هبطت الطائرة على مدرج مطار العاصمة،
صوت الإطارات يصرخ وهو يلتهم الأرض الإسفلتية تحت ثقل الحديد والقدر.
خرج موريس بخطوات واثقة من باب الطائرة،
يحمل حقيبة سوداء مرقّمة…
وجهه كما هو، لا يتغيّر: جامد، حاد، يفضّل الصمت على الكلام.
وقف في صالة الوصول،
نظر من حوله وهو يتمتم بضيق:
> موريس (بصوت خافت): "تأخرت… تبًا لهذا الازدحام. كمّ هائل من البشر، ولا أحد يعرف إلى أين يمضي."
صف طويل من المسافرين،
أطفال تبكون، رجال يصرخون، وأصوات النداءات لا تتوقف.
لكن موريس لم يلتفت لأيّ منهم…
كان هناك شيء واحد في ذهنه فقط: سون.
> موريس: "مرّ يوم كامل… ولم يجب على مكالماتي.
سون لا يختفي هكذا، هذا ليس من طباعه."
أحكم قبضته على الحقيبة،
ثم التفت نحو مخرج المطار وسار بخطى سريعة:
> موريس (بصرامة): "سأذهب إلى المقرّ أولًا… عليّ أن أعرف ما الذي يجري."
_________
كان سون ملقى على الكرسي، جسده يتلوى بين اللحظة والأخرى في حالة من الضعف الغامض.
الدوار يلتف حول رأسه كعاصفة سوداء، يضغط على عقله، يطمس ما تبقى من وعيه.
فتح عينيه ببطء، كانت الرؤية ضبابية،
لكن ما لم يغب عن حسّه، هو رائحة الدم الثقيلة التي ملأت المكان،
رائحة تُغرق الحواس وتستفز الذكريات الكابوسية.
على الأرض أمامه، كانت جثة راغنا ملقاة بلا حراك،
وجهه مشوّه، وحوله بركة من الدماء تتلألأ في ضوء خافت.
صرخة داخله تفجرت من فمه، صيحة اختنقت بين الرعب والصدمة:
"ماذا...!؟"
قفز من فوق الكرسي كمن يهرب من ظله، قلبه يدق بعنف كأنه يريد الانفجار،
تقدم نحو الباب بخطوات متسارعة،
وعندما فتح الباب، اصطدم بظل ضخم لا يتحرك.
كان موريس هناك، وجهه جامد كالصخر، عيناه تحملان ثقلاً لا يُحتمل.
توقفا للحظة،
ثم فجأة، كأن الزمن تمزق،
تلاشى كل شيء سوى حضن حار، عميق، يحمل أوجاع الغياب وفقدان الأمان.
همس سون بصوت مكسور:
"أين كنت؟"
كانت الكلمات أشبه بجسر بين جرحين،
لكن موريس رد بهدوء ثقيل:
"ابني العزيز… أنا هنا الآن."
بعد انفصالهم، أشار سون نحو الجثة التي لم تحرك ساكنًا:
"انظر، أبي... إنها جثة راغنا."
كانت الكلمات تحترق في الهواء، تلهب الأجواء بمرارة الحقيقة.
رد موريس بصوتٍ متعب، لكنه ثابت:
"أعلم.
سيد أكاي أخبرني بكل شيء."
صمت ثقيل خيم على الغرفة،
الأسئلة تشق طريقها وسط الدخان والدماء، لكن الإجابات كانت كالسر المدفون.
قال سون، صوته يرتجف:
"ماذا حدث؟
لم أعد أفهم شيئًا.
الدوار... لم أتذكر أي شيء بعد ذلك."
تنهد موريس، وجهه صارم، حازم:
"الآن ليس الوقت للحديث.
غدًا… سأخبرك بكل شيء."
نظرة مليئة بالوعد والقسوة في آنٍ واحد.
وأضاف:
"هيا، لنذهب إلى المنزل…
لنرتاح قليلاً، لأن معركة الحقيقة ستبدأ قريبًا."
ومع تلك الكلمات، انطلقت خطواتهما خارج المكتب،
والدماء ظلت تهمس، كأنها تدعو لعهد جديد من الألم والصراع.
________
في غرفة مظلمة، يغمرها نور خافت من مصباح معلق بسلسلة صدئة، جلس أكاي وجهاً لوجه مع جاك. الهواء مشحون ببرودة تلامس العظم، وثقل الصمت يلف المكان كعباءة سوداء لا تفارقهما. لا صوت سوى أنفاسهما المتقطعة، المتأرجحة بين ثقل أفكار قاتمة وهمسات شكّ ثقيلة.
جاك، بوجهه المحفور بخطوط التجارب والقسوة، عيناه تلمعان بوميضٍ حاد كالسكاكين. تحرك شفتيه بثقل وتردد، قبل أن يطلق الكلمات التي تحاول استنطاق فهم أعماق الأمور:
«لماذا هذه العجلة المحمومة في قلب تلك الفتاة؟ الانتقام بالنسبة لها كالنار التي تلتهم نفسها... لا تفهم سوى اللهب و النتيجة موتها.»
أما أكاي، الذي يحمل في عينيه ظلال خفية من عوالم أخرى، كان يتكلم بصوت منخفض لكنه حاد كحد السكين، متداخل مع غموض أفكاره:
«الصحافة عثرت على الجثث في ساعة مبكرة ، قبلنا الوقت لم يكن مناسباً، لكنه يكفي لإشعال فتيل الفوضى. نحن تحت المجهر، والعيون لا تغفل. الغد سيحمل الأنباء التي نخشاها، لكن السؤال الذي يحيرني ليس هنا.»
وقف لحظة، مرتاحاً قليلاً في جلسته، بينما تلاعب أصابعه بحافة الطاولة الخشبية المتهالكة، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره في متاهة متشابكة.
«تشاي، أظن، علم بقرار المجلس باجتماع الفرق ... جاء هنا ليس لاصطيادهم. ، فلو كان كذلك، لما تبقى من فرقة موريس أحدٌ على قيد الحياة. ليس الهدف الحقيقي هو القضاء على الفرق، بل علي أنا. أنت تعرف جيداً، السبب مرتبط بآني.»
نظرة جاك تاهت في عيني أكاي لبرهة، يدرك عمق المعركة الخفية التي تخوضها العائلة، مزيج من الصراعات السياسية والانتقام.
«صحيح، لكن الأمر أكبر من ذلك. هناك شيء كامن، شيء مظلم في الأفق. تاي قطع الاتصال مع فرقة أوقا... هذا يعني أن هناك هدفاً آخر غير واضح لأودجين . ليست مجرد لعبة تصفية.»
همس جاك بتأمل، كأنه يرى مشهداً دمويًا ينبثق من دخان الغرفة:
«حسب ظني، مجزرة ستحدث... باقي العائلة ستنضم للهجوم على الفرق، بينما يشق تشاي طريقه نحوك. لماذا لم تترك فرقة موريس تواصل مهمتها؟ كان ذلك سيكشف أسرار نواياهم، نعرف هل هم حقًا يخططون للدمار أم لا.»
ابتسم أكاي ابتسامة باردة، كمن يقرأ كتاباً قديماً يعج بالأسرار:
«كانت خطة مدروسة بدقة ( قصدو هدف من مطاردة فرقة موريس لأودجين)، لنعرف إن كانت أودجين تسعى خلف الفرق أو لا . تاي، كالمراقب الصامت، يعلم كل شيء. لا شك أنه نقل لهم الخطة قبل أن نتمكن نحن من فعل شيء. بهذا علمنا أن السيد لا يسعى وراء القضاء على الفرق، وهذا له دلالات خطيرة.»
تنهد جاك، يتساءل عن مدى الثقة التي يحملها السيد تجاه أكاي:
«أعتقد أن السيد يثق بك، ويرى في قيادتك ضمانة أن الفرق لا تشكل خطراً عليه لذلك لم يأمر أودجين بالقضاء عليهم .»
قال أكاي بابتسامة عابرة، كأنه ينظر إلى قطعة شطرنج بعين لاعب خبير:
«كل شيء يسير كما خُطط له... ولكن ماذا لو لن . تكن المجزرة ؟ نحن لا نعرف بعد ماذا يخبئ الظلام.»
نظراتهما تلاقت، تحمل نذر حرب قادمة، حرب ستغرق الأرض في دماء لا تنسى.
«لنراجع خطتنا مرة أخرى، لنفهم التغيرات التي طرأت، ونسعى لإصلاح ما يمكن إصلاحه.»
ارتفع صوت أكاي قليلاً، يعبر عن صلابة الإرادة وخطر الحسابات التي تعيد تشكيل مصير العائلات:
«كان هدفنا أن نحرض أودجين ضد المنظمة الأفريقية، لتندلع المواجهة مع فرقة أوقا. حينها، ستحصل المجزرة الكبرى التي ستشغل العالم، وترمي باللائمة على المنظمة الأفريقية. حين تتصارع أوقا وأودجين، ستضعف القوة، ونتمكن من القضاء على المنظمة تدريجياً.»
جاك أومأ برأسه، كمن يستوعب خيوط شبكة متشابكة، تشد الجميع نحو الهاوية.
«ومع الأحداث التي تجري، يبدو أن هذا الجزء من الخطة يتحقق.»
تنهد أكاي بعمق، كأن الأرض قد تزلزلت تحت أقدامه، لكنه يرفع رأسه بثبات:
«الجزء الثاني، انهيار المقعد الثاني بعد موت أغلبية أودجين. حينها، نتمكن من قلب الطاولة على المقاعد الأخرى، والقضاء عليهم جميعاً. أودجين هي الركيزة... بتدميرها، نمحو المنظمتين معاً.»
ابتسم جاك بسخرية قاتلة، كمن يرى ولادة كيان جديد من رحم الفوضى:
«وبذلك، نبني منظمتنا الجديدة... لكنني أشك أننا اتفقنا على تفاصيلها بعد.»
ضحك أكاي ضحكة مظلمة، متوهجاً بحماسة متناقضة بين الهدوء والفوضى:
«لا زلنا نغوص في التفاصيل. قلبي يصرخ لرؤية السلام ينتشر و مساعدة الناس ، لكنه يتوق أيضاً للدمار، للسيطرة على العالم وإشاعة الرعب. عقلي يأمرني بإبادة البشرية، وقسوة وجهي تحكي قصة صراع داخلي أعمق من الحرب نفسها ، لا أدري انا أيضا لا افهم ماهو هدفي .»
أطلق جاك ضحكة مريرة، يقر بجنون رفيقه، لكنه لا يستطيع إنكار سحر أفكاره:
«لقد تأكدت الآن... أنت مجنون حقاً، مختل، لكنني اخترت الانضمام إليك، لأنني أشعر بأننا نعيش مغامرة فريدة، لن تُنسى ، افكارك دائما تدهشني .»
ابتسم أكاي بخبث، مدركاً حجم التحدي الذي أمامهما:
«تعرف أنني أريد القضاء على جميع المقاعد، وأنت أيضا منهم . أه نسيت و انا أيضا ههههههه ربما سأقتل نفسي في النهاية... (يضحك) لكنني اعشق ذلك الجزء.»
همس جاك بتعبير يختصر كل شيء:
«مجنون... مختل عقلياً...
والغرفة تستمر في احتضان أسرارها، تغرق في ظلال الدم والفوضى، حيث تتحرك العائلات كقطع شطرنج في رقعة الموت، وحيث تُصنع المآسي العظيمة بأصابع الحكمة والجنون معاً.