في الظلام، حيث لم يكن هناك سوى صمت خانق، وقف أكاي في قلب الغرفة المعتمة. كانت جدرانها المكشوفة تعكس صدى خفيفاً لكل حركة، بينما كانت الأضواء الباهتة من النوافذ المغلقة لا تكاد تكشف عن شيء سوى ظلاله المتحركة ببطء. كانت رائحة الغبار والتربة تغلف الجو، حيث كان الوقت متأخراً للغاية، وكانت الساعة تشير إلى منتصف الليل.
من زاوية مظلمة، جاء الصوت – عميقاً، باردًا، غامضًا. لم يكن للرجل الذي يتحدث وجه، لكن صوته كان يحمل طابع القوة التي لا تقاوم. كان صوته كما لو أنه ينبعث من مكان بعيد جداً، يغلفه غموض لا مثيل له.
قال أكاي، صوته هادئ لكنه مليء بالثقة: "أعتقد أن خطتنا بدأت تؤتي ثمارها، يا سيد جاك. كما كان مُخططًا، بدأ تشاي يتصرف بالطريقة التي توقعتها."
أجاب جاك بصوت رتيب، يخفي وراءه شيئًا من التشكيك: "ولكنه لم يفعل شيئًا بعد... هل نحن واثقون أنه ابتلع الطُعم؟"
أكاي ضحك، ضحكة هادئة، لكنه لم يكن سعيدًا بقدر ما كان واثقًا. "لا، لا تعتقد أن تشاي كان ساذجًا لدرجة أنه لن يلاحظ الجثة. الجثة كانت رسالة، رسالة تحمل في طياتها أكثر من مجرد الجثة. عندما رآها، كان كما لو أن عقله قد انفجر، وتبخرت سحب الشك حوله، اضن انه ذهب بسرعة إلى عائلته. وبحلول الفجر، ستكون جثث فرقة موريس ملقاة في الشوارع، تمامًا كما أُريد."
تأمل جاك في كلام أكاي، ثم همس بصوت منخفض، كأنه يحاول أن يقنع نفسه أكثر مما كان يحاول أن يقنع أكاي: "ولكن السيد لم يستدعك بعد. ألا يعني هذا أنه قد لا يعلم شيئًا عن تهديداتك لتشاي؟"
أكاي نظر إلى الفراغ أمامه بعينيه الثاقبتين، عيناه كانتا مليئتين بشيء من الغموض كما لو أنه يتأمل في شيء بعيد جداً. "لا يهمني، ليس في هذا العالم شيء يهمني بقدر إتمام ما خططت له. لدي حجة ههههههه ''كل ما فعلته هو تنفيذ أوامر مجلس الوزراء. أنت تعرف، . ا."
جاك ابتسم ابتسامة غامضة، وكان يبدو أن الحديث قد اتخذ مسارًا يثير بداخله القلق. "لكن لا تنسى الحجة الأقوى. أنت لم تخبر فرقة أوقا بما يحدث، وأنت تعي جيدًا أنه لو علموا بكل شيء، لما تركوك تفعل ما تشاء و انك أنت تريد أن تحل المشكلة في هدوء و لكن كل شيء خرج على السيطرة"
جاك تراجع خطوة للوراء، ثم أضاف، كأنه يحاول أن يشرح أكثر: "أكاي، أنت تعلم أنه يجب أن نظهر للسيد أن عائلة أودجين قد تعرضت للظلم. إذا كان لدينا أي فرصة للنجاة من هذه اللعبة الكبرى، علينا أن نجعل العالم يظن أن مجلس الوزراء هو من بدأ هذا الأمر."
أكاي أدار وجهه نحو النافذة، وبدأ يشم الهواء البارد الذي كان يمر من خلالها، كأنما يستنشق رائحة الموت الذي يقترب. "غدًا، سيكون هناك مجلس آخر. ربما هناك أخبار جديدة عن عائلة أودجين، وهذا قد يكون له تأثير كبير على خططنا. ولكن..." توقفت كلماته للحظة، كما لو كان يحاول تجميع أفكاره بشكل دقيق. "ولكنني أشعر برائحة الدماء تملأ الجو. نعم، رائحة الدماء والنصر. المعركة الكبرى ستكون قريبًا، وربما تكون تلك هي اللحظة التي سيغرق فيها العالم في الظلام."
جاك كان يبدو أنه يراقب أكاي بترقب، كأنما يدرك ما يخبئه المستقبل. "استعد يا أكاي، لا شك أن هذا الأسبوع سيكون حافلاً بالنشاطات والمفاجآت. علينا أن نكون مستعدين."
أكاي ضحك بصوت منخفض، ضحكة مليئة بالجنون والتمرد. "النصر في أيدينا، يا جاك. قريبًا ستغرق الأرض في بحور من الدماء، فرقة أوقا ضد عائلة اودجين ، سنعد لهم ساحة معركة تكون مشهودة. لا، بل سنحفر لهم قبورًا ضخمة، قبورًا حيث سيسقطون فيها، وسنغتصب أرواحهم قبل أن ندفنهم في الظلام الأبدي."
-----------------
ها هو الفجر ينسج خيوطه على صفحة السماء، يتسلل الضوء ببطء، كأنه يختبر الأرض قبل أن يمنحها النهار. في مقعده قرب النافذة، جلس تشاي ساكنًا، عيناه تتأرجحان بين انعكاس وجهه على زجاج الطائرة والهاتف الذي يحتضنه بيد ثابتة. أصابعه تنزلق فوق الشاشة، تتنقل بين الرسائل المتبادلة بينه وبين آني، كل كلمة تحمل ظلًا لذاكرة، لنبضة، لوجع مدفون بين السطور.
عندما انتهى، أغمض عينيه للحظة، زفر أنفاسه بصمت، ثم فتح الفيسبوك. هناك كانت صورها، ثابتة، لا تبالي بالوقت الذي يمضي. لمس الشاشة كما لو كان يلامس وجهها، وكأن الأصابع تستطيع عبور المسافات والعبث بالماضي.
همس، وصوته لم يكن أكثر من ارتجاف في صدره:
— آه يا آني... هل تتذكرين؟ ذلك الدفء الذي سرى في عروقي عندما نطقتِ اسمي لأول مرة؟ كيف كان العالم كله يتلاشى، كأن وجودي لم يكن سوى مرآة لعينيك؟
ثم حدّق في الفراغ، عيناه تترنحان بين الغضب والوعد:
— لا بأس، يا حبيبتي... سأمحوا كل من جعلك تتألمين.
---------
في أروقة المنظمة، داخل قاعة شاسعة تلفها هالة من الترقب، عاد الأطفال من الاختبار، خطواتهم تتفاوت بين الإرهاق والاعتزاز. سون، أليكس، غاندي، ألما، سيبرو… سون ، كيم ، و حين كل واحد منهم يحمل في عينيه أثر المعركة التي خاضها.
في الزاوية، حيث يختبئ الظل بين الجدران، وقفت شيماء إلى جانب السيدة بلاك داون، أعينهما تراقب الصغار بصمت مدروس.
بلاك داون، بصوت هادئ يحمل نبرة التحذير:
— إذًا، أين ستتوجهون الآن؟ هل حددتِ الوجهة؟
شيماء، بنبرة خالية من التردد، كأنها تنطق بحقيقة لا تقبل الجدل:
— لا. لكني سمعتُ أنه قادم إلى المنظمة للقضاء على أكاي. سأوسع نطاق البحث، أراقب تحركاته، وعندما يظهر… سأجرّه إلى المنطقة المغلقة.
نظرت بلاك داون إليها للحظة طويلة، ثم زفرت بهدوء، وكأنها ترى النهاية قبل أن تبدأ:
— لا أدري… لكن لدي شعور بأنكِ على وشك ارتكاب خطأ جسيم، شيماء.
شيماء، بعينين جامدتين:
— لا يهمني. الأهم الآن… هل هم جميعهم أقوياء؟
بلاك داون، بعينين نصف مغمضتين، وكأنها تزن إجابة لا ترغب في قولها:
— لا يزالون في طور النمو، لكن قوتهم حقيقية. ربما حتى أقوى من فرق المستوى B… ومع ذلك، سأعزل واحدًا منهم عن البقية. الطفل المدعو سون، إنه ابن السيد موريس.
عينا شيماء تلتمعان بشيء أشبه بالإدراك:
— سأتولى الأمر. لا يجب أن يعلم السيد موريس بأي شيء، وإلا ستتعطل المهمة.
بلاك داون، وهي تنقل نظراتها بين الأطفال:
— وأين هو السيد موريس الآن؟
شيماء، بنبرة هادئة، لكن في عمقها كان هناك تيار جليدي:
— سافر هذا الصباح. بدأت مطاردة عائلة أودجين.
فجأة، انفتح باب القاعة بقوة، وانتشر صمت ثقيل كأنما جُرّ الهواء من الغرفة. كل من كان واقفًا أو جالسًا انتفض في مكانه، واستدار نحو المدخل.
خطوات ثابتة تقدمت على الأرضية الصلبة، وقعها مدروس بدقة، كأنها تحمل ثقلًا لا يراه سوى من يفهم المعنى الحقيقي للسلطة. وقف الجميع بلا استثناء، حتى المدربين وقادة الفرق، كأنهم غريزيًا أدركوا أن الجلوس لم يعد خيارًا.
رجل ذو حضور طاغٍ شق طريقه بين الحشد، نظراته الحادة تجولت عبر الوجوه، تزنهم جميعًا كما لو كان يقرأهم صفحة صفحة. ثم، دون أن يتباطأ، صعد المنصة، وقف في المنتصف، وأسدل نظراته عليهم، كأنما ينظر إلى جنود انتزعوا لتوهم من نار المعركة.
— "أنا أكاي."
صوته لم يكن مرتفعًا، لكنه حمل قوة جعلت كل من في القاعة يشعر بثقله.
— "رئيس المنظمة، وقائد فرقة 'بيغ وان'."
لم يكن بحاجة إلى التعريف بنفسه، فجميعهم يعرفونه. لكن في هذه اللحظة، بدا وكأنه يذكّرهم بمكانتهم أمامه، ليحدد الحدود بوضوح تام.
— "أهنئكم على نجاحكم في الاختبار. من هذه اللحظة، أنتم جزء من عائلتنا."
عائلتهم؟ لا أحد في القاعة استطاع أن يبتسم عند سماع تلك الكلمة. لأن الجميع فهم المعنى الحقيقي لها.
— "ربما، خلال الاختبار، شعرتم أننا نحاول التخلص منكم. ربما رأيتم الرفاق يسقطون، شعرتم بالعجز، أدركتم أن الحياة هنا ليست سهلة. لكن… هذا هو المسار الذي مررنا به جميعًا."
صمت لثوانٍ، ألقى نظرة على الوجوه أمامه. بعضهم لم يستطع إخفاء الرعشة في أطرافه، والبعض الآخر وقف بلا تعبير، كأنهم يتحدونه بأعينهم.
— "الاختبار ليس مجرد عقبة. إنه معيار. نحن لا نبحث عن الأقوياء فقط، بل عن أولئك الذين يستطيعون البقاء واقفين رغم كل شيء. فالقتلة الذين ستواجهونهم هناك لن يمنحوكم فرصة ثانية. وهذا…" نظر إليهم نظرة باردة، "لن يكون اختباركم الأخير."
همسات خافتة تسربت بين الحضور. البعض أدرك المعنى جيدًا. هذه لم تكن سوى البداية.
أكاي تابع دون أن يترك لهم مجالًا للاستغراق في أفكارهم:
— "والآن، لننتقل إلى المرحلة التالية. سنحدد مصيركم وفقًا لمستوياتكم."
رفع يده، وفي لحظة، ظهر على الشاشة خلفه تصنيف القوة في المنظمة.
— "هناك فرق من رتبة D، وهي الأضعف. ثم فرق من رتبة C وB. فرق رتبة A، وبعدها تأتي فرقتان من رتبة S، وهما فرقة 'بيغ وان' وفرقة السيد موريس. أما في القمة، حيث لا مكان للضعفاء، هناك فرقة 'أوقا'، والتي لا تملك رتبة محددة، لأن أعضاؤها جميعهم يفوقون مستوى S."
عيون الأطفال اتسعت قليلًا. هذه أول مرة يسمعون فيها تفاصيل التراتبية بهذه الصراحة.
— "لكي تصبح معلمًا أو قائد فرقة، يجب أن تصل إلى رتبة A على الأقل، وأن تجتاز اختبارات خاصة. لكن لا تقلقوا بشأن ذلك الآن، فالأولوية لكم هي البقاء على قيد الحياة."
توقف للحظة، ثم قال ببرود:
— "تم تصنيف ثلاثة منكم في رتبة B، وأربعة في رتبةA. هذه نتيجة استثنائية."
ارتفعت بعض الحواجب بين الحضور. أربعة من رتبة A؟ هذا لم يحدث منذ فترة طويلة.
ثم، ودون أي إشارة إضافية، أنهى أكاي حديثه بجملة واحدة:
— "سيتم توزيعكم قريبًا. حظًا سعيدًا."
استدار، ونزل عن المنصة بنفس الثقل الذي دخل به، تاركًا خلفه قاعة تغلي بالمشاعر المتضاربة.
بعد لحظة صمت، انفجر المكان بالفوضى. قادة الفرق اندفعوا إلى بلاك داون، يتسابقون لتقديم عروضهم، بينما الأطفال كانوا لا يزالون يحاولون فهم ما حدث للتو.
لكن في الخلف، وقف شخص واحد بلا حراك، وعيناه موجهتان إلى الفراغ، حيث وقف أكاي قبل لحظات.
سون لم يتحرك. لم يتكلم. لكنه شعر بشيء واحد فقط.
هذه البداية فقط.