لم يكن لديّ تاريخ قبل تلك الليلة.

‎كان كل شيء قبله مجرد سراب… كأنني خُلقت من الفراغ لأُلقى في الظلمة.

‎أتذكر...

‎ذلك الشعور، لا يمكنني نسيانه.

‎بردٌ زاحف، كثيف، كأنني استيقظت داخل قبر...

‎أفتح عينيّ، فترتطم نظراتي بالفراغ.

‎كوخ خشبي قديم، الجدران ترتجف من شدة البرد، والأرضية تنزف رطوبة.

‎ركن بعيد من الغرفة، هناك...

‎شُعاع خافت يتسلّل من ثقب في السقف، فيرسم ظلًا لرجل يجلس بلا حراك.

‎صامت.

‎صمته لم يكن عاديًا…

‎كان صمت رجل يعرف ما لا ينبغي أن يُعرف.

‎صمت ثقيل، فيه رهبة الأبد.

‎عيناه كانتا هناك، تطلان من وجه مجعّد كأن الزمن نفسه فركه بيديه آلاف المرات.

‎عينان كأنهما رأتا نهاية العالم… وبقيتا لتحكيها.

‎همست، وصوتي كان هزيلًا، كصوت طفل يبحث عن تفسير:

‎> "من... من أنت؟ أين أنا؟ هل أنت ذاك الظل؟... هل تحوّلتَ إلى رجل؟"

‎لم يُجب...

‎بل أغمض عينيه، ثم انفرجت شفتيه عن ابتسامة... لا تُبشر بخير.

‎ضحكة قصيرة، مشوّهة، تحمل في طيّاتها شيئًا أكثر برودة من الجليد.

‎قالها... بصوت أجوف، لكنه حميم بطريقة مقلقة:

‎> "من اليوم… سأكون عائلتك."

‎شعرت بشيء غريب.

‎الكلمة اخترقتني.

‎"عائلة"؟

‎كأن قلبي الذي لم يعرف الدفء، سمع لحنًا جديدًا، خافتًا... لكنه جميل.

‎ابتسمت.

‎لكنه أكمل…

‎> "وسأكون مدرّبك... سأحوّلك إلى آلة قتل."

‎تجمّدت ابتسامتي.

‎الكلمات نزلت عليّ كالماء البارد فوق رأس نائم.

‎لم أفهم.

‎وقفت أنظر إليه بذهول، بعينين تائهتين، أبحث عن معنى… تفسير.

‎قال بصوت أشبه بقرع أجراس كنيسة مهجورة:

‎> "أنت الآن فرد من عائلة أودجين… والدَاك قُتلا.

‎جدّك بان… هو من ذبَحَهما بيده.

‎ثم أحضرك إليّ… كي تُصبح ما هو عليه."

‎لم أستوعب.

‎> "تلك المرأة… وذلك الرجل… كانا… كانا والديّ؟"

‎كان صمته هذه المرة أعمق.

‎أشبه بحفرة بلا قاع.

‎> "لا تسألني لماذا...

‎لا أملك الإجابات."

‎ثم نهض.

‎لم يتنهد، لم يلتفت.

‎فتح الباب وكأنما يعرف طريقًا لا يهمّه من يسير خلفه.

‎قبل أن يخرج، قال:

‎> "غدًا... نبدأ التدريب.

‎الساعة الخامسة صباحًا.

‎كن مستعدًا، لأنني لن أطرق الباب."

‎تعلّقت به عينيّ، ورحت أركض بالكلمات:

‎> "إلى أين أنت ذاهب؟"

‎قال بصوته الذي لا يحمل عاطفة:

‎> "نحن في بيت معزول بين الجبال...

‎خمسة كيلومترات تفصلنا عن أقرب قرية.

‎هذا المكان سيكون بيتك.

‎أما أنا... فأعيش على القمّة."

‎ثم خرج.

‎وأغلق الباب.

‎الصمت بعده كان أعمق من الموت.

‎---

‎جلست على الأرض، أحتضن ذراعيّ كطفل مكسور.

‎كيف...؟ لماذا؟

‎لماذا لم يعيشا معي؟

‎لماذا قُتلا؟

‎من أنا؟ ومن هذا الرجل؟ ومن هو بان الذي يُلاحقني في كوابيسي؟

‎وبينما كنت أغرق في تلك الدوامة، ظهر من العدم…

‎الظل.

‎كائن لا شكل له، لا وزن له… لكنه يبتلع الهواء من حولي.

‎> "خرجت من الظلام…

‎وستعود إليه."

‎تسارعت دقّات قلبي.

‎همست:

‎> "المرأة… لقد ماتت…"

‎لم أكمل الجملة…

‎فقد بدأ يتلاشى.

‎كالدخان...

‎كالوهم...

‎وبقيت وحدي.

‎تمامًا كما كنت دائمًا.

‎أرخيت رأسي على الجدار الخشبي.

‎النوم سرقني ببطء، وأنا أتساءل…

‎هل هذا هو الجحيم؟

‎أم مجرد البداية؟

‎استيقظت على ألمٍ… لا على صوت.

‎لم تكن هناك شمس. لا دفء. لا حلم.

‎ركلاتٌ... ضرباتٌ... كأن الأرض كلها اجتمعت لتسحق أضلعي.

‎كان الرجل هناك... ذلك الكائن الذي لم ينادني يومًا باسمي، ولم يخاطبني كبشر.

‎صوته جاء خشنًا كجلد الثعابين اليابسة:

‎> "استيقظ… استيقظ أيها المتقاعس. تأخرت ثلاث دقائق."

‎ثلاث دقائق؟

‎ثلاث دقائق جعلتني أشعر أنني سأُدفن حيًا.

‎رفعت رأسي بصعوبة، وكان الألم قد استقر في عظامي.

‎> "لكني… كيف لي أن أعرف الوقت؟… لم أملك ساعة، ولم أسمع صوتك..."

‎لم يهتم بكلامي. نظر إلي كما ينظر الحطّاب إلى قطعة خشب غير صالحة.

‎> "لا تبرّر. لا تُفكّر. فقط… انهض."

‎سحبني من الأرض كما يُسحب كيس نفايات.

‎خرجتُ خلفه… أترنّح... أرتجف.

‎الهواء كان يقطع الجلد مثل شفرات زجاجية.

‎والثلج يعضُّ أصابعي حتى أحسست أني أمشي فوق شفرات لا ترحم.

‎أمامنا… لوحة خشبية معلّقة بين شجرتين، تشبه صليب إعدام.

‎ومن وسطها تخرج مسامير صدئة، وأطراف حديدية تلمع تحت الضوء الشاحب.

‎أشار إليها، وقال بصوت خالٍ من الرحمة:

‎> "هنا سأعلّقك. وسأجلد كل شبر فيك بالحبل… هذا أول درس."

‎أخرج حبلاً غليظًا… كان أزرقًا قاتمًا، ثقيلاً، يتدلّى من يده كأفعى سامة.

‎> "حتى غروب الشمس… لا ماء، لا طعام. التدريب هو طعامك. والوجع هو أستاذك."

‎ضحكت… لا أدري لماذا.

‎ربما كانت ضحكة الموت… أو الجنون.

‎> "أهذا تدريب؟ أم قتل؟ هل جُننت؟"

‎التفت إليّ، وبعينين ميتتين قال:

‎> "لا تضحك. لا تتكلم إلا إن أذِنتُ لك.

‎إن لم تستطع تحمّل هذا… فأنت لا تصلح أن تكون قاتلًا، بل مجرد لحم رخو."

‎ثم اقترب.

‎أمسكني كمن يُمسك بجثة لا أهمية لها.

‎صرخت… بكيت… تمسّكت بالأرض:

‎> "لاااا!! أتركني!! أحدٌ يساعدني!! أرجوكم!!"

‎لم يُجب.

‎كان قد بدأ في تنفيذ الجملة.

‎ربطني.

‎وثبّت معصميّ بحديد بارد…

‎وعلّقني…

‎ثم جاء أول صوت.

‎صفعــــــة.

‎ثم الثانية.

‎ثم الثالثة.

‎الحبل لم يكن حبلًا… كان لعنة من نار.

‎كل ضربة كأنها تمزق قطعة من لحم روحي.

‎جلدي بدأ يتفتت.

‎الدماء تناثرَت في الهواء كندى الصباح… لكن بلون الجحيم.

‎كل دقيقة… كأنها سنة.

‎كل صرخة… تخرج ثم تُخنق بين فكيّ الريح.

‎بعد ساعة… فقدت الإحساس بظهري.

‎بعد ثلاث… لم أعد أعرف من أنا.

‎كل شيء تلاشى… الألوان، الأسماء، حتى الأحلام.

‎بقي فقط الألم.

‎مجرد ألم.

‎وفي اللحظة التي غربت فيها الشمس، كما لو أن القدر نفسه أنهى مهمته،

‎أوقف الجلد.

‎قطع الحبل.

‎سقطت.

‎جسدي ارتطم بالأرض مثل كيس لحم ميت.

‎لكنني لم أمت.

‎وضع إلى جانبي قارورة ماء… وقطعة خبز يابسة.

‎قال بصوت خفيض، بارد:

‎> "تدريب اليوم انتهى… غدًا، في الخامسة صباحًا. لا تتأخر.

‎إن تأخرت… ستحزن على هذا اليوم."

‎ثم مضى… واختفى في ظلال الشجر.

‎بقيت وحدي.

‎لا أتحرك. لا أتكلم.

‎كل شيء داخلي كان يصرخ… لكن الخارج صامت.

‎أردت أن أمدّ يدي إلى الماء…

‎لكن حتى العطش كان عاجزًا.

‎وفجأة…

‎ظهر من الظلام… ذلك الكائن.

‎ذلك الشيء الذي لا أعرف له اسمًا… ولا صوتًا… ولا وجهًا.

‎اقترب.

‎لم أسمع خطواته، فقط حضوره.

‎حدّق في وجهي… ثم سكب الماء فوق رأسي.

‎شعرت بلسعة الحياة تعود… ولو قليلاً.

‎قال بصوته الغريب، بصوت لا تسمعه الأذن بل القلب:

‎> "لقد اخترت التضحية بجسدك…

‎الآن، تحمّل."

‎ثم اختفى.

‎وأنا بقيت أنزف.

‎لكن...

‎لأول مرة، شعرت أنني… وُلدت.

2025/06/07 · 9 مشاهدة · 1079 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025