ايفا

‎"تشاي، تعال معي... سأريك شيئًا."

‎تراجع الضغط الذي كان يخنق الغرفة، كأن الهواء نفسه قد تحرّر من قيد غير مرئي. دون كلمة إضافية، تبعها تشاي، خطواته هادئة لكن عقله مشتعل بالتساؤلات. مرت لحظات قبل أن تصل إيفا إلى باب خشبي ضخم، مزخرف بنقوش غريبة كأنها محاولات بائسة لحبس شيء ما خلفه. دفعت الباب بصمت، فكشف عن قاعة ضخمة، موحشة، كانت السواد يغمرها كأنها امتداد مباشر للعدم.

‎بمجرد أن عبر عتبة الباب، انغلق خلفه بصوت أشبه بزفرة موت. لم يبقَ أي ضوء، الظلام كان مطلقًا، كثيفًا كأنه مادة حيّة تلتف حول كل شيء. سمع صوتها يتردد من الأعماق:

‎"انهض."

‎وفجأة، انفجرت القاعة بأنوار ساطعة، لكنّها لم تكن أضواء عادية، بل إشعاعات غريبة تتراقص كأنها كيانات واعية. تعاويذ خفية تمتمت بها إيفا تسببت في تحرّك الفراغ، وكأن القاعة لم تكن سوى ستار يخفي شيئًا آخر تمامًا.

‎عند أطراف القاعة، بدأت رؤوس تظهر ببطء، تخرج من الجدران وكأنها أشباح محاصرة في كابوس أبدي. وجوه شاحبة، متآكلة، تمتمت بكلمات غير مفهومة، لغة بدائية، كلمات كانت تشبه نحيب الموتى أكثر من كونها لغة بشرية.

‎وسط هذا المشهد الجحيمي، سارت إيفا بثبات، توجهت إلى منتصف القاعة، حيث كانت هناك... كتلة من اللحم، كتلة نابضة، مترامية الأطراف، متشابكة كأنها لا تزال تنمو، لم يكن من الممكن تصنيفها كجسد بعد، بل شيء في مرحلة التشكل، قطعة خام من البشاعة المطلقة. الدماء كانت تتدفق منها في تيارات بطيئة، كأنها كائن يتنفس على إيقاع حياة مختلسة.

‎رفعت إيفا إصبعها مشيرة إلى الكتلة، عيناها تلمعان بجنون يشبه وهج النار الأخيرة قبل أن تخمد:

‎"انظر يا تشاي... هذا ما أفعله من أجلك."

‎كان صوتها مشحونًا بشيء لا يمكن تحديده تمامًا، كان هناك حب... لكنه حب مشوّه، حب ملوّث بالعظمة والجنون.

‎"أكثر من ألف جثة أسبوعيًا، كلها تُقدَّم لهذا الشيء... لجدّك بان."

‎ابتسمت ببطء، نظراتها ثابتة على الكتلة كأنها تمثال مقدّس، أو كأنها ترى شيئًا لا يستطيع غيرها رؤيته.

‎"هذه أخطر تعويذة سأقوم بها في حياتي، إعادة الإيقاظ. سأجلبه إلى هذا العالم مرة أخرى، ستقف أمامه وتسأله كل تلك الأسئلة التي تدور في رأسك، ستحرر روحك، ستفهم الحقيقة."

‎سكتت للحظات، ثم تابعت بصوت أشبه بالهسهسة:

‎"لكنني لم أتمكن من إيقاظه بالكامل بعد، يحتاج إلى المزيد... المزيد من الدماء، المزيد من الأجساد. الجسد الأصلي لم يكتمل، لكن قريبا جدًا... سينهض."

‎وقف تشاي هناك، صامتًا، لكن نظرته لم تكن نظرة مصدوم، لم تكن نظرة رجل يواجه الرعب لأول مرة، بل كانت نظرة شخص يرى الحقيقة التي كان يشك بها طوال الوقت. أخذ نفسًا عميقًا، رفع رأسه ببطء، صوته كان هادئًا بشكل خطير:

‎"إذن لهذا السبب أنتم تقتلون أكثر من أربعة آلاف شخص شهريًا."

‎صمت قليلًا، ثم ضاقت عيناه ببطء:

‎"كنت أسمع أنك تجمعين الجثث، لكنني ظننت أنك تتاجرين بالأعضاء. لكن الآن، الآن أفهم..."

‎اقترب ببطء، خطواته ثقيلة لكنها واثقة، كانت عيناه مثبتتين على إيفا كأنهما تحاولان اختراق قشرتها الخارجية والوصول إلى ما بداخلها.

‎"هناك شيء مريب في هذا كله، شيء لا يُطمئنني، لا أصدق أن كل هذا من أجلي."

‎ارتسمت ابتسامة على شفتيه، ابتسامة جافة، بلا دفء، ابتسامة شخص اكتشف خيانة غير متوقعة:

‎"أظن أنك تخططين لشيء آخر، يا إيفا."

‎لم تتغير ملامحها، لكنها أمالت رأسها قليلا، كأنها تجد تسليتها في حديثه. ثم بصوت ناعم، كأنها تهمس بسرّ قاتل، قالت:

‎"أريد أن أصنع آلة... آلة باردة، بلا مشاعر، بلا تردد، قادرة على تفجير العالم إن لزم الأمر."

‎نظرت إليه مباشرة، عيناها كانتا بحرًا من السواد، عميقتين بلا قاع:

‎"بهذه الطريقة فقط، ستُجاب كل أسئلتك."

‎استدارت قليلًا، تنظر إلى الجدران حيث كانت الرؤوس لا تزال تتهامس، كأنها جوقة أشباح تراقب في صمت.

‎"رغم كل شيء، رغم كل الدم الذي سُفك، لا تزال عائلتنا غير مكتملة، لا تزال مهددة بالانقراض."

‎استدارت إليه مجددًا، عيناها تضيئان كوهج فولاذ ساخن:

‎"العالم كله يترصدنا، ينتظر لحظة ضعف، ثغرة صغيرة ليمحونا من الوجود."

‎وقف تشاي هناك، صامتًا للحظات، ثم أدار وجهه نحو الكتلة مجددًا. نظر إليها بتأمل، ثم قال بصوت منخفض، لكنه محمل بالشك والريبة:

‎"لا أظن أن هذه الدمية اللعينة قادرة على تذكر الماضي."

‎ابتسمت إيفا، لكنها لم تقل شيئًا.

‎وفجأة، اهتز جيب تشاي، رن هاتفه بصوت حاد، كأن هذا العالم يريد أن يسحبه منه للحظة. أخرج الهاتف ونظر إلى الشاشة، قبل أن يرفع الجهاز إلى أذنه، قائلاً بنبرة باردة:

‎"ماذا تريد أيها الأحمق؟ لماذا تتصل؟"

‎جاءه الصوت من الطرف الآخر، صوت أكاي، ناعم لكنه محمل بسخرية مريرة:

‎"أهلاً بصديقي العزيز، فقط اتصلت لأذكرك أن آني بدأت تفقد ذاكرتها... من شدة الضرب."

‎مرّت لحظة من الصمت، قبل أن يقول تشاي بصوت منخفض لكنه محمّل بالتهديد:

‎"سأتصل بك عند المساء، وأعطيك كل التفاصيل... لا تضع يدك عليها مجددًا."

‎ثم أغلق الهاتف، وعاد للدخول إلى المنزل، تاركًا خلفه ظلام القاعة يبتلع كل شيء من جديد.

-----------

كان المكان يضجّ بالصمت، لكنه لم يكن ذلك الصمت المريح، بل صمتًا مشحونًا بالتوتر، أشبه بصمت اللحظات الأخيرة قبل وقوع الإعصار. في ذلك الطابق المعزول من المستشفى، كانت الأضواء تخفت وتضيء بشكل متقطع، كأن المكان نفسه يحتضر أو يحاول التنفس بصعوبة. جدران مشروخة، نوافذ تئن تحت وطأة الرياح، وأجهزة طبية متوقفة عن العمل، كأنها تراقب بلا حول ولا قوة ما سيحدث.

‎في قلب كل هذا، وقفت بلاك داون، جسدها مشدود كوتر قوس، ملامحها ثابتة كتمثال نُحت من معدن بارد. كانت أنفاسها منتظمة، لكنها محمّلة بتركيز قاتل، نظرتها محاطة بهالة من القوة السوداء، مثل ظل كثيف يلتف حولها. كان الهواء حولها مشبعًا بطاقة مشؤومة، كأنها تجذب ظلام هذا المكان ليكون جزءًا منها.

‎أما أمامها، فكان هيت... أو ما تبقى منه.

‎كان يقف بلا تعبير، كأن جسده مجرد قشرة خاوية، لكن العينين... العينان كانتا تحكيان قصة مختلفة. كانتا عميقتين، سوداوين كأنهما بوابتان إلى العدم، لكن بداخلهما، شيء آخر... شيء أشبه بنار تحترق ببطء. كان هيت قاتلًا مأجورًا في حياته السابقة، لكن الآن؟ الآن كان مجرد شبح... جسد بلا روح، أو روح بلا جسد، لا أحد يعرف.

‎ارتفعت هالتهما معًا، تضخمت حتى شعرت بها الجدران ذاتها، حتى الهواء أصبح ثقيلًا، كأن الأكسجين نفسه يُسحق تحت وطأة هذه الطاقة. شعر المختبرون في الطوابق السفلى بشيء غريب، بقشعريرة زاحفة امتدت من عمودهم الفقري حتى أطراف أصابعهم، تساءلوا إن كان هذا المبنى سيبقى صامدًا بعد هذه الليلة.

‎ثم... تحركت بلاك داون.

‎لم يكن مجرد هجوم، بل كان انقضاضًا أشبه بطعنة برق خاطف، كانت سرعتها لا توصف، لم تُترك خلفها حتى أثر، فقط فراغ المكان الذي كانت تشغله قبل لحظة.

‎لكن هيت لم يكن هناك.

‎بلمح البصر، ظهر فوقها، كأنه لم يتحرك بل انتقل مباشرة عبر الفراغ. قبل أن تدرك ما حدث، كان قد وجّه ركلة مدمّرة إلى صدرها، قوة الضربة جعلت الدم يتفجّر من فمها قبل أن تطير جسدها عبر الغرفة. اصطدمت بالجدار، فانفجر خلفها إلى شظايا متناثرة، لكن بلاك لم تسقط. بل، وبحركة انسيابية، استخدمت قدمها للارتداد عن الجدار، يداها تتحركان كأنهما امتداد لوعيها، تسحب سحابتها القاتلة، ثم...

‎بدأ الهجوم الحقيقي.

‎كانت الهجمات كثيفة، كل ضربة كانت تحمل وزن جبل، لكنها لم تكن عشوائية، كانت ضربات قاتلة، كل واحدة موجهة لتسلبه حياته إن أخطأ في الدفاع ولو للحظة. لكن هيت لم يكن مجرد خصم، كان يواجهها كأنه يعرف تحركاتها مسبقًا، كل هجوم كان يُقابله بردة فعل أقرب إلى التوقع، كل لكمة كانت تُردّ بأخرى.

‎المعركة لم تكن تحدث على الأرض فقط، بل في الهواء نفسه.

‎الجدران كانت تتكسر، الغبار كان يتناثر، المكان كله كان يتحطم تحت وطأة القتال. في تلك اللحظة، تدخّلت مين. لم تكن مجرد مقاتلة، كانت شيئًا آخر، كانت اليد الخفية التي تغيّر الواقع نفسه.

‎بدأت الأرضية تتبدّل، المسارات تتغيّر، الغرفة نفسها لم تعد كما كانت، أصبحت مكانًا خارج قوانين الفيزياء، الزمن نفسه بدأ يفقد معناه، السرعة أصبحت غير قابلة للقياس، لم يعد هناك مقياس بشري يستطيع استيعاب ما كان يحدث.

‎لم يعد هناك سوى الدم... والركلات... والدمار.

‎كانوا يتحركون بسرعة لا يمكن رؤيتها، فقط ومضات، فقط لحظات خاطفة تظهر فيها أطرافهم للحظة قبل أن تختفي مجددًا. ضربات في الرأس، في البطن، في الصدر، لم يكن هناك مكان في جسد لم يتلقى ضربة، لم يكن هناك لحظة راحة، كان كل شيء يتحطم، المكان كله يتفكك، كأنه غير قادر على استيعاب هذه القوة.

‎ثم... تغير كل شيء.

‎صرخ هيت، لم يكن مجرد صراخ، بل كان انفجارًا للطاقة ذاتها. جسده انتفخ، طاقته تضاعفت، الأرض نفسها لم تحتمل ثقله، انحنت تحته. رفع قدمه وضرب الأرض بقوة، وفي لحظة، تشكّل البرق، لم يكن برقًا عاديًا، بل كان شيئًا أقرب إلى موت متوهج، اتجه مباشرة نحو بلاك بسرعة لم يكن هناك وقت للرد عليها.

‎لكن بلاك لم تكن سهلة.

‎فُتحت السحابة، دفاعها لم يكن مجرد درع، بل كان شبكة، كانت الظلال تتحرك معها، لم تكن وحدها، بل كانت جزءًا من شيء أكبر، شيء يجعلها أكثر من مجرد مقاتلة واحدة.

‎ثم... ظهرت الظلال.

‎كانت تشبهها، نسخًا منها، لكن مشوّهة، محاطة بهالة سوداء، لم تكن مجرد خدع، بل كانت كائنات حيّة، تتحرك كأنها نسخة متكررة من نفس الإرادة القاتلة.

‎لكن هيت لم يكن ليُخدع.

‎وسط كل هذه النسخ، وسط كل هذه الفوضى، استطاع تحديد الأصلية، استطاع أن يرى بلاك الحقيقية. في لحظة خاطفة، أمسكها من قدميها، ثم...

‎تحطم المكان.

‎ارتطمت بالجدار، ثم بالأرض، الدماء تناثرت، لكن بلاك لم تكن هزيلة. رغم كل شيء، رغم الألم، رغم الجروح التي شقت جسدها، استدارت في الهواء، استخدمت قوته ضده، التفت حوله كإعصار قاتل، دوّامتها دفعت به إلى الأرض، سقط على ركبتيه، لكنه لم يكن منهكًا، بل كان غاضبًا.

‎نظر إلى الأعلى، عينيه كانتا مشعتين بطاقة لا حدود لها، ثم...

‎انفجر السقف.

‎لم يعد هناك مستشفى، لم يعد هناك سقف، كانا الآن في السماء، يقاتلان فوق المبنى كأنهما ظلّان يتصارعان في العدم.

‎ضربات، ضربات، ضربات.

‎لم يكن هناك مجال للراحة، لم يكن هناك وقت لاستيعاب ما يحدث، فقط قوة، فقط تدمير، فقط عنف لا حدود له. كانا يسقطان من الأعلى إلى الأسفل، ثم يعاودان الصعود، كأنهما محكومان بحلقة لا نهائية من القتال.

‎ثم... تغير المشهد مجددًا.

‎أدخلته بلاك إلى مجالها المظلم، كانت الظلال تهاجمه من كل اتجاه، لكن هيت لم يكن ليتوقف. صرخ مرة أخرى، وانفجر المكان مجددًا.

‎وعاد القتال، وعاد العنف، وعادت الدائرة الجهنمية من الضربات.

‎لم يكن هذا قتالًا عاديًا، بل كان حربًا بين كائنين لم يكن من المفترض أن يوجدا في هذا العالم.

2025/03/21 · 17 مشاهدة · 1655 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025