سكونٌ ثقيل يخيم على محيط المجمع الأسود — المقر الأعلى للمنظمة — حيث لا تسمع سوى أصوات أجهزة المراقبة وهدير الرياح التي تمرّ على جدرانه المعدنية كأنها تئن من عبء الأسرار التي تحتضنها الجدران منذ عقود.
في قلب هذه العزلة الجليدية، فُتح باب المصعد بصوت يشبه شقّ بطن صفيحة معدنية. خرج منه رجل طويل القامة، خطواته هادئة، لكنها تحمل ثِقل ماضٍ غارق بالدم والرماد.
أكاي... عاد.
لم يكن مجرد ضابط رفيع. كان طيفًا من ماضٍ لا يُمحى. أسطورة تسير على قدمين. وجهه حاد الزوايا كأن الزمن نحته بحد السكين، عينيه بلون الفحم المحروق، تحترقان بثبات كجمرة لم تنطفئ منذ سنوات. لم يكن يتكلم كثيرًا، لكن حضوره وحده كان كافيًا ليكسر أعصاب أقسى الرجال.
في القاعة العليا، حيث جدران الزجاج الداكن تخفي الأسرار خلف طبقات من العزل والأمان، وقف أحدهم ينتظر. شابٌ بلحية خفيفة، نظراته خجولة، لكن يده ترتعش بخفة رغم محاولته إخفاءها.
غيو، أحد قادة الميدانية.
قبل أن ينبس بكلمة، قال أكاي بصوت رخيم يشبه خرير سكين يُسن على الحجر:
> "كم فرقة وصلت؟"
لم تكن نبرة سؤال، بل أشبه بجملة حساب. نطقها ببطء، كمن يزن الكلمات بموازين من نار وحديد.
رد غيو بعد لحظة تردد، يبلع ريقه كمن يبتلع رمحًا:
> "اثنتا عشرة فرقة فقط يا سيدي…"
عمّ الصمت.
انخفضت حرارة الغرفة فجأة، أو هكذا خُيّل لغيو. لم يتحرك أكاي، لكنه أدار وجهه ببطء نحوه. شيء ما في عينيه تغيّر. لا غضب، بل ازدراء متجلّد، يشبه نظرة صياد رأى فريسة لا تستحق حتى أن يُطلق عليها رصاصة.
قال بنبرة باردة تخترق العظم:
> "فقط؟ هل أصبح حضوري دعابة؟! كان ينبغي أن تكون جميع الفرق قد وصلت منذ ساعتين. هذا تأخير لا يغتفر…"
ثم سكت، وحدق طويلًا في الفراغ، كأن عقله يحفر في أعماق مشهدٍ دُفِن تحت رماد الخيانة. بعد برهة سأل، وكأنه يعرف الجواب سلفًا:
> "وأين فرقة أوغا؟"
تلعثم غيو، وصوته بدأ يفقد ثباته:
> "لقد... لقد انقطع الاتصال بهم ، لم يسجلوا أي ظهور لا في الطيف الحراري، ولا حتى عبر الأقمار…"
ضحك أكاي.
ضحكته كانت شيئًا بين سخرية ونعي. ضحكة من يعلم أن الموتى لا يُجيبون على الرسائل.
> "هاه... هكذا إذن.
ثم استدار، يسير ببطء نحو طاولة العمليات، حيث خريطة رقمية تُظهر مواقع الفرق. مرّ بإصبعه على النقاط الحمراء واحدة تلو الأخرى، .
قال بنبرة عميقة، تكاد تشبه صلاة حرب:
> "أصدر أمراً لجميع الفرق الموجودة … الحصول عن جثث الأطفال... وعن بقايا المعلّمة شيماء… قبل أن يسبقنا الإعلام إلى رائحة الدم. لا أريد قصصًا في الصحف، أريد حقائق مبللة بالدم، ملفوفة في أكياس سوداء."
تجمّد غيو في مكانه، عيناه اتسعتا، كأن شيئًا لم يدركه للتو:
> "ش... شيماء؟ هل ماتت؟!"
كان الصمت من جديد هو الجواب الأول.
ثم رفع أكاي عينيه، ونظر إليه كأنما يرى طفلاً يجهل أبجدية الرعب.
> لا وقت للتفسير
> "افعل ما أمرتك به. الآن."
ثم وقف لحظة. الجو أصبح أثقل، والرائحة كأنها بدأت تكتسب شيئًا من الحديد والدم. سأل أخيرًا، بصوت فيه شيء من الحنين والريبة:
> "هل المعلم تاي في مكتبه؟"
لم ينتظر الرد.
نظر إلى إحدى الكاميرات في الزاوية، وتحدث كأن الكيان نفسه يسمعه:
تاااي لنرى ما لديك
الجناح الشرقي — مكتب المعلم تاي.
الممر المؤدي إلى المكتب كان أشبه بنفق ضيق داخل عقل رجلٍ يحتضر. الجدران صامتة، الإضاءة قاتمة لكنها كافية لتجعل الظلال تتحرك ككائنات تنتظر لحظة الانقضاض.
أكاي كان يخطو بخطى ثابتة، يده اليمنى خلف ظهره، كمن يحمل في عقله خطة إبادة لا يحتاج فيها إلى سلاح. كل خطوة كانت تُحدِث صوتًا خافتًا، أشبه بنداء من جحيم قديم.
توقف أمام الباب المصقول، ثم رفع يده ببطء، وطرق عليه ثلاث مرات.
طق... طق... طق.
لم ينتظر الرد.
دفع الباب بيده، ودخل.
المعلم تاي كان جالسًا، ظهره مستقيم، يداه مشبوكتان فوق الطاولة، وعيناه تراقبان الشاشة، لكنها لم تكن شاشة حاسوب، بل شاشة تأمل، كأنه يُراقب المستقبل لا الأحداث.
قال أكاي بصوته البارد، العميق، الذي يُشبه دقات قلب قاتل محترف:
> "عملٌ جيد... يا تاي."
لم ينظر تاي إليه. فقط قال بصوت منخفض، خالٍ من المجاملات:
> "قل ما جئت من أجله."
اقترب أكاي بخطوة، ثم وقف أمام المكتب، يضع كل ثقله في وجوده لا في كلماته:
> "لقد قطعت الاتصالات مع فرقة أوغا... عمداً. الأمر واضح، ليس عليّ أن أكون عرافًا لأعلم أنك تحاول منعهم من الوصول، ربما لحماية خطة تشاي أو لا أدري ."
رفع تاي رأسه بهدوء، والتقت عيناه بعيني أكاي.
عينا تاي كانتا كعينَي رجلٍ رأى كل شيء... وفقد كل شيء.
قال ببطء، بنبرة ناعمة لكنها مسمومة:
> "لم أفعل شيئًا. وإن كنت تبني خططك على الظنون... فربما أنت أخطر على المنظمة من أعدائها."
ابتسم أكاي، لكنه لم يكن ابتسامًا للود.
كان ابتسامة رجل قرر أن يسحق شيئًا ببطء... لكنه يستمتع بالمشهد أولاً.
قال وهو يدور حول المكتب، يمرر أصابعه على الحواف:
> "في الواقع... أنا لا أحب وجود فرقة أوغا أيضًا. هم ... يعكرون مزاجي، ويشوّهون خطةً ظللت أرسمها لسنوات."
أجاب تاي دون أن يرفّ له جفن:
> "خطة للقضاء على أودجين؟"
هنا توقفت يد أكاي.
نظر إلى السقف قليلاً، كأن السؤال أزعجه لأنه بدائي، ثم قال:
> "أودجين؟ لا يا تاي... أودجين ليست سوى شجرة في طريق نيزكي. وجودها أو فناؤها... لا يغيّر شيئًا. هي مجرد عقبة، مؤسفة، لكن غير مهمة."
هنا، تغيرت ملامح تاي.
شيء ما في وجهه تشقق... ربما هو الصبر.
نهض من مقعده ببطء، وقف وجهاً لوجه أمام أكاي.
وقال بنبرة لا تحتوي على تهديد بل على وعد مقدس:
> "ربما لا تهمك أودجين... لكن."
ثم اقترب خطوة، حتى أصبح أنفاسه تلامس وجه أكاي:
> "وإن تضررت أودجين بنسبة واحد بالمئة فقط من ما ستفعله ... فسأكون أول من يزرع نيزكاً في قلبك."
صمت مرير.
تلامس نظرهما، كأن السماء والأرض وقفتا للحظة تشاهدان من منهما سينفجر أولًا.
أكاي قال بنبرة باردة جدًا، لكنها عميقة كأنها خرجت من قبر قديم:
> "أحب هذا الحماس... لكن دعنا لا ننسى، تاي... أنك تتكلم مع رجلٍ لا يعرف الرحمة، ولا يرحم من يثق بالأوهام. وإذا كنت تظن أنكم ستمنعوني ... فأنت لم تفهمني جيدًا."
أدار ظهره بهدوء، ثم أضاف:
> "الذين يهددون بالقتل يا تاي... نادرًا ما يقتلون. أما أنا؟ فأنهي الحكاية دون أن أهدد أصلاً."
تاي لم يرد.
فقط جلس مجددًا، وقال دون أن ينظر إليه:
> "إلى اللقاء، أكاي."
لكن نبرة صوته حملت معنى آخر.
كان يقول: "اخرج، أو سأمزق المكان بكلمة."
خرج أكاي، لكن خطواته تركت أثرًا... ليس على الأرض، بل في الغرفة.
.
السماء بدت ككفن أسود لا نجوم فيه.
لا قمر، لا ضوء.
فقط الظلام... كثيفًا كالحزن، ساكنًا كالألم، باردًا كما يشعر من فقد كل شيء ولم يعد ينتظر شيئًا.
تشاي جلس على مقعد خشبي قديم، تعافى من المطر لكنه لم يشفَ من الذاكرة.
كان جالسًا وحده... لكنّ وحدته لم تكن عادية.
لقد كانت وحدته تُرعب المقاعد المجاورة، تُرعب العشب، تُرعب الهواء نفسه.
ثقل هالته جعل الغيوم تتوقف عن التحرك، والريح عن الصفير.
كأن الزمن خاف منه... أو احترمه.
جلس منحنيًا قليلًا، مرفقيه على ركبتيه، ويداه متشابكتان.
عقله لم يكن هنا.
بل في زمان آخر.
في ماضيه الذي لا يموت، بل يعود في كل مرة يُغمض فيها عينيه.
.
عيناه نصف مغمضتين، يكسوهما ظل يشبه جروحًا لا تُرى، لكن تُنزف باستمرار.
كل شجرة من حوله بدت وكأنها تعرف حكايته.
كل ورقة... كانت تبكي.
كل نسمة هواء... كانت تعتذر لأنها لا تستطيع مواساته.
لم تكن هناك نجمة واحدة، وكأنه الوحيد الذي بقي في هذا الكون بعد النهاية.
ضحك، لكن ضحكته كانت ميتة... كأنها خرجت من روح تموت كل يوم ولا تُدفن.
في الظل خلف المقعد، تحركت قطة سوداء، لكنها توقفت فجأة، وكأنها شعرت أن الرجل الجالس هناك ليس إنسانًا عاديًا... بل وحشًا نائمًا على جرحه.
تشاي أخرج من جيبه شيئًا صغيرًا... صورة مهترئة.
نظر إليها طويلاً، حتى بدت الصورة وكأنها تنظر إليه أيضًا.
مزق الصورة ببطء.
فتات الورق تناثر كرماد تحمل ماضي ذالك اليوم