت خريطة مطوية من جيبها، ومدتها إليها ببطء، وهي تقول بنبرة أشبه بالتحدي: "ستحتاجين هذه. المكان معقد، وكل زاوية تحمل فخًا محتملًا."

لكن مين، بابتسامة خفيفة تعلو شفتيها كأنها تسخر من بساطة ما قالته، ردت ببرود ممزوج بالكبرياء: "لا حاجة لي بها. لقد حفرت كل شبر من هذا المكان في ذاكرتي. لا تنسَي يا بلاك، هذا عملي. إن كان هناك أحد يعرف هذا المستشفى، فهو أنا."

---

تقدمت مين بخطوات بطيئة نحو منتصف الغرفة، كل حركة منها كانت أشبه برقصة دقيقة، وكأنها تسير على حافة هاوية. أخرجت سكينًا صغيرة من جيبها، شفرته تلمع تحت الضوء البارد كأنها تبتسم بسخرية دموية. أمسكتها بحزم ثم جرحت راحة يدها قست عروقها ، بحركة بطيئة ومدروسة. الدم بدأ يتساقط كقطرات حياة مسلوبة، تاركًا أثرًا عميقًا على الأرضية المعدنية.

بالدم، بدأت تكتب كلمات غريبة على الأرض، خطوطًا عشوائية بدت كأنها رموز غامضة، لكنها بالنسبة لها كانت رسالة إلى عالم آخر. كتبت: "الوقت كان للفوضى"، ثم أغلقت عينيها. صوتها الذي خرج أشبه بهمس من قلب الظلام، نطق كلمة واحدة: "غوغاء."

---

فجأة، وكأن الأرض استجابت لاستدعاء شيطاني، بدأت تهتز بعنف. الجدران، التي كانت ثابتة كأنها جزء من الوجود ذاته، بدأت تتمدد وتتحول. الغرف الضيقة انفتحت على مصراعيها، أصبحت أوسع، أعمق، وكأنها تنمو بشكل عضوي. الجدران تحولت إلى أسطح متداخلة، مغطاة بنقوش غريبة وألوان داكنة توحي بالوحشة. كل شيء حولهم أصبح أشبه بمتاهة لا نهاية لها، كأنهم الآن عالقون في كيان حي ينبض بالفوضى.

الأطفال الذين كانوا في أرجاء المكان بدأوا يشعرون بالرعب يتغلغل في عظامهم. وجوههم الصغيرة شاحبة كالأشباح، أعينهم الواسعة تعكس كل ألوان الخوف. أحدهم تراجع إلى الخلف بخطوات متعثرة، قبل أن يسقط على الأرض، جسده الصغير يهتز بشدة من الهلع. الآخرون بدأوا بالصراخ، أصواتهم ممزوجة بصدى الجدران المتحولة، وكأن الفوضى نفسها تستمتع برؤيتهم يغرقون في رعبهم.

وفي اللحظة التي ظنوا فيها أن كل شيء سينهار، توقفت الحركة فجأة. كانت الصمت ثقيلًا، كأن الزمن نفسه توقف ليشهد ما سيحدث بعد ذلك. مين فتحت عينيها، نظرتها الآن مزيج من البرود واليقين. قالت بصوت منخفض لكنه مشحون بالقوة: "المتاهة جاهزة. لنرَ كيف سيتعاملون مع الفوضى الحقيقية."

راغنا وبلاك، اللذان كانا يراقبان بصمت، تبادلا نظرات تحمل في طياتها اعترافًا ضمنيًا. الفوضى التي خلقها دم مين كانت البداية فقط. ما ينتظر الجميع في هذه المتاهة الجديدة كان أكبر من مجرد فوضى؛ كان نوعًا من الجنون المنظم، الذي يلتهم كل شيء في طريقه.

ايرلي: احسنت يا سيدة مين ، الآن حان وقت إيقاظ أطفالي

ثم قال : استدعاء

في اللحظة التي نطق فيها إيرلي كلمته، "استدعاء"، كان كل شيء

من حوله يتوقف. لم يكن مجرد لفظ عابر، بل كان صرخة سُمعَت عبر العوالم، غامضة وقوية، تزلزل الأجواء وتزعزع المساحات التي تمتد من حوله. الكلمة انطلقت كما لو أنها تفجّرت من أعماق الظلام ذاته، بوقع ثقيل يتردد في أذن الزمان والمكان. ثم ردد كلمات غريبة لا يستطيع البشر نطقها أو سماعها جيد

أثناء ذلك، بدأ يديه تمتد في الهواء، وكان تحركهما كأنما يتناثر من بين أصابعه سحر عتيق كان غائبًا عن عالم البشر. حوله، كانت الظلال تتراقص في فراغات المكان، وتتكسر على الجدران التي بدت كأنها تذوب تحت وطأة الغموض. وما لبث أن ظهر تحت قدميه دوامة سوداء، وكأن الأرض نفسها استجابت لإرادته، تتشقق وتفتح أبوابًا لما وراء الحياة.

من داخل تلك الدوامة، بدأت الأيادي تتدفق. كانت أيدٍ عديدة، تخرج واحدة تلو الأخرى، كما لو أن الأرض نفسها كانت تلدها، معلنةً عن طوفان من الكائنات المظلمة. كانت الأيادي تأخذ أشكالًا مختلفة، بعضها مغطى بعلامات قديمة، وبعضها مشوّه وكأنها ليست جزءًا من جسد بشري. تداخلت أصابعها في بعض، وكأنها كائن واحد، متكامل في شره لا يعرف الحدود.

إيرلي جلس فوق الدائرة السوداء، وكأنه جزء من تلك الطاقة المتفجرة التي كانت تتدفق من حوله. لم يكن في تعبيره أي انفعال، فقط نظرة ثابتة عميقة، تقرأ حركة كل يد بعينين مليئتين بالحكمة والظلام. ولكن، تلك اليد الوحيدة التي اجتذبت انتباهه كانت تثير في داخله شعورًا غير مألوف، كما لو أنها تحمل سرًا قديمًا.

"لقد جلبت الأرواح إلى هنا... كلها." همس بصوت لا يُسمع إلا في أعمق الزوايا، وكأن كلماته تطفو على حافة الوجود ذاته. لم يكن في صوته شيء من الضوضاء، بل كان باردًا، مملوءًا بالغموض، كما لو كان يتحدث من داخل فراغ.

النظرة التي ارتسمت على وجهه كانت باردة، تقرأ كل شيء. لم يكن هنالك قلق في عينيه، فقط تركيز عميق على التفاصيل، على الأيدي التي بدأت تمسك بعضها البعض وتتشابك، وكأنها تخطط شيئًا ما أو تبحث عن الخلاص. كانت تلك الأيدِ قادرة على فعل ما لا يمكن للبشر أن يتخيلوه، وقادرة على إحساسه بما لا يستطيع غيره أن يدركه.

لكن الجو حوله كان ثقيلًا، مليئًا بتوتر غير مرئي، وكأن الفضاء ذاته كان ينضغط تحت ضغط هذا الحضور العجيب. كانت الأنفاس تتعثر في صدر الحضور، وكان كل شيء يترقب ما سيحدث بعد، كما لو أن الوقت نفسه قد توقف لينظر إليهم.

بين الممرات الضيقة التي تلتف حول جدران القسم، كان سون يتسلل بخطواته المترددة، صوته يرتطم بالأرض في صمت قاتل. قلبه ينبض بتسارع غريب، ذهنه محاصر بالشكوك التي لا تفارق مخيلته. كل شيء حوله غارق في الظلام، كأنما كانت الأرض نفسها مغطاة بغطاء من الظلال الكثيفة التي تلتهم كل بصيص ضوء. كان يتنفس بصعوبة، رائحته ممتزجة بروائح معقمة، وقد كانت أقدامه تطأ أرضاً مسكونة بالفراغ.

مرت لحظات، ثم تقدم سون ودخل إلى غرفة كانت تبدو كأنها غرفة عمليات قديمة. الأدوات الطبية متناثرة على الأرض بشكل عشوائي، مشرط هنا، وملقط هناك، مما جعل الجو يبدو أكثر قسوة ودموية. "أضن أن هذه كانت غرفة جراحة"، همس لنفسه وكأن الكلمات كانت تخرج من قلبه محملة بالدهشة.

لكن ما لفت انتباهه كان شيئًا آخر؛ صورة ملقاة على الأرض بالقرب من أحد الأجهزة الطبية. كان الرسومات على الصورة تبدو متقنة، تُظهر مجسمات قلب وشرايين، وكأنها تمثل الحياة نفسها، كما لو كانت تهمس له بشيء غامض. رفع سون الصورة، فتجمدت عيناه على التفاصيل الدقيقة التي كانت تحكي قصة آلام وآمال ماضي غريب. "آه، إذاً هذه قاعة عمليات القلب. أنا في قسم..."

لكن فجأة، انقطع صمت المكان بصوت خفيف، ربما كان همسة أو زفير من مكان بعيد، صوت غير واضح تمامًا، لكنه كان موجودًا، يتسلل إلى أذنه بشكل غريب. "لا، لا يوجد شيء، أصبحت أتوهَّم..." تمتم لنفسه، محاولاً طرد الخوف الذي بدأ يزحف إلى قلبه.

ثم، كما لو كان الصوت قد تلبس المكان نفسه، تكلمت الكلمات من كل زاوية، تتنقل بين الجدران، تملأ الفراغات: "صغيري العزيز، هل جئت لتتفقد جدك؟ لكن الوقت قد فات، أمازال لديك أمل في العودة؟"

كانت الكلمات تتسلل من جميع الاتجاهات، في زوايا المكان، تتناثر كما لو كانت تحمل بصمة الرياح نفسها، تهمس في أذنه وتثير الذعر في روحه. سون، الذي كان قد بدأ يشعر وكأن الهواء نفسه أصبح ثقيلًا، جاهد لتحريك قدميه في هذه اللحظة التي بدت وكأن الزمن قد توقف. لم يكن يعلم من أين تأتي تلك الكلمات، ولكن كانت تهز قلبه بكل قوتها.

وقف سون، وجهه مشدودًا، عينيه تتسعان كما لو كان يبحث عن شيء مستحيل في ذلك الظلام. أصابع يديه تجمدت على الحبل الذي كان يخبئه في جيبه، وأخذ وضعية القتال دون أن يرفع بصره عن الفراغ الذي يحيط به. كان متأهبًا، مستعدًا، وكأن كل ما في جسده يتحول إلى آداة واحدة من أجل المواجهة. "من هنا؟ هيا، أظهر نفسك"، صرخ في الظلام، لكن صوته كان يبدو هزيلًا أمام تلك الكلمات التي كانت تتناثر حوله كأصداء مرعبة.

ومع كل ثانية تمر، كان يشعر بشيء غير مادي يقترب منه، شيء ليس من هذا العالم. كان الهواء نفسه يثقل. الهالة التي تحيط به كانت مظلمة، مشوبة بالحذر. عينيه، كانتا غارقتين في الظلال، تتنقلان في المكان وكأنهما تبحثان عن شيء غير مرئي، شيء يفوق العقل البشري.

داخل قلبه كان صراع مستمر، بين قوته الداخلية التي استمدها من الإرادة والعائلة التي خلفته، وبين القوى الغامضة التي قد لا تكون بشرية. في تلك اللحظات، كان يشعر وكأن التاريخ نفسه، بأعبائه الثقيلة، يعصف به. عائلته، تاريخه، كل شيء كان يتقلب في ذهنه. هل هم مجرد بقايا ذكريات محطمة؟ أم أنهم إرث يجب عليه أن يواجهه حتى ولو كان الثمن حياته؟

وعندما اجتاز عينيه الظلام، شعر بشيء غير طبيعي يحاصره. كان ذلك الصوت يقترب منه أكثر، وكل حركة في المكان أصبحت وكأنها تتنفس من خلاله.

2025/01/22 · 11 مشاهدة · 1531 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025