39 - أفخم فصل : الإجتماع النادر

في صباح يوم الاثنين، بدت العاصمة باريس وكأنها تفيق من سبات عميق، لكنها لا تهدأ أبدًا. شمس شتوية خجولة تتسلل عبر الغيوم الرمادية الثقيلة، تلقي أشعتها الباردة على المدينة المكتظة بحركتها وضوضائها. السيارات تملأ الطرق بصخب محركاتها، وصراخ الباعة يختلط مع خطوات الناس المستعجلة. كل شيء يبدو كأنه يسير بوتيرة جنونية، لكن على زاوية هادئة، في حي راقٍ تسكنه القصور الفاخرة، يعلو بيت كبير بجماله المتفرد. جدرانه العتيقة تحكي قصصًا من قرون ماضية، وأشجاره العالية تخفي أسرارًا ترفض الانكشاف.

في الداخل، خلف النوافذ الزجاجية ذات النقوش البارزة، تقف إيفا أودجين، العجوز الأسطورية. طولها لا يتجاوز كتف طفل صغير، لكنها تبدو وكأنها تحكم العالم بأسره. شعرها أبيض ناصع، مجدول بإتقان كأن كل خصلة فيه تعبر عن تاريخ طويل. وجهها لوحة حية من التجاعيد العميقة، خطوطها تحكي قصصًا من الألم، القوة، والخيانة. فوق وجنتيها رموز سحرية منقوشة بحبر لا يمحى، كأنها توقيع القدر نفسه. تمسك بيدها عصا خشبية عتيقة، يبدو أن تاريخها لا يقل قدماً عن تاريخ مالكتها.

إيفا، رأس عائلة أودجين، أو كما يحب البعض تسميتها بـ"ظل الموت"، تجلس على كرسي خشبي ثقيل يزدان بنقوش سوداء معقدة. على طاولة أمامها، تنتشر أوراق مهترئة مكتوب عليها بلغة غريبة، رموز وأرقام تتداخل كأنها ترسم تعويذة تحاول إعادة تشكيل العالم. كانت تمسك بورقة، تكتب بخطٍ دقيق لكنها مضطربة:

"مئة جثة رجال... وخمسمائة جثة نساء..."

ثم توقفت للحظة، وضعت القلم جانباً ونظرت إلى الكلمات بعينيها الرماديتين اللتين يشبه بريقهما سيفاً قديماً تم إخراجه من غمده. بصوت منخفض، أشبه بهمسة، قالت:

"ليس كافيًا. هذه الأرواح لن تكفي لإكمال ما بدأناه."

صدى كلماتها اخترق الغرفة كأنه نذير شؤم.

الجو في الغرفة كان ثقيلاً، الهواء مشبع برائحة الشمع المحترق والبخور الداكن الذي ينبعث من زوايا المكان. الأضواء خافتة، تتراقص ظلالها على الجدران المزينة بلوحات قديمة لشخصيات مجهولة الملامح. شعور غريب يجتاح المكان، كأن الغرفة نفسها تراقب ما يحدث فيها.

دوى صوت خطوات مسرعة، يكسر الصمت المشوب بالخوف. شاب في مقتبل الثلاثين من عمره يقتحم المكان، عرقه يتصبب على جبينه، وملابسه تبدو وكأنها عانت من رحلة طويلة. كان يلهث بشدة، كأن كل خطوة قد أثقلت عليه. وجهه شاحب، عيناه مفتوحتان على اتساعهما بخليط من الرعب والإثارة. عندما وقف أمام إيفا، حنى رأسه قليلاً، كأنه أمام إلهة. بصوت مرتجف قال:

"سيدتي... لقد وصلوا."

إيفا لم ترفع رأسها فورًا. أخذت لحظة صامتة، كأنها تتذوق الكلمات قبل أن ترد. ثم نظرت إليه، نظرة جعلت قلبه يكاد يتوقف. عيناها كانتا أشبه بمرآة تعكس كل ما يخشاه. ابتسمت، ابتسامة كانت خليطًا من الحنان والتهديد. بصوت هادئ لكنه مشحون، قالت:

"خمسة أعوام من الشتات، والآن... يعودون. كم هو غريب أن الدم لا يتفرق مهما حاولت السنين أن تفعل به. هل تعلم، يا بني، أن اجتماع عائلة أودجين نادر للغاية؟ مثل اكتمال القمر الدموي. كل مرة يحدث، يُعيد التاريخ كتابة نفسه، لكن هذه المرة... ستكون الحروف مكتوبة بالدماء."

وقفت، خطواتها بطيئة لكن كل خطوة تبدو وكأنها تحمل وزن قرن من الزمن. عصاها تضرب الأرض بلطف، تصدر صوتًا خافتًا لكنه يتردد في أرجاء المكان كدقات قلب غامضة. توجهت نحو غرفة الجلوس، حيث كان الخدم قد أعدوا المكان لاستقبال الضيوف.

الغرفة كانت مختلفة. أضواء الشموع الخافتة ألقت بظلال طويلة على الجدران، واللون البني الداكن للأثاث زاد من ثقل الجو. الستائر المخملية المغلقة حجبت ضوء النهار، وكأن المكان ينتمي إلى عالم آخر. رائحة عتيقة، مزيج من خشب قديم وأوراق متحللة، تملأ الجو.

عندما دخلت الغرفة، جلست على أريكة عريضة، ظهرها مستقيم كأنها ملكة تتربع على عرشها. المساعد، الذي ما زالت ملامح الرهبة واضحة على وجهه، فتح الباب. وبرغم أن الغرفة كانت مظلمة، إلا أن القادمون ظهروا كأنهم يجلبون معهم ظلالهم الخاصة. كانوا هناك.

.. أفراد عائلة أودجين.

الغرفة كانت تتألق برهبة غير عادية، مزيج من الهدوء القاتل والتوتر المشحون. مع دخول كل فرد من أفراد عائلة أودجين، بدا أن الهواء نفسه يزداد ثقلًا، كأن الأرواح التي سُلبت على أيديهم لا تزال تلاحقهم، وتجعل وجودهم يخلق هالة من الظلام تُخيم على كل شيء.

بيوم أودجين كان أول من اقتحم المشهد، رجل في منتصف العمر، لكنه بدا كأن سنواته تخطت المئة. عيناه الواسعتان المليئتان بالجنون تتحركان بسرعة كأنه يرى أشياء لا وجود لها. كان يرتدي معطفًا طويلًا . أصوات خطواته كانت سريعة وغير منتظمة، وكأنه يعكس شخصيته المضطربة. رفع رأسه للحظة، ابتسم ابتسامة عريضة، وقال بنبرة متهورة:

"أوووه، هذا المكان يبعث على الحنين... أو ربما الجنون! من يعلم؟"

وراءه، ظهر جي أودجين، على النقيض تمامًا. خطواته بطيئة، محسوبة، كأنه يحسب المسافة بينه وبين الجميع بدقة. كان رجلًا طويل القامة، ، يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وعيناه تبدوان كأنهما تخترقان كل من ينظر إليهما. عندما وصل إلى منتصف الغرفة، ألقى نظرة خاطفة على إيفا، ثم قال ببرود:

"مرحبًا... يبدو أن الأمور لم تتغير هنا. الفوضى لا تزال تحكم."

قبل أن ينتهي من كلماته، جاء صراخ مدوٍّ من الخلف:

"أيها الأحمق، ابعد نفسك عن طريقي!"

الصوت كان لأنثى شابة، ميشا أودجين، التي دخلت الغرفة كإعصار. كانت صغيرة الحجم مقارنة بالبقية، لكن نظراتها الحادة وأسلوبها الصاخب جعلاها تبدو أكبر مما هي عليه. ارتدت معطفًا جلديًا قصيرًا، وشعرها الأسود الطويل يتراقص مع كل حركة تقوم بها. وقفت أمام جي، نظرت إليه بازدراء وقالت:

"حقًا؟ عليك أن تكون أكثر احترامًا، حتى وأنت تتظاهر بالبرود!"

لكن قبل أن ترد، تسلل إلى الغرفة شخص آخر بخفة ظاهرة. كوانغ أودجين، الذي بدا وكأنه ظل أكثر من كونه شخصًا. ابتسامته الماكرة لم تفارق وجهه، وقال بلهجة مرحة وهو يمر بين ميشا وجي:

"أوه، الجميع هنا؟ هذا مشهد نادر. بالمناسبة، ميشا... هل زاد وزنك؟"

قبل أن يتم كلماته، قُطع بصوتٍ جهوري جاء من الخلف:

"كوانغ، أنت مزعج كما كنت دائمًا، وأنا أكرهك."

إجي أودجين دخل الغرفة، وضخامته كانت كافية لفرض الصمت. كان يرتدي قميصًا أسود بلا أكمام، يكشف عن عضلاته البارزة التي تبدو كأنها قد صُممت للنحت. أذناه مزينتان بأقراط ثقيلة تلمع في ضوء الشموع. وقوفه كان كافيًا لجعل الجميع يتراجعون خطوة إلى الخلف، لكنه لم يكترث، فقط ألقى نظرة عابرة على الجميع قبل أن يقف بجانب الحائط

، وكأن حضوره يكفي.

في لحظة ساد فيها الصمت التام، كأن الزمن توقف، التفتت أنظار الجميع إلى الباب. بدا وكأن الهواء نفسه في الغرفة قد تجمد، وكل شيء كان يترقب بقلق متوتر. الباب بدأ يفتح ببطء، صريره الخافت كان أشبه بصوت مقطوعة موسيقية تُعلن عن قدوم أسطورة.

ظهرت إنزوي أودجين، أو كما تُعرف بـ"وحش أودجين الفتّاك". دخولها كان أشبه بدخول ملكة لا تحتاج إلى عرش لتثبت سيطرتها. ضخامة قامتها، التي تجاوزت المترين، جعلت وجودها طاغيًا على المكان. لكن ضخامتها لم تكن مجردة من الأناقة، بل كانت مزيجًا متقنًا من القوة والجمال. كأنها منحوتة بيد فنان أراد أن يجمع بين الرهبة والفخامة في كيان واحد.

خطواتها كانت ثقيلة، لكنها محسوبة بدقة. مشيتها بطيئة لكنها مشبعة بالثقة، كأن كل خطوة تُعلن عن سيادتها على العالم من حولها. كانت تسير قدمًا أمام قدم، بخطى ثابتة تُحدث صوتًا خافتًا لكنه ينبعث كإيقاع منظم، يُثبّت القلوب ويُربك الأنفاس( مشيتها فخمة ليس كما تتخيلون بل أفخم بألاف الأضعاف). هيبتها طغت على المكان، حتى أن الضوء الخافت في الغرفة بدا وكأنه يُسلّط نفسه عليها عمدًا، ليُبرز حضورها المهيب.

كانت ترتدي ثوبًا أسود طويلًا يلتف حول جسدها بإحكام، مُزينًا بخطوط فضية خافتة تبرز كل تفصيلة في بنيتها القوية. على وجهها، كانت تُغطي شفتيها بضمادة شفافة، وكأنها تقول دون كلمات: "صوتي لا يهم، فأفعالي هي ما تتحدث." عيناها كانتا عميقتين كأنهما بوابتان إلى عالم آخر، نظراتها حادة وثاقبة، تحمل في داخلها مزيجًا من الهدوء والغضب المكبوت.

الجميع وقفوا في أماكنهم، عاجزين عن الحركة، كأنهم تحولوا إلى تماثيل من الرخام أمام حضورها الطاغي. كانت إنزوي أكثر من مجرد شخص؛ كانت رمزًا، تجسيدًا للهالة التي أحاطت بعائلة أودجين لعقود. تلك الهالة التي جمعت بين الرعب والفخامة، بين القوة الغاشمة والجمال القاتل.

عندما وقفت في منتصف الغرفة، صمت كل شيء. حتى الأنفاس أصبحت خافتة، وكأن الغرفة نفسها كانت تنحني لإرادتها. نظرت حولها ببطء، تُلقي بنظراتها كأنها سيوف تخترق أعماق من حولها. ولم يكن هناك حاجة للكلمات؛ حضورها وحده كان كافيًا ليملأ المكان بالفخامة والرعب معًا.

يدخل تشاي أودجين، يقف بثبات وهدوء كأن الأرض تحت قدميه تتحرك بأمره. عيونه العميقة لا تفصح عن شيء، لكن يكفيك النظر إليه لتشعر وكأنه يُخفي عاصفة بداخلها. معطفه الأسود الطويل يتحرك بخفة، ويضفي على حضوره هالة من الرهبة والغموض.

لكن مهلاً... خلفه يظهر تاي أودجين، وهنا يبدأ اللغز.

نعم، أيها القارئ، تاي نفسه، المعلم المحترم في المنظمة التي من المفترض أنها خصم لعائلة أودجين. كيف يمكن أن يكون واحدًا منهم؟ كيف اختبأ وسط أعدائهم دون أن يلاحظ أحد؟ الصدمة تُغمر المشهد،

تاي كان مختلفًا تمامًا عن البقية. بخطواته الهادئة ونظرته الحادة، بدا وكأنه يزن الغرفة بأكملها بنظراته. ملامحه واثقة، لكنه يحمل في أعماقه صراعًا غير معلن. كان هذا الرجل لغزًا يمشي على قدمين. كيف أمكن له أن يكون جزءًا من منظمة تسعى لتدمير عائلته، وفي نفس الوقت ينتمي لدمهم؟

وعندما أُغلق الباب ببطء، كان التركيز كله عليه، ذلك المشهد البسيط، لكنه مشبع بالرهبة. صوت الإغلاق كان بطيئًا ومتعمدًا، كأن الغرفة نفسها تبتلع أسرارًا جديدة لا يمكن لأحد خارجها أن يفهمها.

الآن، أيها القارئ، تخيل نفسك في هذا الموقف. لقد عرفت تاي كمعلم محترم في المنظمة، شخص يرمز للعدالة وربما النقاء. لكن فجأة، تكتشف أنه ينتمي إلى العائلة التي كنت تعتقد أنها عدوته. هل تشعر بالصدمة؟ بالطبع تشعر بها.

لكن تذكر، هذه ليست سوى البداية. الأسئلة التي تدور الآن في ذهنك هي نفس الأسئلة التي ستطارد شخصيات الرواية. كيف سيندمج تاي في هذا الاجتماع؟ ما دوره الحقيقي؟ وهل وجوده هنا خيانة أم فرصة لعائلة أودجين؟

استعد، لأن الإجابات لن تأتي بسهولة، والصدمات لن تتوقف هنا. هذا الفصل ليس إلا بداية لعاصفة ستُقلب فيها كل توقعاتك رأسًا على عقب.

ملاحظة : صور الشخصيات موجودة

مارأيكم في الفصل المقدس ( فخم)

2025/01/24 · 15 مشاهدة · 1507 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025