إيفا جلست وسط قاعة مظلمة، يتوسطها طاولة خشبية طويلة تآكلت أطرافها بفعل الزمن، تحمل فوقها شمعدانات قديمة تلقي ظلالاً متراقصة على جدرانٍ كأنها تحكي قصة هذا المكان الذي كان يوماً مسرحاً للأسرار والدماء. الهواء كان ثقيلاً برائحة الرطوبة والشموع الذائبة، بينما ارتفعت هالات الطاقة في الغرفة، تزداد ثقلاً مع دخول كل فرد من العائلة.
إيفا، بملامحها العجوزة التي أخفت تحت التجاعيد قوة غير ملموسة، نظرت بعينيها اللتين كانتا تشبهان عيون الموتى الأحياء، لكنهما ما زالتا تملكان بريقاً مريباً. تحدثت بصوت هادئ لكنه يحمل قوة كالسيف:
"مرحباً بكم يا أولادي... لم أتوقع أن أرى وجوهكم كلها مجتمعة هنا، وفي الموعد المحدد. لقد تغيرتم، أقوى مما كنت أتخيل. أشعر بذبذبات طاقاتكم تتغلغل في المكان. نعم، لقد أحسنتم... يبدو أنني نجحت في بناء سلالة لا تُكسر ولا تموت من القتلة . لكنني... لم أعد كما كنت. لقد ضعفت، وكبرت، وربما آن الأوان لأتنحى عن الوقوف إلى جانبكم."
كوانغ، الجالس في الزاوية بعينين حادتين تحملان نظرة احتقار، قاطعها بنبرة مشبعة بالسخرية:
"، هذا التجمع ليس من أجلك. واضح أن الموضوع خطير. لماذا نحن هنا، ولماذا الآن؟ ولماذا عليّ أن أرى هذه الوجوه المشوهة مجدداً؟"
قبل أن يُكمل، أطلق بيوم، الجالس بجانبه وهو يعيد تثبيت قفازه الجلدي، ضحكة قصيرة قائلاً:
"وجوه مشوهة؟ ربما، لكن أياً يكن، لنتحدث عن ما يهم... من الهدف؟ من سنقتل؟ أريد أن أعرف إن كنت سأواجه خصماً يستحق وقتي. لقد اشتقت للإثارة."
تاي، الذي كان واقفاً بجانب الباب، ظهر عليه التوتر قليلاً، لكنه أخفى ذلك بابتسامة باردة. تقدم إلى الطاولة بخطوات محسوبة، ثم قال بصوت هادئ، وكأنه يرسم خطة حرب:
"تم استدعاؤكم بطلبٍ مني ومن إيفا. الموضوع خطير جداً هذه المرة. عقد مجلس بين وزراء الداخلية في أغلب دول أوروبا وأفريقيا، وأصدروا قراراً واحداً: القضاء علينا جميعاً. لم يعودوا يطيقون وجودنا. والأسوأ، أنهم لم يعتمدوا على فرق عادية... لقد تم تكليف فرقة موريس بالعمل على هذه المهمة."
الجو في الغرفة ازداد ثقلاً وكأن الهواء نفسه أصبح ساماً. جي، الذي كان يجلس في زاوية الغرفة متكئاً على كرسيه بطريقة لا مبالية، رفع حاجبه وابتسم ابتسامة جانبية قائلاً:
"فرقة موريس؟ أخيراً شيء مثير يحدث."
تاي رمقه بنظرة صارمة وقال:
"لا تتحمس يا جي. الأمر أكبر من مجرد صدام بسيط. فرقة موريس لا تلعب. خطتهم بسيطة ولكنها مدمرة. سيراقبون كل فرد منا لشهرٍ كامل، يجمعون أدق تفاصيل حياتنا، ثم يستخدمونها ضدنا لإسقاطنا واحداً تلو الآخر."
بيوم ضرب الطاولة بقبضته، محدثاً صوتاً جعل الشموع ترتعش. قال بصوت ساخر لكنه يحمل نبرة جدية:
"خطة جيدة يا تاي. تبدو وكأنها فكرتك. هل علينا أن نشتبه بك أولاً؟"
قبل أن يجيب تاي، قاطعه إي جي الذي استقام فجأة من كرسيه، وبعينين مشتعلة كالجحيم، قال بصوت عميق مليء بالغضب:
"اسمعني يا تاي. إن اقترب أحدهم من ابنتي أو حتى فكر في ذلك، سأمزقك أنت وكل هذه الفرقة إلى أشلاء وأحرق رمادكم. هل تفهمني؟"
الغرفة أصبحت وكأنها بركان على وشك الانفجار. التوتر كان ملموساً، وكان الجميع مستعدين لبدء حرب بينهم. لكن إيفا، التي ظلت هادئة رغم كل شيء، رفعت يدها بصعوبة وقالت:
"اهدأوا! يا لكم من حمقى. المشكلة ليست في فرقة موريس فقط. المشكلة الحقيقية تكمن في قائد المنظمة ، أكاي. ذلك الرجل يعرف الكثير عنا. لقد أخبرهم بأنه سيكشف مواقعنا جميعاً. إنه واثق من ذلك."
تاي، الذي كان يبدو أكثر هدوءاً الآن، قال:
"بالضبط. ولهذا السبب نحن هنا. هناك خائن بيننا."
إي جي، بصوت يشبه صرير الزجاج المكسور، قال:
"إن كنت تبحث عن الخائن، فهو واضح. إنه أنت يا تاي. منذ دخولك للمنظمة، وأنا أعلم أنك تخطط لشيء ما."
تاي، بابتسامة مريرة، رد:
"إن كان هذا رأيك، فأنا أحترمه. لكن دعني أوضح شيئاً واحداً: إن كنت أرغب في قتلكم، لما كان أحدكم على قيد الحياة الآن."
إنزوي، التي كانت جالسة بصمت طوال الوقت، وضعت يدها تحت ذقنها وقالت بهدوء:
"حسناً، إذاً هم يراقبوننا. بسيط. لنبدل أماكننا مؤقتاً، ثم نبدأ في اصطيادهم. الأمر لا يحتاج إلى تعقيد."
إيفا، بنبرة حادة غير متوقعة منها، قالت:
"لا تقلل من شأن البشر، إنزوي. فرقة موريس ليست عادية. لا يمكننا أن نحكم عليهم فقط من خلال كلام الآخرين. نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر حذراً."
توجهت الأنظار إلى تشاي، الذي كان جالساً في الظل، صامتاً كعادته. إنزوي قال له:
"تشاي، لماذا لا تقول شيء
تشاي، الجالس في منتصف القاعة، عينيه نصف مغمضتين كأنه يحاول استيعاب الفوضى القادمة. وجهه الوسيم يحمل مزيجًا من البرود والحدّة، . قال بصوت منخفض، لكنّه اخترق الأجواء كخنجر:
"أعتقد أن فكرتك يا إنزوي ليست سيئة، ولكن... هناك ما يجب التفكير فيه. إن تحركت فرقة موريس، فهذا يعني أن فرقة أوقا لن تقف مكتوفة الأيدي. تحرّكهم سيكون في الخلفية، بعيدًا عن الأضواء. إنهم كالظل، وعندما يتحرك الظل... يبتلع الضوء. وما يزيد الأمر سوءًا أن أكاي يقف في صفوفهم. السيد لا يعلم هذا بالطبع، اضن أن هذه التحركات مخفية بعناية عن المقاعد العليا
تردد الصوت في القاعة كأن الجدران نفسها تهمس بتأكيد كلماته. الجميع كان يدرك خطورة أكاي. لكن إيفا، الجدة العجوز التي كانت تجلس في زاوية الغرفة، لم تبدُ منزعجة. عيناها العميقتان كبحيرتين مظلمتين لمعتا تحت الضوء الباهت، وجهها المحفور بالتجاعيد بدا كخارطة تعاويذ. بصوت بارد يحمل عمقًا مخيفًا، قالت:
"تشاي، سأهتم بهذا. لا تقلق. سأكشف خطط ذلك الأحمق وأجعله يدفع الثمن غاليًا سأعلم جميع المقاعد بالأمر
لكنّ تاي، ، كما لو كان يتحدث مع نفسه:
"أكاي... هو أشبه بنقطة سوداء في وسط اللوحة. وجوده بحد ذاته خلل في التوازن. حاولت جمع معلومات عنه، لكن لا شيء. لا وجه، لا ماضٍ، لا بصمات. فقط فراغ. وهو يريد إسقاطنا جميعًا، واحدًا تلو الآخر. وهذا ما يجعله الأخطر بين أعدائنا."
ارتفعت ضحكة ساخرة من زاوية القاعة. إي جي، ، ملامحه كانت مزيجًا من الغضب والاحتقار، . قال بنبرة حادة:
"أنا لا أكترث لكل هذا الهراء. من يجرؤ على مواجهتي سيُقتل. لن أتحرك وفق أي خطة. هناك خائن بيننا، وسأمزقه بيدي عندما أكتشفه."
انفجر تاي بالضحك، لكن صوته كان مليئًا بالسخرية الباردة. استدار ببطء نحو إي جي، عينيه تلمعان كذئب:
"ثرثرة... مجرد ثرثرة. أنت تتحدث كثيرًا يا إي جي، وهذا يجعلني أشك فيك. الكاذب دائمًا يبرر نفسه ويُلقي اللوم على الآخرين. ربما أنت الخائن الذي تبحث عنه."
تحولت أجواء الغرفة فجأة إلى جحيم من التوتر. قبض إي جي على يديه، عروقه بارزة على ساعديه كأنها حبال متوترة. قال بصوت هادر كالرعد:
"تاي... أنت تستفزني. لننهي هذا هنا والآن. لنرى من الخائن!"
لكن قبل أن يتحرك أي منهما، قاطعتهما كوانغ، . قال ببراءة زائفة، لكن عينيه كانتا تحملان خبثًا خفيًا:
"إيفا... لماذا لا تستخدمين قدرتك؟ أليس الكيريو الخاص بك يستطيع كشف أفكارنا؟ هيا، أخبرينا من الخائن حتى ننتهي من هذه المهزلة."
كان السؤال استفزازيًا، لكن إيفا، ببرودها المعتاد، أجابت بصوت خافت أشبه بهمس الريح:
"قدرتي محدودة. لا أستطيع قراءة الأفكار العميقة للعقل. أنا آسفة."
إنزوي، الجالسة قرب إيفا، انفجرت بالضحك، صوتها كضحكة غراب في ليلة مقمرة. قالت:
"أوه، إيفا... كم أنتِ متواضعة. لا بأس، سنكتشف الخائن بطريقتنا. وربما... نجعله وجبتنا على العشاء."
ساد الصمت للحظة. كان الجو مشحونًا، كأن الهواء نفسه أصبح ثقيلًا. كل نظرة، كل حركة، كانت تحمل معاني خفية. في أعماق هذه القاعة، كانت العائلة تواجه لحظة من الغموض والخيانة، لحظة
قد تودي بأحدهم إلى نهايته.
قبل لحظات ، أثناء حوار إي جي و تاي
كانت عيناها، الغارقتان في عمق غامض أشبه بآبارٍ لا نهاية لها،
تتابع بصمت المشهد أمامها. إي جي وتاي كانا يتبادلان الحديث بصوتٍ خفيض، كل كلمة تبدو كأنها مغموسة في توترٍ خفي، كأن الجو نفسه قد تحوّل إلى كيان حي يراقب ويتنفس ببطء ثقيل.
إيفا، ، أغمضت عينيها لوهلة، وأطلقت نفساً عميقاً أشبه بصرخة مكتومة. همست لنفسها بلغة قديمة، تحررت من بين شفتيها تعاويذ مخفية لا يكاد العقل يدركها. كان ذلك هو كيريو، ن. فجأة، شعرت بطوفان من الصور، مشاهد خاطفة تتداخل كأنها حلم مشوّه. كانت هناك خيوط من الطاقة السوداء تمتد من تشاي، حفيدها المفضل، كالأفاعي الزاحفة، تربط بينه وبين كل شخص في الغرفة.
فتحت عينيها ببطء، وبدت أكثر عمقاً وغموضاً من ذي قبل. شفتاها ارتجفتا وهي تهمس:
"تشاي... ما الذي تخطط له الآن؟"
ولكنها لم تتجرأ على قولها بصوت مسموع. بدلاً من ذلك، تركت الكلمات تتردد في عقلها كجرسٍ خافتٍ متصدع. عرفت أن أي خطوة خاطئة قد تتحول إلى شرارة تشعل فتيل مجزرة وسط باريس. هنا، في قلب المدينة التي تعجّ بالحياة، يمكن لعاصفة أودجين أن تُحول كل شيء إلى خراب لا ينتهي.
إيفا شعرت بارتعاش طفيف يسري في أصابعها. لم يكن ذلك بسبب الخوف، بل بسبب ذلك الإحساس الغريزي بأن شيئاً ما كان يتكسر داخل عائلة أودجين. هل يمكن أن يكون تشاي... الخائن؟ فكرت للحظة. لكن العقل رفض التصديق، رغم أن الأدلة كانت واضحة أمامها كالنار في العتمة.
قررت أن تُبقي صمتها. كلماتها الآن لن تُغير شيئاً، بل قد تدمر كل شيء. عرفت أن قوتها تكمن في الصبر، في الانتظار حتى يتحرك كل شخص كقطعة شطرنج على رقعة معركة الموت هذه.
وفي زاوية أخرى، كان تاي يتحدث بهدوء إلى إي جي. كان صوته أشبه بموسيقى مشروخة، مزيج من الثقة والخوف. لكن تشاي لم يكن يستمع. كان عالماً آخر يحيط به، عالماً حيث الدم هو القانون، والقوة هي الحقيقة الوحيدة.
إيفا، رغم كل معرفتها وخبرتها، شعرت بالعجز. فكرت: هذا ليس مجرد نزاع بيننا. هذا بداية النهاية. إذا انفجر تشاي، فلن يبقى شيء من باريس سوى رماد.